آخر الأخبار

عالم ما بعد كورونا














نعمه العبادي



منذ أن تجاوز العالم خطر مجموعة من الأوبئة والأمراض سواء منا خلال توفير اللقاحات التي تمثل تحصين ووقاية منها كما هو الحال في السل والكوليرا والطاعون أو من خلال القدرة على السيطرة المرض بشكل ما تقدم كما هو الحال مع الايدز والسرطان والسكري، لم يعد ضمن الأولويات الدفاعية ولا قائمة الأخطار الصاعدة اي ذكر للتحديات الصحية خصوصا في ما يسمى بالعالم الأول، وقد طغت تحديات مثل الاحتباس الحراري والإرهاب والأسلحة الجرثومية والنووية وشحة المياه واللاجئين على اثر الحروب والصراعات البينية على أولويات معظم دول العالم، وفي اللحظة التي كادت معظم المناطق أن تتشافى ولو نسبياً من تداعيات الإرهاب والجهود متوجهة لحلحلة وإنهاء صراعات مثل سوريا وليبيا واليمن وأماكن أخرى، أستفاق العالم على خبر خافت الصوت لم تكن آذان معظم دول العالم مهيئة للانشغال به، وظل في أيامه الأولى بوصفه نازلة خصت الصين وإيران إلا أن هذا الشرود والغفلة صعقها هذا الفيروس الغريب العجيب ليطيح بكل عروش التعالي والمكنة، ويجعل العالم المكتظ بالصراخ حد الضجيج صامتاً مطبق الشفاه، ساكن الحركة، تجول القطط والكلاب في كبريات شوارعه ومدنه، وتتهاوى أسواقه وبورصاته واستثماراته، وتغلق محطاته ومطاراته وموانئه وأسواقه، ويعم الهلع والخوف حداً يجعل القريب يبتعد خيفة من قريبه، وتعلن المساجد والجوامع والكنائس والمسارح والملاعب ودور الترفيه والأسواق انها لا تريد زائرا ولا مرتاداً ولسان حالها وحال الجميع يصرخ (خليك بالبيت).




كل هذا المشهد والحديث متضارب ومتواصل عن منحنيات الأزمة، فبين مستبشر يتحدث عن نزول وإمكانية لترويض هذه الجائحة وبين قلق يتحدث عن أرقام فلكية للإصابة تنتظرنا في الأيام القادمة، ومع هذا المشهد ورغم كل الحس الانساني التشاركي تجاه هذا البلاء فإنه لا مراهنة على قدرة الصمود خصوصا وان الجائحة طرحت قطاعات صحية نموذجية مثل ايطاليا وألمانيا وحتى أمريكا أرضا.



ومع أن العيون والآذان والقلوب مشدودة لذات الوباء وتداعياته إلا ان خسائر وتداعيات في كل مفاصل الحياة وفي مقدمتها الاقتصاد لا تقل خطورة ولا قدرة على الصعق، فبمجرد تسربت أخبار عن خفض الرواتب بنسبة 25٪ دخل الناس في دوامة تشابه سكرة كرونا، هذا غير ما تتحدث عنه الدول من قائمة خسائر وكلف بأرقام فلكية.


وفي ظل كل تلك المعطيات يتأثر جملة من الحقائق والمقاربات تتمثل في الآتي:

- بغض النظر عن نوع وطبيعة الأسباب التي تقف وراء انتشار الفيروس، وهل انه محض تحد صحي ام انه فعل أنساني مدبر، فإن الواقع اثبت بأن غرور كل مصادر الاستشراف وسيناريوهات المستقبل ومراكز التحضير الاستباقي قد حطها هذا الوباء أرضاً ومرغ انفوفها بالتراب، وهي تعيش هول الصدمة في ظل متغير لم يخطر على بال أحد.



- إن القطيعة مع الله والسماء التي تم التنظير لها معرفياً عبر مقولات الإنسان سيد الكون ومركزه وموت الإله، والتي اشتغلت على تعميقها الممارسات العملية للأفراد والجماعات، باتت أمام اهتزاز عميق أيقظ كل السبات المطبق من عقود، وأجبر الكثير على إعلان اليأس والحيرة والعجز لجهة الأسباب المادية، فهل أصبح العالم مهيئاً لإدخال السماء متغيراً رئيساً وحاكماً لا بد من رعايته والعمل بموجبه وعلى اساسه، وهل يتحرك من قلب هذه الأزمة خط فكري ومعرفي وثقافي تصحيحي يطرح معادلة جديدة لعقلنة العالم؟



- ان نحو من تحد مختلف يتعلق بالقدرات الصحية والأساليب الوقائية والعلاجية فرضه كرونا المستجد والذي تطلب ان يعيد العالم سلم تصنيفه للقدرات الصحية وقدرات الدول عموماً على مواجهة الأزمة، وهو امر لا تستثنى منه دولة من الدول، بل الكل ملزم بقراءة جديدة وفهم مختلف لقدرات الدولة في مواجهة الإخطار والأزمات.


- دعى الأمين العام للأمم المتحدة الى وقف فوري وشامل لإطلاق النار في جميع أنحاء العالم، وهي دعوة ايجابية لكنها لم تكشف عن المستلزمات الضرورية لضمان نجاحها خصوصاً وان عالم ما يسمون أنفسهم بالكبار لا يزالون غير منخرطين حقيقة في هذه الدعوة، وفي هذا السياق هناك تساؤل يمسك بطرفي فرضيتين في أقصى التضاد يتمحور حول، هل أن كرونا على سوءه مادة لاصقة مناسبة يمكن ان ترمم تكسرات وتشققات عالمنا المتصارع والمتنابذ والمنخرط في دوامة تغالب بحيث تكون صوت العقل الذي يصيح في رؤوس كل النفوس الجامحة ويعيدها الى رشدها وبالتالي يحيلنا الى صيغة تقارب يمكنها ان تختصر ماراثونات التفاوض بين اكثر من طرف وتكون بمثابة قدر جمعي لازم الاستجابة، أو انه على العكس من ذلك سيكون بفعله الشديد لتأزيم الموارد والقدرات ولتداخله مع حزم الصراعات الجارية، مصدراً لتباعد اكثر وانانية اشد وتغالب، وسوف يكون طب الحرب هو الحاكم داخل الحدود المحلية وخارجها، وهل ان هناك جهد حقيقي يرصد ويتلمس هذه المسارات ويشتغل عليها في اطار مسؤولية كونية لمواجهة خطر عالمي؟



-    محلياً اعتقد ان كرونا العراقي لا يزال لم يدخل محدد مصيري بل محدد مهم في عقلية وحساب الطبقة السياسية المنخرطة في لعبة الحكم والسلطة، كما ان نحو من التوظيف والاستثمار للمع والضد بشكل غير اخلاقي ولا وطني يجري التلاعب به من خلال (محنة الفيروس) ليس بحثاً عن منافذ من نفق الأزمة بل لضمان مكاسب اكبر ضمن أحجية (من يغلب؟).



أتمنى ان تكون هذه الاثارات العالمية والمحلية مفتاحاً لنتاج نظري وعملي يكون مستجيباً بايجابية لمتطلبات عالم ما بعد كرونا.

إرسال تعليق

0 تعليقات