الزيارة ( زيارة السيدة
العجوز)
محمد جابر
سؤال إلي كل من يقرأ هذا
الكلام:
- هل زارتك السيدة العجوز
مؤخراً بمدينتك؟
أرجوك...لا تتسرع في الإجابة. انتظر
حتى تنتهي من قراءة السطور الآتية, و سأطرح عليك نفس السؤال مرة أخري لتجيب عليه
في التعليقات.
الزمان: أحد أيام عام 1956.
المكان: قرية جولين Güllen
. بسويسرا.
الحدث: زيارة السيدة العجوز.
المشهد الأول:
سكان مدينة جولين الفقيرة
ينتظرون على محطة القطار وصول الزائرة المليارديرة...التي ولدت و عاشت طفولتها و
شبابها بالمدينة ثم إختفت فجأة في ظروف غامضة غير معلومة لدى أي شخص من سكان
المدينة سوى شخص واحد. و لكنها تعود اليوم.
الزائرة الفاحشة الثراء, كانت
قد أرسلت برقية إلي عمدة المدينة قبل أيام من ميعاد وصولها و وعدته بمنح بلدية
المدينة مبلغ ضخم على سبيل التبرع لإصلاح شوارع المدينة الخربة و إعادة تطويرها و
فتح ما تم غلقه من شركات و مصانع أفلست و محال تجارية فرغت أرففها من البضائع..عدا
محل واحد.
عمدة المدينة يصرّ على إصطحاب
صاحب المحل الوحيد الصامد أمام الإفلاس. هو ألفريد إل. ذلك الشخص السمج البدين
الذي يبغضه العمدة و لكنه مضطر أن يصطحبه معه لإستقبال السيدة الثرية...فالعمدة
يعلم أن ألفريد إل كان على علاقة عاطفية بتلك السيدة في سنوات الشباب و يستطيع أن
يقنعها بالإسراع في منح المدينة التبرع الضخم حتي يتم إنقاذها من الإفلاس و الخراب
التام.
و بالفعل يذهب ألفريد إل بصحبة
العمدة و يبدأ في مغازلة الزائرة العائدة بعد أربعين سنة من الغياب عن
المدينة...بالرغم من تخطيها سن الستين و بالرغم من وزنها الزائد الملحوظ. و السيدة
ترد على غزل ألفريد بطريقة غريبة, فكلما أضاف من كلمات الغزل, كلما سارعت بتوجيه
إنتباهه إلي رجلها الصناعية و يدها التي قطعت و قامت بتركيب يد خشبية مكانها.
بعد الوصول إلي الفندق. تقوم
السيدة الثرية التي تدعي كلير زكاناسيان بالإنضمام إلي جموع أهل المدينة الذين
أتوا كي يرحبوا بعودتها لمدينتها الأم, آملين أن تهبهم التبرع المالي الذي وعدت به
لإنقاذهم من الفاقة.
يتقدم حاجب السيدة زكاناسيان و
يعلن أن سيدته قررت أن تتبرع للمدينة بمبلغ و قدره مليار فرنك. نصفه لإدارة
المدينة و النصف الآخر يتم توزيعه بالتساوي و العدل على سكان المدينة. تنطلق صيحات
الفرحة و السعادة في المكان و يقفز الناس في الهواء عالياً من فرط البهجة...و لكن
مهلاً....حاجب السيدة و خادمها لم يكد ينهي تصريحات سيدته:
الحاجب الذي كان يوماً ما يشغل
منصب قاضى المدينة, يعمل الآن خادماً تحت إمرة السيدة زكاناسيان. و هو نفس القاضى
الذي حكم ضدها في قضية " نسب طفل " كانت قد أنجبته نتيجة علاقة غير
شرعية مع ألفريد إل ...صاحب المحل الذي كان يغازلها عند وصولها. فهو عشيقها القديم
الذي أحبته و أنجبت منه طفلها الذي رفض القاضى دعوتها ضده.
و لكن كيف يتحول قاضى المدينة
و هو لورد أرستقراطي , إلي مجرد خادم لدي هذه السيدة التي غادرت المدينة و العار و
الذل معها ؟
كيف نجحت السيدة كلير
زكاناسيان من تحويل اللورد القاضى إلي خادم مخصى يتحرك رهن إشارة من إصبعها؟ و
ماذا حدث بعد أن قام عشيقها القديم بالزج بشهود زور أمام القاضى هذا الذي صدقهم و
قام برفض نسب الطفل لتتحول كلير إلي شخصية منبوذة بالمدينة و تهرب ليلاً إلي مدينة
هامبورج الألمانية...بينما يقوم ألفريد إل الذي غرر بها, بالزواج من ماتيلدا التي
تملك المحل التجاري, الذي يملكه هو الآن.
كلير زكاناسيان التي هربت إلي
هامبورج قبل أربعين سنة و هي تحمل طفلها الغير شرعي من ألفريد إل, وضعت شرط واحد
فقط على أهل المدينة أن ينفذوه كي تعطيهم مبلغ المليار فرنك. الشرط الذي أعلنه
حاجبها هو أن:
" يقوم أهل المدينة بقتل
ألفريد إل أولاً حتى يتمكنوا من تلقى التبرع الملياري الذي وعدتهم به "
العمدة يمتعض من الشرط و تعلو
صيحات الإستهجان و الرفض من الحاضرين. و لكن صاحبة المليارات ترد في هدوء:
" سأنتظر ردكم ".
المشهد الثاني:
الوقت يمر...و ألفريد إل يصل
إلي قمة التوتر و القلق من رد فعل أهل المدينة. خاصة بعد أن لاحظ أنهم يقومون
بشراء سلع باهظة الثمن من محله التجاري بالآجل. لماذا يقومون بشراء البضائع
الثمينة و هم لا يملكون المال؟ من الذي وعدهم بالمال الوفير؟
ألفريد إل يذهب لزيارة العمدة
و مأمور الشرطة لينقل لهما قلقه و أسباب توتره من نوايا أهل المدينة. فيفاجأ أنهما
قد إشتريا بالآجل أيضاً و لا يهتمان بما يقلقه. يسارع ألفريد إل بالذهاب إلي قس
المدينة بحثاً عن العون الذي فقده في كل أرجاء المدينة. القس يحاول أن يهدأ من روع
ألفريد إل الذي لا يبدو عليه أي إستعداد للهدوء..فيعترف له القس أن هناك من قام
بشراء ذمم أهل المدينة بالمال الوفير حتي لا يحكموا عقولهم و ضمائرهم و يقوموا
بقتله من أجل الحصول على المنحة المليارية المقدمة من السيدة كلير زكاناسيان....ثم
ينصحه القس بالهرب من المدينة فوراً.
و بالفعل , لا يتردد ألفريد إل
, و يركض إلي محطة القطار كي يهرب من الموت الذي أصبح ينتظره داخل كل منزل بمدينة
جولين. و لكنه يفاجأ بأن جميع أهالي المدينة متواجدين على محطة القطار! فيصاب
بنوبه من الفزع, و يقول للجميع أنه أتى لمحطة القطار لأنه قرر الهجرة إلي
أستراليا. و لكن أهل المدينة يؤكدون له أنه ليس بحاجة للخوف من إستكمال حياته
وسطهم بمدينة جولين..مدينته. فيزداد رعب و توتر ألفريد إل من كلام أهل المدينة
المخادع, و يسقط على ركبتيه راكعا و هو يصرخ: " إني ضائع ".
المشهد الثالث:
بينما يظن البعض أن كلير
زكاناسيان تقوم بحيلة كي تتزوج من عشيقها القديم ألفريد إل, تقوم بعقد قرانها
بكاتدرائية المدينة على أحد الأشخاص الذي كان قد حضر إلي المدينة معها. و يذهب إلي
الكاتدرائية الطبيب و ناظر المدرسة كي يحاولا أن يقنعا السيدة الثرية أن تتخلى عن
شرطها المرعب و أن تساعد المدينة و أهلها عن طيب قلب و خاطر بدلاً من الفتنة التي
إنتشرت بين الناس...و يوجها عنايتها إلي أن أهل المدينة غارقون في الديون منذ
عودتها فضلاً على إفلاس المحال التجارية و الشركات منذ عدة أشهر قبل قدومها.
السيدة كلير تصرّ على شرطها
بقتل ألفريد إل بأيدى أهل المدينة حتى تعطيهم المليار فرنك. و تذكر للطبيب و لناظر
المدرسة أنها هي من يقف خلف إفلاس المحال و الشركات بالمدينة لأنها أرسلت قبل
قدومها من يشترى الأعمال التجارية و الشركات و المصانع بالمدينة و يقوم بغلقها حتي
يحل الفقر و العوز على أهل المدينة و يكونوا في أشد الحاجة للمال و البضائع عند
قدومها.
و هناك...في المنزل القابع فوق
المحل التجاري المملوك لألفريد إل, الرجل لا يهدأ و يصول و يجول من الرعب. فهو
ينتظر الموت بأيدي أهل المدينة في أية لحظة. أهل المدينة الغارقيين في الديون و
مازالوا يشترون البضائع الثمينة بالآجل, على وعد تلقى المليار فرنك من السيدة
المتبرعة.
جموع الناس تظهر في الأفق
يتقدمهم ناظر المدرسة الذي كان صوت العقل الوحيد هو و الطبيب. و لكن عندما يقترب
الناس, يفاجأ ألفريد إل أن الناظر في حالة سكر شديدة. الرجل يهذى أمام الصحافة
بتفاصيل المنحة و أهل المدينة يحاولون إسكاته. الناظر الواقع تحت تأثير الخمر يعلن
لألفريد أنه إنضم إلي جموع أهل المدينة و أنه حريص على موته مثلهم. و لكنه يضيف
أنه لابد من عقد محاكمة عادلة لألفريد إل , يحضرها الجميع. الكل يذهب إلي المحكمة
و يشهد إما مع أو ضد إنهاء حياة ألفريد إل.
جلسة المحكمة الهزلية تعقد...و
الأنوار الخافتة بالقاعة تصيب ألفريد إل بالهلع و قرب النهاية. يتهور أحد سكان
المدينة و ينقض على ألفريد و يقتله....و تتجمهر الصحافة على المحكمة لمعرفة ماذا
يحدث. فيخرج الطبيب على الملأ و يعلن أن ألفريد إل مات بسبب أزمة قلبية....و لكن
الصحافة تعلن أن سبب وفاة ألفريد إل هو " السعادة المفرطة " . !!
السيدة زكاناسيان.....السيدة
العجوز...تذهب إلي حيث جثة ألفريد إل و تتأكد من وفاته. ثم تقوم بإخراج شيك بمبلغ
مليار فرنك و تعطيه لعمدة المدينة و تأمر بوضعه في التابوت الذي كانت قد أحضرته
معها, كى ترحل و معها جثة ألفريد إل.
كان هذا ملخص لقصة "
زيارة السيدة العجوز Der Besuch der alten Dame " للكاتب السويسري فريدريش
دورينمات و التي تم تجسيدها في مسرحيات عديدة بمسارح العالم...منذ الخمسينيات و
هذه القصة تُدرس و تُقرأ ..و لم أجد ناقد واحد يجرؤ على تحليل تفاصيلها كما ينبغي.
فالجميع يراوغ و يتفلسف ...خاصة اليهود. فالكاتب دورينمات المتوفي في 1990 , يحتفى
به بإسرائيل. و أغلب الظن أن هؤلاء الحمقى لم يفهموا ما يقصده الكاتب ....و يحتفون
بالكاتب دورينمات دون أن يفهموا مغزى قصته و قاموا بالتركيز على كتاباته وقصصه
التي حاول فيها التقريب بين المسلمين و اليهود في محاولة منه لتخفيف حدة الخلافات
و النزعات التي نتجت جراء إحتلال فلسطين و تكوين دولة على أراضي العرب تدعى
إسرائيل. دورينمات كان يحاول توظيف الآداب لحل النزاعات بين الشعوب.و لكن, ما هو
مغزى هذه القصة؟
0. من الذي يقوم بإرسال عملاؤه
لشراء الشركات و المحال التجارية ثم إغلاقها و التسبب في الكساد الاقتصادي للبلاد؟
1. من الذي يستخدم الربا و
الديون لإذلال الناس و إجبارهم على تنفيذ مخططاته الدموية؟
من الذي يسيطر على الدعارة
العالمية و يحقق منها مكاسب ملياريه؟ فالسيدة كلير زكاناسيان عملت بالدعارة في
هامبورج, و من خلال مهنتها التي ارتضتها لنفسها قابلت أحد أساطين البترول الأرمن
زكاناسيان و تزوجها و أعطاها اسمه.
2. من الذي يقوم بتغيير اسمه
ليتناسب مع البلاد التي يعيش فيها و يتغلغل وسط أهلها بالرشاوى و الأعمال الغير
قانونية..كي يجمع الأموال...ثم يحكم قبضة سيطرته عليهم؟
3. من الذي يسيطر على الجهاز
القضائي و المحاماة بالولايات المتحدة و بأوروبا ...و القضاء لا يستطيع المساس
به..فهو و قبيلته فوق القوانين بل هم من يصنع القوانين. في القصة: كلير زكاناسيان
تقوم بتحويل اللورد قاضى المدينة من قاض محترم إلي خادم مخصى لها...خادم ذليل
يتبعها و ينطق بالنيابة عنها أمام الناس و يعلن شروطها الانتقامية الدموية على
الملأ..نفس اللسان الذي كان ينطق بالأحكام على منصة القضاء, يصير خادم ذليل يجأر
بالتحريض على القتل و الفتن بين الناس!
.
.
4. من الذي يسيطر على الصحافة؟
فالصحافة في القصة تعلم أن أحد سكان المدينة قام بقتل ألفريد إل..و لكنها تنشر أنه
مات من السعادة المفرطة.
5. من الذي يسيطر على مجال
الطب بالولايات المتحدة و أوروبا؟ فالطبيب في القصة يعلن أن سبب وفاة ألفريد إل هو
الأزمة القلبية و ليس أنه قُتل بيد متهور من سكان المدينة.
6. من الذي يحقق مآربه الشريرة
بالخمر؟ فناظر المدرسة الذي كان صوت العقل, شرب الخمر حتى الثمالة, و قاد جموع
الناس إلي منزل ألفريد إل و أعلن أنه انضم إليهم و سيكون حريص على قتله مثلهم.
7. من الذي يستخدم سلاح المال
ليغرى الجميع...بعد أن تسبب في إفقارهم...المال الذي قلب المدينة رأساً على
عقب..المال الذي جعل الكل يتحول إلي مشروع قاتل.
8. و في النهاية تقول كلير
زكاناسيان التي يتضح لنا أنها لا تنتقم من مدينة جولين الصغيرة فحسب..و لكنها
تنتقم من العالم أجمع فتقول:
" هذا العالم جعلني عاهرة
لذلك قررت أن أجعله بيت دعارة كبير ".
9. إذا..السيدة العجوز بالقصة
تمثل أُمّة كاملة من البشر و ليس فقط نفسها. هناك إسقاط واضح جداً عليها و أنها
تمثل نوع من البشر يحقد و يتآمر على باقي البشر. الأمر يتخطى الانتقام من عشيق
قديم غرر بها و تركها. السيدة العجوز تنتقم من العالم أجمع و تتسبب في الفتن و
الخراب و الفقر ..بل هي تبيت النوايا الشريرة ..لأنها أتت إلي جولين تحمل تابوت.
لم يفكر شخص واحد في المدينة في سبب عودة السيدة العجوز ذات الرجل و اليد
الصناعية. فالجميع سقط في الفتنة و الديون الربوية و أصبح على استعداد أن يقتل شخص
آخر من أجل الحصول على المال دون أدنى عناء منه.
10. و الآن..و قد علمت الفتن و
النوايا الشريرة التي تضمرها تلك السيدة العجوز التي تسببت في إشعال الحروب و
القتل بين الناس بسبب ترويج أفكار مسمومة و دعاوى خربة. السيدة العجوز التي ترسل
خدمها قبلها لتخريب الاقتصاد و إفلاس الناس لسهولة إخضاعهم....ثم توجيههم ضد
أنفسهم.
....أسألك مرة أخرى:
. هل زارتك السيدة العجوز
مؤخراً بمدينتك؟
0 تعليقات