واشنطن ردت بالترهيب والترغيب، تارةً بعقوبات اقتصادية جعلت أردوغان لا ينام، ثم حاولت التقارب “البخيل” فعقدت صفقة “منبج” وسيّرت دوريات مشتركة. اضطراب الاقتصاد التركي أجبرها على إطلاق سراح القس الأميركي، والتقى أردوغان بترامب في قمة العشرين، وجاءت قصة “الخاشقجي” المدبرة، طوق نجاة، فزارت جينا هاستل أنقرة للتباحث…
تحسّنت العلاقات “ظاهرياً” بشكل بسيط، لكنّ الولايات المتحدة عادت لزيادة شحنات الأسلحة للانفصاليين الأكراد، ليجد أردوغان نفسهُ وبضغط داخلي كبير، أمام معركة لابد منها… فأطلق تهديداتِه بعملية عسكرية كبيرة. فهل يتجرأ على فعلها دون إذن واشنطن؟
هل سيُحارب أردوغان الأكراد في سوريا؟
لن يتعلم الانفصاليون ولو سقطوا في الحفرة مئات المرات.
ما قامت وتقوم به واشنطن بدعمها للانفصاليين الأكراد، يُشكل خطراً على الأمن القومي التركي، وطبعاً السوري والعراقي والإيراني. ولو كان بإمكان أنقرة التصرّف باستقلالية والدفاع عن أمنها القومي، لما انتظرت كلّ هذه الفترة…
الخبير بالاقتصاد يعلم أنّ الولايات المتحدة إن أرادت سحق الاقتصاد التركي، يمكنها فعل ذلك خلال ساعات… لكنها تقوم بوخز أنقرة كلّ فترة كي لا تتجاوز حدودها. لهذا نؤكدُ من مركز فيريل أنّ أية خطوة تقوم بها أنقرة، يجب أن يُقابلها ضوء أخضر من واشنطن، وفي حال غامر أردوغان وشن حربه ضد الأكراد، فستكون نتيجة توافق بين واشنطن وأنقرة… والأوامر الأميركية لأردوغان “اقتل بعضَ الأكراد لكن لاتبالغ”.
واشنطن لأنقرة: “اقصفي الأكراد لكن لا تبالغي”
تركيا طفلٌ مدلل، لكن ضمن قفص. في أية لحظة يتلقى الصفعات من حيثُ لا يدري.
أردوغان “المدلل” لدى روسيا، تركتهُ يقطعُ الممر الكردي الذي يمثل خطراً كبيراً على دمشق وأنقرة وحتى موسكو، فجرت عملية عسكرية تركية من جرابلس حتى الباب، ليتم بعدها حصار عفرين.
طلبت دمشقُ من الأكراد آنذاك إعادة عفرين للحضن السوري بدخول الجيش وتجنيب المدينة احتلالاً جديداً… رفض الأكراد نتيجة الضغوط الأمريكية وسلموها لتركيا… نعم، سلّم الانفصاليون الأكراد عفرين لتركيا…
واشنطن تسمح لتركيا بقصف الأكراد
نقاط هامة نوردها لكم:
حالياً… ومع التخلّص “الظاهري” من داعش شرقي الفرات بانتقال هجين والباغوز من احتلال إلى احتلال، ونقل قيادات التنظيم الإرهابي وتوزيعها على عدة دول حول العالم، بدأت أوراق ميليشيات قسد تسقط في واشنطن، وانتهى عمل “كلب الصيد“ ولابد من “كلب صيد جديد”… رغم ذلك فالسماح لتركيا بالتوغل لمسافة بعمق 30 كلم، مازال قيد التباحث ولم يصدر الضوء الأخضر بعد… التوغل في الرقة، وهو حل وسط يُرضي القوميين الأتراك ويُعزّزُ قطعهم للممر الكردي، وبنفس الوقت تتراجعُ الميليشيات الانفصالية جنوباً وشرقاً ويبدأ القسم العملي من “الانفصال” عن الجسد السوري.
تركيا “الراعي الرسمي للتنظيمات الإرهابية في سوريا”، باحتلالها الأراضي السورية بشريط حدودي متباين الاتساع وتوطين الإرهابيين التابعين لها هناك، بغطاء عسكري مباشر، هو أفضل ما تريدهُ واشنطن لإشغال دمشق وموسكو وطهران وخلط الأوراق. فتستمرُ الحرب في سوريا إلى أمد غير محدّد.
إرضاءُ أنقرة سيبعدها عن موسكو، خاصة بعد التصريح الأخير لروسيا بأنّ اتفاق إدلب لا يسير بشكل جيد، وهو يؤكدُ وجود خلاف معها.
مع سيطرة كاملة للانفصاليين على شرقي الفرات، ستبدأ سرقة الغاز والبترول السوري بشكل علني من قبل الشركات الأميركية، وبأيدٍ سورية كما ستقول واشنطن إن سُئلتْ. التصدير سيمر عبر تركيا، والجميع يجني الأرباح باستثناء صاحب الأرض!.
بانجاز كل ما ورد، سيتعقّدُ الوضع العسكري في الشمال أكثر، وتصبح هناك ثلاث قوى شبه متحالفة ضد الجيش السوري، الناتو متمثل بتركيا والولايات المتحدة وفرنسا، جيش من الانفصاليين الأكراد، وجيشٌ من الإرهابيين…
مصير الرقة ودير الزور!
الرقة ذات أغلبية عربية ساحقة، لا توجد فيها بيئة حاضنة للانفصاليين، لهذا بقاؤهم فيها لا جدوى منه، وتسليم المدينة وجزء واسع من ريفها للإرهابيين المدعومين من تركيا، وفق اتفاق بين المحتلين، نراهُ في مركز فيريل أمراً متوقعاً…
الجيش السوري متواجد جنوب الفرات وغربه، في ديرالزور وريف الرقة الجنوبي، مع حضور روسي وقوات إيرانية. أي أنّ الأتراك لن يستطيعوا التمدد بعيداً في محافظتي الرقة وديرالزور.
دون شك هناك بيئة حاضنة للإرهاب وللتنظيمات المدعومة من تركيا، لكن بالمقابل توجدُ نسبة جيدة من الوطنيين في المحافظتين. فتحرير الجيش السوري للمناطق من داعش كان خلال فترة زمنية قياسية، مقارنة بمحافظات أخرى بسبب اشتراك فعّال للدفاع الوطني من أبناء العشائر.
هامش المناورة السورية
الأمر يزداد تعقيداً وصعوبة في الشمال والجزيرة السورية، لكن هذا لا يعني أنّه سيكون لصالح أعداء دمشق. الولايات المتحدة ستحاول زيادة التقارب بين تركيا والانفصاليين، بعد تأديبهم من قبل الجيش التركي واقتسام المناطق… لكن سيبقى الأكراد والأتراك ومن معهم من تنظيمات إرهابية، أعداء… هنا يتم استغلال الوضع بزيادة العداء الذي يجب ألا يهدأ دون تدخل مباشر من دمشق…
وحدات حماية الشعب الانفصالية، دعت مراتٍ الحكومة السورية إلى حماية حدود سوريا وأرضها، مؤكدة استعدادها للعمل عسكرياً مع دمشق “لصد تركيا”! هذا تصريحٌ له عدة جوانب يجب الانتباه من خباياه، مع تصريح بارزاني الذي جاء ببداية المقال…
عندما يجد الانفصاليون أنفسهم ضعفاء لمواجهة تركيا، يتوسلون على أبواب دمشق، وعندما لا تهدد أنقرة يصبحون أسوداً ويطالبون بالانفصال.
الاحتمال الآخر الأخطر؛ أن تكون واشنطن طلبت منهم ومن برازاني هذا لزج الجيش السوري في مواجهة مع الجيش التركي وإرهابييه.
بجميع الأحوال؛ أردوغان معروف بأنه ثرثار يتكلم كثيراً ويهدد أكثر ويفعلُ قليلاً، ولكن على فرض أنّهُ نفّذَ تهديدهُ، لا نتوقع أن يغامر بعيداً ويدخل المدن الرئيسية كالقامشلي أو الدرباسية أو عامودا أو المالكية…
التوقعات القريبة في الشمال والجزيرة السورية
احتمال الدخول التركي مازال قائماً، ومدينة رأس العين في محافظة الحسكة والقريبة من الرقة، ستكون الهدف الأول للجيش التركي وإرهابييه، فهي بعيدةٌ عن القواعد الأمريكية والجيش السوري، وأغلب سكان المنطقة من العرب وفيها بيئة حاضنة للمعارضة، بالإضافة لكونها تلاصق الحدود.
كما حدث في عفرين عندما باعها الانفصاليون الأكراد، بعد أن رسموا “بطولات ورقية”، سيتم بيع رأس العين.
أردوغان، إن فعلها والاحتمالات تضعف، لن يمضي بعيداً في محافظة الحسكة كونها معقل الأكراد، وتتصل مباشرة بشمال العراق، لكنه سيرسل طائراته لقصف بعض المواقع الكردية هناك، كما يفعل حالياً في سنجار وقره جاق شمال العراق.
خطوط حمراء رسمتها له واشنطن لا يمكنه تجاوزها، فقوات الاحتلال الأمريكي في الحسكة، تتواجد بمواقع معظمها بعيد عن الحدود، باستثناء نقاط المراقبة التي يمكن أن تسحب منها جنودها فوراً حسب الاتفاق.
ماذا عن القامشلي؟
منطقة القامشلي ستكون خطاً أحمر بفضل تواجد الجيش السوري والأجهزة الامنية والدفاع الوطني في مربعين أمنيين بالقامشلي والحسكة، مع وجود مطار القامشلي الاستراتيجي، وعشائر محافظة الحسكة معروفة بولائها للجيش السوري، لكن الظروف العسكرية الميدانية والتي فرضتها المصالح السياسية، دفعتهم للالتحاق بقسد لحماية نفسهم من داعش، وبوضوح أكثر؛ الحالة المعيشية المتردية نتيجة الحرب جعلتهم يبحثون عن أي راتب يسد رمقهم.
المواجهة العسكرية بين الأكراد والأتراك “مبدئياً” في صالح دمشق، ويجب استثمارها بناء على المستجدات الميدانية… حتى تصل الأمور بواشنطن للتخلي عن دعم المشروع الانفصالي. لتبدأ لاحقاً مقاومة شعبية ضد الاحتلال الأمريكي والتركي من كافة مكونات الجزيرة السورية.
نجدة الانفصاليين تحمل مخاطر عديدة، فأيّ نصر يتحقق سينسب لهم، بينما الخسارة ستكون بسبب الجيش السوري، ومشروعهم الانفصالي لن يتخلوا عنه إلا إذا عرفوا حجمهم، لكنهم لا ينظرون في المرآة… على دمشق شراء مرآة للانفصاليين…
ملف إدلب
إدلب وأرياف: حماة الشمالية وحلب الغربية واللاذقية الشمالية الشرقية، يجب أن تكون على طاولة التفاهمات بناءاً على الوضع الجديد. الوضع على الأرض سيُغيّرُ قوة المتحاورين، فعندما تنتصرُ تركيا، ستتصلّبُ في إدلب، والعكس صحيح. مواجهة المحتل التركي من قبل كافة مكونات الجزيرة السورية، ستنسفُ المشروع الانفصالي ومشروع أردوغان أيضاً، بالإضافة لظهور عامل آخر جديد لصالح دمشق، وهو تشكيل محور إقليمي “خجول” مصري إماراتي سعودي ضد تحركات تركيا الأخوانية. بهذا تضمن دمشق انكفاء الخليج عن دعم الإرهابيين، واستخدام أتباعها ضد تركيا.
ما يحدث من عمليات قصف حالية لمواقع الإرهابيين، يقوم بها الجيش السوري، بمشاركة “شكلية” لروسيا، هي أكثر من عمليات محدودة وأقل من معركة شاملة. معركة تحرير إدلب مؤجلة حتى إشعار آخر.
دمشق كما نراها، تتبنى سياسة النفس الطويل في مواجهة الأطماع التركية، والعمل بصمت دون ضوضاء. إجهاض مشروع الإخوان هدفها، وضرب الظالمين بالظالمين غايتها. هي تنسج بهدوء دون تصريحاتٍ كل دقيقة كما يفعل أردوغان.
عمليات قصف الطيران الأميركي لبعض الإرهابيين التابعين لأردوغان، هو عمل استعراضي ليس أكثر، حيث يتم نقل الكثير منهم نحو العراق أو جهات أخرى للإبقاء على بؤرة دائمة تظهرُ عند الحاجة لها.
موسكو وطهران؟
لم يصدر منهما موقف صريح، وهذا أمرٌ غير مريح، على اختلاف قوة التأييد أو الرفض للخطوات التركية، وهنا نُكرر؛ مبدئياً…
موسكو ليست مستعجلة على تحرير إدلب، ومصالحها أولاً وثانياً..
الوقائع على الأرض تتغير بين يوم وآخر، والموقف السوري سيكون تبعاً للتغيّرات والتعقيدات الجديدة، لكن الهدف النهائي سيكون: تحرير كامل تراب سوريا من المحتلين والانفصاليين والإرهابيين… سواء رضي “الحلفاء” أم عارضوا… هامش المناورة لدى سوريا مازال جيّد الاتساع وما يزال قدرة الجيش العربي السوري فاعلة على الأرض السورية .
0 تعليقات