يا خازن الدمع...ها قد جاء موعده
الأديب عمر الجاح موسى
وزير الإرشاد القومي ا
بجمهورية السودان الديمقراطية
صحيفة الأهرام
2 أكتوبر 1970
نزلنا القاهرة التي قال عنها ابن
خلدون : (مدينة المدن، وحاضرة الدنيا، وتاج البرية ).
القاهرة التي جعل منها
عبدالناصر، مدينة مبادئ، وكعبة أحرار، ومزار ثوار، ولقيتنا في جفاء مثلما تلقى
الغريب، وهي كانت الفاتحة صدرها أبداً للقريب .
القاهرة ليس لها طعم ولا مذاق،
ولا نكهة، أم الدنيا، فقدت جمالها، بفقدها لجمالها.
ونزلنا، ولم نر _ فقد حجب
الدمع الرؤيا، ولكننا سمعنا، اختلاط الشهيق، بالنحيب بالوجيب، كيف لا ؟! ، وقد
انكفأ، دن السرور، دخلنا مشارف القاهرة، قفراء صامتة، حزينة تسربلت بالوحشة،
وتوشحت بالكآبة، وتكفنت بالسكون، يا للزمان الساحر الساخر !! أقحل نضارها، وأجدب
بهاءها، أقفر أنسها، ورنّق صفوها، القاهرة ثكلى...تبكي وتشكو، وتندب وتردد _ لا
عطر بعد عروس .
وتساوقت أمام خاطري قوافل من
الذكريات .
إعلان الحكم الجمهوري _ تأميم
القنال _ السد العالي _ الجلاء _حلف بغداد_ عبدالحكيم _ الإصلاح الزراعي _ ثورات
العراق _ سوريا _ السودان _ اليمن _ الجزائر _ ليبيا_ القضية الفلسطينية _ العدوان
الثلاثي _ واستذكرت جملاً شتى سيظل أبداً عبيرها يعبق وشذاها يفوح، هذا عنقود منها
_ما أخد بالقوة لا يسترد إلا بالقوة _ يجب أن نبني لنعوض الماضي، ونبني لنواجه
الحاضر، ونبني لا لنلحق بالمستقبل، ولكن لكي نسبق المستقبل _الوفاء يملأ قلوبنا
لمن ساعدونا، ولا حقد على من حاربونا .
وجاء يوم الحشر .
ويبدأ الموكب الرسمي، ولثوان
معدودات _ثم إنهارت ، جميع المراسم التي أعدت، لقد بدأ الشعب ينفذ برنامجه هو
_الشعب الذي أحب عبدالناصر، وأحبه عبدالناصر، حمل هو آلامه وآماله، فلماذا لا يحمل
هو نعشه ؟! وتداخلت الجموع المعولة الباكية، وسقطت الحواجز والفواصل .
لقد أحب الناس ( جمال ) أحبوه
بهراً، عدد الرمال والحصى والتراب، وجاءوا يشيعونه بهراً عدد الرمال و الحصى و
التراب، ولقد كان بين كل باك وباك باك، وبين كل ثاكلة وثاكلة ثاكلة، بكوه بكاء
مراً حزيناً صادقاً _يا للوعة !! الأبكم في ذلك اليوم... ليس له إلا الدمع يرسله
مدراراً _بكوه كلهم، وجمت جميع الأعين .
بكنه بنات مصر، حفاة الأقدام،
عراة الرؤوس أين المثّالون ؟! هذه عيون ضاقت مطاميرها، فانسربت ضفائر الدمع، على
جدائل الضفائر، وبللت الصدور . وتلك عيون أخرى _ما سجدت أهدابها الا توضأت بالدمع.
وسرنا مع الجموع الزاحفة، نقطر بقياد الموكب، ونسترق السمع... كلمات الرثاء
البسيطة كانت رائعة، حتي جمل الرثاء، التي كفرت بالقضاء، والقدر ثم استغفرت _فقد
كانت معبرة _هل اقيسة الحلال والحرام العادية، تلبس في مثل هذا اليوم ؟!.
امرأة عجوز تبكي وتقول : (
رايح فين يا حبيبنا يا ريس ؟! ) ووقف النعش ساعة، ولم يتحرك...واختلط الحابل بالنابل
. همس رجل بجواري وبصوت حزين : ( دا أول عمل نعمله يا ريس وأنت مش ويانا شوف
لخبطناه ازاي ؟!_ارتاح يا ريس لحسن ما نقدرش بدونك ). والدعوات نسمعها من ملايين
الحناجر _في ذمة الله اغلى حبيب..لجنّة الخلد يا جمال..دعوات صادقة، مؤمنة، تكاد
ترى صعودها الى السماء وقبولها .
وسار النعش مرة اخرى..
الأيادي جميع الأيادي، ملايين
الأيادي، تريد كلها أن تلمس النعش..تدافع الحجيج يلمس الستر، أو يستلم ركن .
أين الحاسبون؟! ..
صرخت تحسبها بنت الشرى
طلبت من مخلب الموت أباها
وكأن الناس لما نسلوا
شُعَبُ السّيل طغت في ملتقاها
وضعوا الراح على النعش كما
يلمسون الرُكن فارتدت يداها
والأمة العربية كلها كانت
هناك.. وكيف لا تجئ ؟! لقد وحد قبلتها، وألف بين قلوب أبنائها، أيقظ رواقد عزمات
منهم، ونبه روافد وثبات فيهم، وعلمهم دروساً لن تندرس، جمال.. الودود، اللطيف،
الحليم، المؤمن، يا مالك الملك، كلما زدت جمالاً ارتفاعاً كلما ازداد هو تواضعاً .
واستندت على سياج (الكبري) وأرسلت
بصري بعيداً بعيداً، وذكرت (جمال) وتذكرت : ( أنني أرى خيال الشرق يطل على العالم
من جديد والذي يحمل مشاعله نبي، عزيمة الأرض في قدميه وقوة السماء في ساعديه، وبهاء
الحق في ناظريه، ووداعة المعرفة في لسانه، وحلاوة المحبة في قلبه، وسيحمل هذا
النبي قلبه على كفه طعاماً، لكل جائع، فيأكلون منه في الغرب، ويتسممون ويتناولون
منه في الشرق فيحيون ولن يصلب ) .
نعم جاء ذلك النبي ووجد شعباً
قد أكله جوع بطنه، والبسه عرى جسده، وأطفأ جهله مصباح كل معرفة، وتركهم، ولكل منهم
علم يغنيه، ودار تؤويه، ورزق يكفيه، وفكر يبديه، ومجد يرويه .
أعطاهم، وأعطاهم، وأعطاهم، وما
عللهم أبدأ بالقدر والحصى والنار،
والسودانيون كلهم كانوا هناك
جسداً او قلباً : وكانوا أكثر الناس لوعة..فقد كنا نحبه، وكان يعلم ذلك، وكان
يحبنا، وكنا نعلم ذلك، وكان كثير العرب يعلمون ذلك، وهم لنا حاسدون .
نعم قد التقينا نحن، وشعب مصر،
وتوسدنا معاً ساعد حبيب واحد، هو النيل، يجز لنا شبعاً ورياً، يقربنا أفراحاً،
وأتراحاً ويوحدنا قدراً ومصيراً، وتعارفنا وتآلفنا نتساهم الصفاء، ونتقاسم الهناء،
نقتسم المصير عذبه وعذابه .
و وارينا الحبيب التراب ،
وعدنا .
ألف سؤال يرفرف فوق
القاهرة..وثم ماذا بعد ؟!
ويتهافت على كل سؤتل ألف جواب .
إنني أعلم بأن رئيساً سيأتي
بعده، ولكني مؤمن بأن في الخمر معنى ليس في العنب . وأعلم بأنني أظلم التاريخ
وأهجو عبدالناصر لو حاولت في هذه العجالة، أن أرثي جسده، نعم جسده، فليس للموت
سلطان على أعمال عبدالناصر، وأمجاد عبدالناصر .
وعدنا ... لن ننسى ، ولن نتأسى
، فالمصاب بقلبه لن يتأسى ولن ينسى .
0 تعليقات