آخر الأخبار

بين "طالوت" تلميذ الإمام مالك و الحكم بن هشام وجاره اليهودي!





بين "طالوت" تلميذ الإمام مالك و الحكم بن هشام وجاره اليهودي!


وأنا والله لا أدري من أي شيء أعجب !!…
من وفاء اليهودي ؟!
أم من خساسة أبي البسام ؟!
أم من إنصاف الأمير ؟!


"الحكم بن هشام بن عبد الرحمن" حفيد (الداخل) لما آلت إليه الأمور وتولى مقاليد الحكم سار بالناس أول أمره سيرة حسنة كسيرة أبيه وجده ، فلما طال به الزمان .. مال إلى الفسق والفجور ، واقترف الكبائر والمنكرات ..
وكان أبوه "هشام" رجلا صالحا يحب الفقهاء ويقربهم ويأخذ عنهم ، فأنكر الفقهاء انحرافات "الحكم" ، ورأوا بونا كبيرا بينه وبين أبيه ..
وكان في "قرطبة" آنذاك أكثر من ثلاثة آلاف فقيه .. كلهم أهل للفتوى !! فتحرك الفقهاء وأرادوا الخروج على "الحكم" بقوة السيف وتنصيب "محمد بن القاسم المرواني" أميرا على الأندلس بدلا منه ، إلا أن المرواني وشى بهم عند الأمير ..
فحصل ما حصل للفقهاء من قتل وصلب وتشريد، وشاء الله لبعضهم النجاة فهرب واستخفى !
وسوف أطلعكم على هذه القصة العجيبة لأحد العلماء "المطلوبين" لسيف السلطان ؛ وهو "طالوت بن عبدالجبار المعافري" تلميذ الإمام مالك ، وهو من الفقهاء الثائرين على "الحكم" ، إلا أن الله كتب له النجاة فهرب من بطش الأمير ، واستخفى عند جار له يهودي مدة عام كامل ، واليهودي في كل ذلك يكرمه أبلغ الكرامة ويعظمه أشد التعظيم ، فلما مضت السنة طال على "طالوت" الاختفاء ، فاستدعى اليهودي وشكره على إحسانه إليه ،
وقال له : (قد عزمت غدا على الخروج وقصد دار الوزير "أبي البسام" فقد قرأ علي ، ولي عليه حق التعليم وله جاه عند هذا الرجل فعسى أن يشفع لي عنده فيؤمنني ويدعني في بلدي).
فقال اليهودي : (يا مولاي لا تفعل .. فما آمنهم عليك) وجعل اليهودي يحلف له بكل يمين يعتقده أنه لو أقام عنده بقية عمره ما أمله ذلك ولا ثقل عليه .
فأبى "طالوت" إلا الخروج ، فخلى بينه وبين ذلك ، فخرج حتى أتى دار الوزير بغلس [آخر الليل] فاستأذن عليه ، فأذن الوزير له ، فلما دخل عليه رحب به وأدنى مجلسه وسأله أين كان في هذه المدة فقص عليه قصته مع اليهودي .
ثم قال "طالوت" للوزير : (اشفع لي عند هذا الرجل حتى يؤمنني في نفسي ويمن علي بتركي في بلدي) فوعده بذلك ، ثم خرج الوزير من فوره إلى الأمير "الحكم" ووكل بـ "طالوت" من يحرسه .
فلما دخل الوزير "أبو البسّام" على الأمير قال له : (ما رأيك في عجل سمين عاكف على مذوده منذ سنة يلذ مطعمه ؟)
فقال "الحكم" : (لحم ثقيل ، فما الخبر؟)
فقال الوزير : (هذا طالوت رأس المنافقين عندي ، قد أظفرك الله به) فقال : (قم فعجل به)
فلم يلبث أن أدخل "طالوت" على الأمير ، وكان الأمير يتوقد غيظا عليه، فلما رآه جعل يقول : (طالوت ؟؟! الحمد الله الذي أظفرني بك ، ويحك أخبرني .. لو أن أباك أو ابنك قعدا مقعدي بهذا القصر ، أكانا يزيدانك من البر والإكرام على ما فعلته أنا بك ؟ هل رددت قط حاجة لك أو لغيرك ؟ ألم أشاركك في حلوك ومرك ؟ ألم أعدك مرات في محلاتك ؟ ألم أشاركك في حزنك على زوجك ؟ ومشيت في جنازتها راجلا إلى مقبرة الربض ؟ وانصرفت معك كذلك إلى منزلك ؟ وغير شيء من التوقير فعلته بك ؟ ما حملك على ما قابلت به إجمالي ولم ترض مني إلا بخلع سلطاني، وسعي لسفك دمي، واستباحة حرمتي؟)
فقال له "طالوت" : (ما أجد لي في هذا الوقت مقالا أنجى من صدقك به .. إني أبغضتك لله وحده ، فلم ينفعك عندي ما صنعت معي لغير الله ، هي حظوظ دنياك)
فسري عن الأمير وسكن غيظه، وملىء عليه رقة ، فقال : (يا طالوت .. والله لقد أحضرتك وما في الدنيا عذاب إلا وقد عرضته .. أختار بعضه لك ، وقد حيل بيني وبينك ، فأنا أعلمك أن الذي أبغضتني له ، قد صرفني عنك ، فانصرف في أمان الله تعالى ، وانصرف حيث شئت ، وارفع إلي حاجتك ، فلن تعدم في برا ، فيا ليت الذي كان لم يكن)
فقال له "طالوت" : (صدقت ، فلو لم يكن لكان خيرا لك ، ولا مرد لأمر الله).
ثم سأل "الحكم" طالوتا : (كيف ظفر بك الوزير؟) ،
فقال : (أنا أظفرته بنفسي عن ثقة ، لصلة كانت بيني وبينه ، ليشفع لي عندك ، فكان منه ما رأيت)
فقال له : (فأين كان مثواك قبل؟) فأخبره "طالوت" بخبر اليهودي.
فأطرق الأمير مليا ، ثم رفع رأسه إلى "أبي البسام"
وقال : (سوءة لك .. حفظه يهودي من أعداء المله ، وستر عليه لمكانه من العلم والدين ، وأخطر بنفسه من أجله ، وغدرت به إذ قصدك ، وخفرت ذمته وهو من خيار أهلِ ملتك ، ،وأردت أن تزيدنا فيما نحن قائمون عليه من سوء الانتقام !! اخرج عني قبحك الله .. لا أرانا الله في القيامة وجهه إن رأينا لك وجها !!) وطرده من الوزارة وضيق أرزاقه ، ورئي الوزير "أبو البسام" بعد ذلك في فاقة وذل ، فقيل : استجيبت فيه دعوة الفقيه طالوت .
وكتب لليهودي كتابا بالجزية فيما ملك ، وزاد في إحسانه ،
وأما "طالوت" فلم يزل مبرورا عند الأمير إلى أن توفي ، فحضر "الحكم" جنازته وأثنى عليه بصدقه.
أورد هذه القصة الذهبي في السير ، والقاضي عياض في ترتيب المدارك ، والمراكشي في المعجب ، وابن سعيد في المغرب !
وأنا والله لا أدري من أي شيء أعجب !!
من وفاء اليهودي ؟!
أم من خساسة أبي البسام ؟!


إرسال تعليق

0 تعليقات