مصر التى لا نعرفها
نبيل عمر
في مكالمة تليفونية من صديق غاب أكثر من ثمانية أشهر، يعمل في منظمة دولية
ودائم السفر إلى الخارج، قال دون مقدمات ولا سلامات: نتقابل في أرض المعارض
الجديدة، تنتظرك موجة من التفاؤل عن مصر التي نهملها ولا نعرفها.
أجبته: ما أجمل التفاؤل في زمن تقل فيه الأخبار السعيدة.
وقبل أن أتحرك من مكاني بعد صلاة الجمعة، جاءني خبر أخرني عن موعدي ثلاث
ساعات بالإكراه، ولكن ساعات العرض تسمح وتزيد.
بالرغم من أن أرض المعارض الجديدة في صحراء التجمع الخامس، إلا أن زحام
السيارات كان كثيفا ومرهقا، لم استطع الدخول بسيارتي، إذ أغلق المنظمون كل
الأبواب، وقالوا إن ساحات الانتظار الداخلية ممتلئة عن آخرها، ولا يوجد خرم أبرة.
أسعدني الزحام جدا، كم جميلا أن يأتي عشرات الآلاف من المصريين لمعرض
القاهرة الدولي للابتكار.
انتظرت صديقي، الذي له حيثية تمكنه من الدخول بسيارته، بعد أن ركنت على
مسافة لا تقل عن ألف متر من أقرب بوابة، سألته: كل هذا الزحام على معرض علمي؟
ضحك بشدة: لا تفرط في التفاؤل إلى هذه الدرجة، فأغلب هؤلاء قادمون إلى معرض
الأثاث السنوي في الصالات الأخرى.
تقلصت فرحتي وإن لم تختف، فبعض هؤلاء سوف يزورون صالة الابتكار ولو من باب
الفضول.
نصف ساعة ندور بين بوابات المعرض، كل حارس على بوابة يلقى بنا إلى البوابة
التالية، وأخذنا نلف ونجرى اتصالات تليفونية، حتى وصلنا إلى مدير أمن المعرض الذي
سمح لنا بالمرور، وركنا بسهولة في إحدى الساحات.
بمجرد دخولنا إلى صالة رقم ١، لمحنا في ركن صغير شابا مصريا أمامه مجموعة
من الطوب الرمادي، موضوعة على ترابيزة ، وهو يمسك بواحدة في يده ويشرح لاثنين من
الجمهور، اقتربنا منه، كانت ثمة لوحة خلفه مكتوب عليها: جامعة الزقازيق، مكتب
الابتكار ونقل التكنولوجيا، صيحة في عالم المعمار، طوب للمباني، عازل للحرارة
والصوت، مقاوم للحريق، خفيف الوزن، شديد التماسك بالمحارة، قليل التكلفة، يوفر
نسبة ٤٠ ٪ من استهلاك الكهرباء سواء للتبريد أو التدفئة، مصنوع من مواد غير عضوية
دون أن تدخل الأفران، فلا نستهلك الوقود المستخدم في إنتاج الطوب الحالي، ولا يلوث
البيئة..المبتكر/ حمدي عبد الحميد عبد اللطيف.
تصورت أن صاحبها أستاذ جامعي، ناديته: يا دكتور، فقاطعني بسرعة وبساطة: لا..أنا
دبلوم صنايع، لكن أعمل أبحاثا في صناعة هذه الطوبة من عشرين سنة، وعندي ورشة صغيرة
أنتجه فيها، ولجأت إلى جامعة الزقازيق باحثا عن راعٍ، فقد نعثر على مستثمر يشاركنا
في بناء مصنع.
سألته: وكم يتكلف المصنع؟
توقعت أن يذكر رقما مذهلا، أقله عشرات الملايين، لكنه فاجأني بتواضع جم: مصنع
صغير لن تزيد تكاليف آلاته عن مليون جنيه، غير سعر الأرض.
نظرت إليه متعجبا: مليون جنيه فقط، هذا مبلغ ينفقه البعض في ليلة فرح بفندق
خمسة نجوم، ألا يوجد في الزقازيق مستثمر معه مليون جنيه؟
رد: وكيف أصل إليه، لهذا السبب اتجهت إلى الجامعة لعلها تساعدني، وشاركنا
في المعرض ربما يصادفنا هذا المستثمر.
يا الله..طوبة عازلة للحرارة في مجتمع تكويه الشمس الحارقة ٣٠٠ يوم على
الأقل في السنة، ويشتري أهله مليوني مكيف كل عام، لا يقل ثمنها عن عشرين مليار
جنيه، ويشكون لطوب الأرض من ارتفاع سعر الكهرباء، نهيك عن التلوث الهائل الذي
تسببه كمائن الطوب..ولا يوجد جهاز أو جهة أو مؤسسة تتبني مشروعا بهذه الإمكانات..
تركناه إلى جناح تابع لكلية الهندسة جامعة عين شمس، سيارة كهربائية، صنعها
الطلاب يدويا، لم أجد من يشرح لنا الفكرة والتكاليف.
فأخذني صديقي قائلا: يا عم تعالي نشوف الابتكارات التي قلت لك عنها.
قرأت العنوان: المانع الذكي للانفجار..فكرة واحدة يمكن أن تغير العالم.
جال في خاطري حادث القطار الذي انفجر في محطة مصر قبل شهور، وسألت الدكتور
رضا رزق المدير الفني للشركة المبتكرة، وهو واحد من فريق عمل مكون من ثمانية أعضاء
: يعني لو هذا الابتكار كنا نبطن به تنك القطار ما وقع الانفجار؟
رد بكل ثقة: مستحيل.
وراح يشرح لي خصائص المادة التي توصل إليها فريق العمل: هي عبارة عن سبيكة
معدنية فلزية ذات قدرة فائقة لمنع الانفجار داخل خزانات حقول البترول أو مشتقاته ،
منها تنكات وسائل النقل البري والبحري والجوي، ومحطات الوقود.
سألت محمد طمان احد أعضاء الفريق: هل عرضتم المادة على أي جهة في مصر؟
قال: وزارة الإنتاج الحربي، وتحدث الوزير مع هيئة البترول، ونحن بصدد تجربة
عملية قريبا.
بعدها انتقلنا إلى جناح المهندس هشام حسن التونسي، الذي أفاض في شرح فكرة
ابتكاره الرائع، وهو عبارة عن فرن طهى صحي وذكي، أو بمعنى أصح مطبخ متكامل يعمل
فيه مجموعة من أمهر الطباخين في العالم داخل عقل إلكتروني، آكلات إيطالية وإسبانية
وفرنسية وشرقية ويابانية .. الخ، مطبخ لا يعرف الطهي بالطرق الشائعة التي
اعتدناها، فهو مثلا لا يستخدم الزيت ولا السمن ولا الدهون في القلي سواء كان سمكا أو
بطاطس أو فراخ كرسبي وغيرها، وإن كان يصل بها إلى نفس النتائج، لكن بالهواء الساخن
المضغوط، وبدرجات تحافظ على كل العناصر المفيدة الموجودة في المواد المطبوخة، فقط
تحدد ست البيت نوع الطعام، بيانات الأشخاص الذين سيقدم لهم الطعام، الوزن، السن،
المجهود اليومي، التحاليل الطبية، وتضغط على زر المعلومات بالمقادير المطلوبة،
وبعد وقت قصيرة يخرج إليها الطعام صحيا لكل فرد على أكمل وجه، بما فيها الخبز،
والفرن له ثلاث أشكال وأحجام: للفنادق، للمستشفيات، للبيوت.
وقال المهندس هشام: التكنولوجيا المستخدمة مصرية مئة في المئة، وتتفوق على
نظيرتها في أي مكان في العالم.
خرجت من المعرض مزهوا، وبعد أيام جاءني خبر فوز مانع الانفجار الذكي
بالجائزة الثانية والفرن الصحي بالجائزة الأولى من منظمة "ويبو" الدولية،
وهي منظمة تابعة للأمم المتحدة، تأسست في عام ١٩٦٧،لتشجيع الابتكارات في العالم وحمايتها.
نعم هذه مصر التي لا نعرفها ونهملها، والتي تستطيع أن تنقذنا.
0 تعليقات