التجربة الناصرية
وانتفاضة يناير
شرين حسين
حين يكون الحديث عن مصر...يكون الحديث عن عبد الناصر...ذلك هو قدر العملاق
الذي ترصع صورته تاريخ مصر الحديث وربما القديم ايضا...وربما كذلك لو كتبت عنه (وقد
كتبت) قبل سنوات من الأن لكان حديثي
مختلطا بالمشاعر والذكريات فلقد كان عبد الناصر هو الملهم لهذا الجيل الذي انتمي إليه
وظل مصدر الإلهام لهذا الجيل وربما لأجيال قادمة ولعل ذلك يفسر الهجوم المستمر
عليه والدفاع المستمر عنه وليس فقط هذا الجدال المستمر في مصر وبقية الوطن العربي
بل أن ذلك مستمر في دوائر تتعدي الوطن الي أماكن كثيرة في العالم...وكلها مازالت
تخضع تلك التجربة المصرية للبحث والجدال في اروقة البحث السياسي وبين الذين يحلمون
بالتغيير في دول نمر عليها وعلي أسماء أماكنها في خريطة العالم.......
ومصر ليست مثل بقية البلاد ....فهي أقدم حدود عرفها الإنسان .......وهي أقدم
حضارة دانت لها الإنسانية في العلم والفن والفكر والوحدانية وقبل ذلك وبعده هي امة
الضمير (ماعت) التي رمز لها القدماء بالريشة ( ريشة الطائر) التي يوزن بها أعمال الإنسان
عند وفاته ومصر هذه جسدت ذلك كله في شعبها الذي استطاع وهو المؤمن بالوحدانية أن
يمصر الاديان التي دخلت عليه وآمن بها , فلقد ألبست مصر (المسيحية) رداءآ مصريا
تجسد في كنيسة الإسكندرية أقدم الكراسي البابوية في العالم...وتفردت مصر بإسلام
الوسطية وحولت الأزهر الشيعي الي أزهر سني وسطي .
تلك هي مصر التي أنجبت علي أرضها عبد الناصر فلقد تجسدت فيه كل تلك
التراكمات الحضارية ......فعبد الناصر هو امتداد لاحمس طارد الهكسوس الذي ربته
جدته ( تيتي شيري) الفلاحة بنت الفلاحين ليأخذ الثأر لجده وعمه من الهكسوس الذين احتلوا
مصر وقتلوا الجد والعم واستطاع أحمس أن يأخذ الثأر امصر ويطارد الغزاة بعد ان
أجلاهم عن الدلتا الي خارج مصر وخارج سيناء.
وعبد الناصر كان بالتأكيد مع جيش إبراهيم باشا الذي هدم أسوار (عكا) وهو
يقود اول جيش للفلاحين ويقتحمها ويؤكد أسطورة جيش مصر ويطلع العالم أن عكا لتي
استعصت علي (نابليون) لاتستعصي علي جند مصر وعبد الناصر .. كان ضمن جيش عرابى أول
فلاح مصرى يقود الجيش الى قصر عابدين ويقول للخدوى توفيق ( لقد خلقنا الله احرار
ولن نستعبد بعد اليوم )
وعبد الناصر هذا ... جاء من صفحات التاريخ ليعيدا كتابة التاريخ ... وعاد
من حرب فلسطين ... ليقوم بثورة الجيش فى عام 1952 ويعيد مصر الى فلسطين والى الوطن العربى والى إفريقيا
كلها ...
والى الأمة الإسلامية التى تعرف قدر مصر وقدر الأزهر فيها .
كانت عبقرية الرجل انه عرف دوائر مصر التى تؤثر فيها وتتأثر بها ... ان مصر
عربية ... وهى افريقية ... وتؤثر فى كل الامة الإسلامية ... وكان ذلك هو الإطار
للمشروع حضاري الذى لم يخرج عن اطار الحكام العظام الذين حكموا مصر من قبله فهو لم
يخرج فى مشروعه عن تحتمس الثالث وعلى عن محمد على الكبير واستطاع فى سنوات قليله
ان يعيد لمصر وجهها كدولة متحررة تملك الإرادة ويملك فيها أبناء الفلاحين أراضيهم
ويملكون المصانع ويتعلمون فى المدارس والجامعات بالمجان ويرسلون البعثات الى أصقاع
الأرض ويستطيعون ان يفرضو إرادتهم على العالم كله وكان لابد لهذا المشروع النهضوى
ان يواجه من اعداء مصر واستطاعت نفس الدول التى أفشلت مشروع محمد على للنهضة
المصرية ان تفشل مشروع عبد الناصر فكانت الهزيمة لمصر فى عام 1967 ...وكانت الوفاة
فى عام 1970.
ولقد عاشت مصر بعد عبد الناصر فى دروب المتاهات وكان الهدف من أعداء مصر ان
تعود الى تقزمها وبدأت التصفيات لمشروع النهضة المصرية منذ عام 1971 واستمرت
التصفية حتى وصلنا الى عام 2011 ... فكانت ثورة التحرير فى 25 يناير
ان ذلك الكائن الحى خليفة الله فى الأرض (الإنسان ) يفترق عن كل الكائنات
فى انه كائن حى له تاريخ .. ولذلك ظل الفأر يصاد بنفس الطريقة على مدى سنوات طويلة
لانه ببساطة لا يملك التاريخ ولا يتعلم منه ولذلك فإن من حقنا ان نتعلم من التاريخ.
وعندما نعيد تجربة عبد الناصر الى طاولة البحث السياسى فرغم كل المبهرات من
تحرير الأرض وتحرير الإنسان وتقويض العلاقات الاجتماعية الجائرة وبناء النهضة
الصناعية والنهضة التعليمية فان ذلك لا يعفينا من الوقوف طويلا أمام الهزيمة
الدامية التى حدثت فى عام 1967 .
الأمر الأول : ان عبد الناصر هو ابن المؤسسة العسكرية وهى مؤسسة وطنية
ذابت فى الشعب منذ تاريخ طويل فهى جيش عرابى الذى انحاز للفلاحين وكان منهم وهى
جيش الضباط الأحرار الذين انحازو الى الشعب وخرج الشعب معهم فى مواجهة الملك
والاحتلال البريطاني وأعوانه من الخونة والاقطاع واعتمد عبد الناصر على تلك
المؤسسه العسكرية فى مشروع النهضة المصرية بجانب مجموعة من التكنوقراط لعل ابرزهم
كان الدكتور عزيز صدقى وحسن عباس زكى وعبد المنعم القيسونى و محمود فوزى
وغيرهم لكن ازرع التصنيع والتعمير
واستصلاح الاراضى والحكم المحلى استحوذ عليها ابناء المؤسسه العسكرية .... وقد نجح
بعضهم مثل صدقى سليمان فى بناء السد العالى وفشل البعض الاخر وتحولت عقيدة ( اهل
الثقة ) لتضرب فى مقتل ( اهل الخبرة ) فكانت بداية السوس فى بنيان النهضة وامتدا
ذلك السوس الى الجيش المصرى نفسه فتطاولت اعناق اهل الثقة على حساب اهل الخبرة ...
واعتمد عبد الناصر على رفيقه المشير عبد الحكيم عامر الرجل الثانى فى تنظيم الضباط
الاحرار الذى قام بثورة23 يوليو عام 1952 ولم يستفد من درس الانفصال وتقويض
الجمهورية العربية المتحدة التى كان احد اسبابها عبد الحكيم عامر نفسه وغم ذلك ترك
الجيش لقيادات اختارها المشير عامر لانها من اهل الثقة وتم تهميش عبقرية عسكرية هى
عبد المنعم رياض الذى ابعد عن الجيش فى الحظة الحاسمة عام 1967 ليقود جيوشا وهمية
من الاردن ... وكان لابد من الهزيمة فى 5 يونيو عام 1967 وخرجنا من الهزيمة ليبنى
عبد الناصر جيشه فى ثلاث من السنوات ويحاول تصحيح مسار البنيه التحتية والهيكل
السياسى وقرر ان يجعل ( بيان 30 مارس ) خطة الطريق الجديدة وعاد الى الشعب ليختار
منه القيادات المدنية التى ستكمل طريق يوليو وثورته لكن الشعب فقد عبد الناصر عام 1970
وقبل ان يستكمل تصحيح مسار ثورة يوليو.
الأمر الثاني : ان عبد الناصر لم ينجح فى بناء التنظيم الثورى وكانت
تجربة هيئة التحرير ومن بعدها الاتحاد القومى ثم الاتحاد الاشتراكى هى تنظيمات
فاشله ورغم ذراع التنظيم الاخير من طليعة الاشتراكين او طليعة الحركة العربية
الواحده فان ذلك التنظيم لم يستطع ان يقف فى وجه السادات عام 1971 وفشل فى منع
انحراف مسار ثورة يوليو وربما يكون العذر لهذا التنظيم ان عبد الناصر انشاء
التنظيم الثورى وهو فى السلطة ولم يحدث لعناصر التنظيم اى اختبار نضالى وقد حاول
عبد الناصر علاج الامر بتبنى ( منظمة فلسطين العربية ) وارسل العناصر السياسيه لها
( وكنت واحدا منهم ) وكان الهدف ان تكون
المنظمه هى الوعاء النضالي للمصريين وللعرب ولكن القدر لم يسعفه وانتهت التجربة
بتصفية المقاومة الفلسطنية فى الاردن فى سبتمبر عام 1970 ووفاته فى نفس الوقت لكن
الدرس التاريخى يبقى انه لا ثورة بدون تنظيم ثورى ومن عناصر ثورية اختبرت بالنضال
ولها تاريخ نضالى وثورى ويبقى درس التاريخ انه لمكان لعسكرى محترف فى ادارة البنيه
الاساسية لاى تنظيم ثورى الا اذا كان ذلك بتخليه عن العمل العسكرى مثلما فعل عبد
الناصر وابعد نفسه عن الجيش .
ولعل التخبط الذى نراه اليوم فى ثورة 25 يناير انها وحتى اللحظة لا تملك
التنظيم الثورى ولا تملك عناصر ثوريه بمعنى الكلمه لها تاريخ نضالى ورؤيه سياسية
عقائديه تستطيع من خلالها حل مشكلات الوطن الذى قوضت النظام فيه .... ان لغو
المثقفين وحديث المرئيات لا يحل مشكلات الوطن ولقد تعودنا على هذا اللغو فى
الستينات وكنا نسخر من الذين يتعاطونه فى الوطن العربى واشهرهم حزب البعث السورى
ولقد كانت الثورة الاخيره فى 25 يناير هى ثورة الشعب كله وكل ايام يناير وفبراير
وحتى سقوط مبارك كانت الثورة بالشعب وبالشعب وحده دون تنظيم يدعى قيادة هذه الجموع
ودون ادعاء اصحاب المقامات الفضائية والصحف الكوميدية.
ان ثورة 25 يناير ليس لها تنظيم ثورى ولا تملك عقيدة سياسية ولا قيادة
تاريخية وذلك فى بعضه كان مقتل ثورة عبد الناصر ... وسيكون ان استمر نهاية ومقتل
ثورة 25 يناير.
الامر الثالث : ان ثورة عبد
الناصر نجحت قبل هزيمتها فى اعادة تشكيل العلاقات الاجتماعية والاقتصادية لصالح
غالبية الشعب وكانت اول ضربه لهذه العلاقات الظالمه هو قانون الاصلاح الزراعى
وقرارت يوليو الاشتراكية ومهد لها تمصير البنوك الاجنبية والامساك بعصب الاقتصاد
المصرى وجعله فى يد الشعب ولا يمكن ان تكون هناك ثورة دون اعادة لتشكيل العلاقات
الاجتماعية والاقتصادية لان الثورة هى علم بناء المجتمع ومن الغريب ان البعض
يتناسى المعضله القائمة حاليا فى مصر فنحن امام اقتصاد مصرى يملك مقدراته المؤسسه
العسكرية بمقدار 40 فى المائة ويملك
الاجانب وعدة الاف من المصريين والعرب 52 فى المائه والباقى موزع بين 3 فى المائه
للاخوان والباقى للشعب
والذى يملك المال يملك القرار......... فكيف تكون الثورة التى ليس لها
تنظيم ولا تملك القرار ولا تملك العناصر الثورية .
الأمر الرابع : اننا امام اثنين من التحديات صنعها النظام السابق وهو
الامية فى القراءة والكتابة والامية السياسية نتيجة لتهميش الشعب عن القرار وبجانب
ذلك تغريب التعليم باللغات الاجنبية وهى خطة موضوعة ونفذت لانشاء دولة الرعاع
المحكومة من الصفوة التى لا تتكلم لغة الرعاع وتعيش فى كانتونات محاطة بحراسات
مشددة لا يسمح لاى فرد من الرعاع ان يعيش بقربها او فيها ولعل انشاء مثل هذه
التجمعات السكنية بدأ منذ سنوات وكان الاعلان فيها عن مساكن الصفوة ولقد انهارت
الخطة حين انهار الامن فى 28 يناير لان العاصمة لكل من يدعى انه من الصفوة لن يكون
الا بالعدالة الاجتماعية والعدالة لن تتحقق الا بإعادة تشكيل العلاقات الاجتماعية
والاقتصادية وفى دولة القانون ولن يحدث ذلك الا بالقضاء على الامية بشقيها الفعلى
والسياسى واعتقد ان التعليم والقضاء على الامية سيكون الاختبار النضالى لشباب
الثورة ويمكن لهذا الشباب ان جمعه التنظيم الثورى ان يقضوا على الامية السياسيه
وهم يعلمون الناس القراءة والكتابة ويعلمهم الحقوق والواجبات.
ان ذلك تم فى دول قبلنا واستطاعت ( كوبا ) ان تنهى الامية فى خلال سنة
واحدة رغم ان الامية كانت تصل الى 80فى المائه فى كوبا.
ان ذلك هو التحدى الذى لو خضناه لاستطعنا بحق ان نحقق اهم خطوات التقدم
لمصر.
تلك هى كلمات سطرتها فى يوم ميلاد رجل عظيم حربت من اجله واستلهمت منه كل خطواتى
وقد حاولت ان اقول على لسانه ماذا ينصح لنا لو كان بيننا فى مصر ان ذلك العملاق
عبد الناصر سيبقى ملهما لكل الاجيال مثلما كان ملهما لجيلى ... لانه بكل البساطة
كان مصريا بحق .... وابن لهذا الوطن العظيم مصر.
استشارى مياه جوفيه
0 تعليقات