آخر الأخبار

القرآن والمعجزة… بين الأسطورة والعقل (2)








عز الدين البغدادي


تحتل فكرة المعجزة أهمية كبيرة في الفكر الديني، وترتبط بالنبوة بشكل خاص باعتبارها دليلا على صدق مدعي النبوة. وقد عرفت المعجزة بأنها أمرٌ خارق للعادة (أو للطبيعة)، يقترن بالتحدي أي تحدي المخاطبين أي يكون خارج قدرتهم.


وهي إما حسيّة كما هو الغالب في معجزات الأنبياء أو عقليّة وهو ما اختصت به معجزة النبي محمد (ص) وهو ما جعل كثيرا من المشركين يسخرون منه عندما يطالبونه بمعجزة فيقول لهم بأنه القرآن. وكما قيل فإن الفرق بين الأمرين هو أن معجزات الأنبياء انقرضت بانقراض إعصارهم، فلم يشاهدها إلا من حضرها. ومعجزة القرآن مستمرّة إلى يوم القيامة، وخرقه العادة في أسلوبه وبلاغته وإخباره بالمغيبات وغير ذلك.


وسبب اختيار هذه المعجزة هو طبيعة المجتمع الذي نزلت فيه الدعوة، وقد روي عن النحوي المعروف ابن السُكّيت أنه قال لأبي الحسن علي بن موسى الرضا: لماذا بعث الله موسى بن عمران بالعصا ويده البيضاء وآلة السحر؟ وبعث عيسى بآلة الطب؟ وبعث محمدا (ص) بالكلام والخطب؟ فقال: إنّ الله لمّا بعث موسى كان الغالب على أهل عصره السحر، فأتاهم من عند الله بما لم يكن في وسعهم مثله، وما أبطل به سحرهم، وأثبت به الحجة عليهم. وإن الله بعث عيسى عليه السلام في وقت قد ظهرت فيه الزّمانات (اي الأمراض)، واحتاج الناس إلى الطب، فأتاهم من عند الله بما لم يكن عندهم مثله، وبما أحيى لهم الموتى، وأبرأ الأكمه والأبرص بإذن الله، وأثبت به الحجّة عليهم. وإنّ الله بعث محمدا (ص) في وقتٍ كان الغالب على أهل عصره الخطب والكلام - وأظنه قال: الشعر - فأتاهم من عند الله من مواعظه وحكمه ما أبطل به قولهم، وأثبت به الحجة عليهم. وهذا أمر مهم، فحتى المعجزة ورغم بعدها الغيبي فإنّها تظلّ ترتبط بواقع المدعوّين ونظام تفكيرهم.



الأمر المهم الآخر والذي يرتبط بقضية ختم النبوة هو الله تعالى أراد أن ينتقل البشر من العقل الأسطوري الذي لا يصدق إلا بوجود أمر خارق إلى عقل آخر يعتمد المنطق والتفكير والنظر في النتائج ونضج الخطاب وتطوير الواقع الاجتماعي، وهذا ما جاء في معجزة محمد (ص). لا سيما وأنه نقل المعجزة من المور الخارقة إلى العقل وانطلق من "اقرأ" ووضع منظومة أخلاقية وفكرية أكدت على جانب العقلانية ورفض الخرافة، وأسست لمبادئ قانيونية هامة من قبيل تفريد العقوبة ( ولا تزر وازرة وزر أخرى) والمساواة امام القانون، وتوسيع قاعدة الحقوق لتشمل كل شيء، والتأكيد على مبدأ المساواة، والموازنة بين أراعي والرعية والحقوق والواجبات، والتوزان بين حاجات النفس والجسد، والفرد والمجتمع، وغير ذلك.


حيث أنه لما كان محمّد خاتم الأنبياء وهو يمثّل مرحلة انتقل فيها الإنسان من عهد المعجزة الحسيّة إلى المعجزة التي تعتمد العقل والمنطق والتفكير فقد ناسب هذا أن تكون المعجزة مما يخلد ومما يثبت منهجا في التفكير يمكنها أن تستمرّ وتدوم.



إذن بينما أثبت المعاجز للأنبياء ولم ينفها؛ إلا أنّ الأمر اختلف بالنسبة للنبي محمّد (ص)، فبينما كان مشركو مكّة يصرّون على أن يأتيهم بمعجزة ليمكن لهم تصديقه فقد كان الرفض يأتي بأنّ الآيات من الله وليس أمراً راجعا إليهم ( وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ. أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) فارادة الله أن يتطور الوعي البشري إلى درجة جديدة يكون العقل فيها هو المعيار، وهو الهادي.



وكم حثّ القرآن الناس على التفكّر وعظّم شأنه؛ لأنّه يريد للعقل أن يتحرّك وينطلق ويتجاوز مرحلة الإيمان الّذي لا يشبعه إلا ما هو خارق لنظام الخلق. لقد تحمّل النبيّ (ص) كثيراً من الأذى والألم في دعوته، ولو شاء الله لجعل له معجزة من قبيل إحياء الميت أو تحريك الريح أو نحو ذلك، لكن أبى الله إلا أن يتجاوز بنو آدم في مسيرتهم لتلك المرحلة إلى معجزة تعتمد العقل والتفكير. والغلاة يأتوننا ليرجعوننا إلى مرحلة تجازوها العقل.



وللأسف، فإن كثيرا من المسلمين وبتأثير فرط العاطفية، ولأنهم عجزوا عن فهم فلسفة المعجزة وضعوا روايات كثيرة عن معاجز حسية للنبي (ص) ليثبنتوا لأنفسهم صدقه‼ رغم أنه كان يرفض أن يكون ذلك أمام المشرك الجاحد. انها معجزات صار العلم يتجاوزها، ويستطيع أن يأتي بكثير منها كما إن كثيرا من السحرة الذين يستعملون خفة اليد وتضليل العين الآن قادرون على أن يأتوا بكثير منها لكن دون أن يصدق من يشاهدهم بصحة ما يحصل لأن العقل البشري تجاوز ذلك. فضلا عن أن فقراء الهندوس أو غيرهم من النحل القديمة قادرون أن يفعلوا كثيرا منها.



ولم يقتصر الأمر على ذلك، فقد وضعت قصص كثيرة لا أساس لكثير منها لتثبت معجزات للأئمة (ع) أو لشيوخ الصوفية أو لعلماء وفقهاء لتثبت أنهم قريبون الى الله ولم يدركوا أن القرب من الله لا يحتاج ذلك، بل يحتاج أن تبني حياتك وفق قيمتي العقل والعدل، وعندها لن تحتاج أن تذهب الى الله بل سيأتي الله تعالى إليك وسيكون معك.



إرسال تعليق

0 تعليقات