هل سقط النموذج
الإقليمي للدولة في منظومة العولمة
أمام فيروس كورونا !؟
هانى عزت بسيونى
من الواضح أن منظومة العولمة بمفهومها الشامل والتي بدأ سريانها في ١٩٩٢
بما يهدف إلى ضمان انتقال البضائع ورؤوس الأموال والبشر بين الدول من دون حدود
تذكر تتعرض اليوم للتعثر بطريقة دراماتيكية بسبب خطورة انتشار وباء فيروس كورونا ،
وكأنه زهرة غير قادرة على التمسك بتربتها أثناء العواصف ، إذ غاب عن حسبان من
تبنوه كيفية التعامل مع ظروف كهذه ، فالنقطة العمياء في الدولة العالمية على غرار
منظومة التكتل الأوروبي والتي تلغي الحدود بين الدول الأخرى من الواضح جلياً أنها
لا تجيد التعامل مع الأخطار المعدية أو الأوبئة بعكس ما يحدث في الدول القومية
القادرة على فرض قوانينها ، ففي الوقت الذي تحدث فيه قادة دوليون بعبارات لطيفة
حول الحاجة إلى التعاون الدولي لمواجهة الفيروس إلاّ أنّ أفعالهم سارت في اتجاه
عكسي تمامًا حيث فرضت الحكومات الليبرالية قيوداً أكثر شدّة وحزماً على حركة السفر
والتجارة البينية للدول الأعضاء في تكتل واحد …..
هذا الإجراء منح شرعية أكبر للذين يرون أن غلق الحدود هو علاج كل مرض .!
لذا اعتقد ان ما يحدث اليوم سيعيد صياغة نموذج العولمة بكامله بالنسبة إلى
الدول التي تبنته وفقاً للواقع الذي نعيشه ، فلم يسبق لي أن شاهدت العالم يتعامل
بهذه الطريقة ضد بعضه البعض رغم كل الأزمات التي مرت على النظام العالمي خلال
العقود الماضية ، ففي داخل الاتحاد الأوروبي ذاته والخالي من الحواجز الجغرافية
البينية حيث السوق الموحدة حظّرت كل من فرنسا وألمانيا تصدير أقنعة الوجه للدول
بما فيه أسواق الدول أعضاء الاتحاد الأوروبي ، كما لم تستجب جميع دول الاتحاد
الأوروبي لطلب إيطاليا العاجل لتقديم مساعدات طبية ضرورية لها ، وهو ما كان أمراً
صادماً يكشف زيف مبدأ الليبرالية الدولية والتزام الدول الصناعية الكبرى مثل فرنسا
وألمانيا تحديداً بمبادىء عضوية الاتحاد الأوروبي ، فهذا التصرف منح القوميين حول
العالم هدية ثمينة خاصة في بريطانيا حيث سادت التصورات عند كثيرين بأنّ هجرة
الأجانب تشكل تهديداً وبأن الدول التي تعاني أزمات لا يمكنها دائماً الاعتماد على
جيرانها وحلفائها المقربين لنيل المساعدة حتى لو كان يربطهم تكتل اقتصادي موحد …!.
لذلك يمكنني وفق نتائج الظروف الحالية أن أُقسّم مستقبل العالم في المدى
الزمني المتوسط القادم إلى مرحلتين ، أولهما المرحلة التي امتدت من تاريخ ظهور
العولمة في ١٩٩٢ إلى لحظة ظهور كورونا في نهاية ديسمبر ٢٠١٩ واليوم في ٢٠٢٠ الى
حيث تنتهي دورة حياة خطورة كورونا ، والمرحلة الثانية ستبدأ بعد ذلك التاريخ والتي
تخضع فيها العولمة لمزج بين قوانين استقلالية الدول القومية والعولمة المقننة
بشروط جديدة ، وهو ما يخدم قرار بريطانيا فيما يتعلق بالـ Brexit ، وسوف يوفر ذلك بالتأكيد وقوداً سياسياً
للعناصر القومية الانفصالية داخل الأحزاب القومية والحكومات الشمولية وحافزاً
للسياسيين الذين يفضّلون فرض إجراءات لحماية المنتجات الوطنية وتشديد ضوابط الهجرة
، ويقلل في ذات الوقت من أسهم فكرة إنشاء الأسواق الموحدة والتكتلات الاقتصادية
بكل ما يحويها من قوانين ولوائح وغيرها تنظم أعمالها لمنع تسرب أنواع الوباء عبر
الحدود الجغرافية التي تطال الدول المفتوحة .
لقد أصبح هناك لزاماً أن يتم اتخاذ مايؤمن الدول كإجراء طبيعي تمارسه
الحكومات عادةً ضمن أشكال ممارسة سيادتها لكن بأوجه أخرى فرغم انه في ظل العولمة
ظلت حدود الدول السياسية المرسومة تفتح وتغلق وتسيطر كل دولة مثلاً على شبكة
الإنترنت الخاصة بها كشكل من أشكال ممارسة السيادة رغم أن الإنترنت يعتبر أحد أبرز
مظاهر العولمة الا ان الوباء استطاع ان ينتشر ، لذلك فأنني اعتقد ان هناك نظام
اقتصادي عالمي جديد سيتشكل مع نهاية مرحلة فيروس الكورونا يكون مزيج بين التكتل
الاقتصادي والدولة القومية ذات السيادة المستقلة ، ولننتظر أيضا لقياس مدى الأثر
الاقتصادي والسياسي المحتمل لتفشي "كورونا" حول العالم في قادم الأسابيع
، فالأزمة التي ولّدها الفيروس يمكن أن تصبح نقطة تحول تدفع عدداً كبيراً من
الشركات الأميركية والأوروبية على سبيل المثال إلى تأسيس وتشكيل سلاسل توريد خاصة
بها بل والبدء بالاستثمار في أنماط إنتاجية أكثر مرونة وأكثر محلية.
والنتيجة الثانية لأزمة "كورونا" حالياً وفقاً لاعتقادي والتي
تحتاج إلى مواجهة هي تراجع معدلات السفر لرجال الأعمال والتنفيذيين والمدربين
وغيرهم ، ففي ظل تطبيقات التكنولوجيا الحديثة اعتقد انه سيتم الاعتماد على استخدام
تلك التطبيقات لعقد المؤتمرات والاجتماعات والمناقشات خاصة عبر الفيديو " Video Conference " وستلغي
الحاجة إلى معظم رحلات السفر الخاصة بالعمل ، كما ستسمح لكثيرين من الموظفين
والإداريين بالعمل من المنزل ، وسوف تكتشف الشركات ومؤسسات العمل الحكومية والخاصة
أنّ الحضور الشخصي وجهاً لوجه في الاجتماعات وإن كان ضرورياً أحياناً إلاّ أنّ
البدائل التكنولوجية تؤدي المهمة أيضاً كما أنها تختصر الوقت وأقل تكلفة وتفيد
الحياة الأسرية إضافةً إلى أن شركات عدّة ستبرز التزامها بالوعي البيئي عبر حرصها
في المستقبل على خفض سفر كبار موظفيها التنفيذيين لأسباب بيئية واقتصادية في وقت
يتزايد القلق العالمي من تأثير الانبعاثات الناتجة من الطائرات في المناخ العالمي
، ويبدو انه من المرجح أن يدرك العالم بمرور الوقت أن التداعيات الاقتصادية هي
أخطر ما في الأزمة وأن الفايروس سيعجل فرض نظام اقتصادي عالمي جديد قبل أوانه ودون
أن تكون الحكومات مستعدة لدخوله ، وكان نموذج الاقتصاد العالمي قبل أزمة الوباء قد
بدأ يتجه إلى تحول تدريجي تنحسر فيه الكثير من النشاطات الاقتصادية وما يعرف
بمتاجر “الشارع العام” تلفظ أنفاسها في وقت يتنامى فيه التسوق الإلكتروني على
الوظائف التقليدية والذي قد يؤدي الانتقال من تراجعها التدريجي إلى التوقف الفوري
بسبب إجراءات الوقاية الاستثنائية إلى تداعيات خطيرة على الاقتصاد القومي للدول
وبالتبعية على الاقتصاد العالمي .
لذا اعتقد ان ابرز الخيارات الجديدة التي سوف تشكل منظومة النظام الاقتصادي
العالمي في صورته الجديدة بعد مرحلة فيروس كورونا يأتي في مقدمته ما يتعلق بنقل
وتنويع عمليات الإنتاج إلى اقتصادات آسيوية أخرى مثل فيتنام أو إندونيسيا وسوف
يتمثل الخيار الثاني في أن تنقل الشركات الأميركية والأوروبية عمليات الإنتاج إلى
دول مثل مصر وجنوب أفريقيا والمكسيك والبرازيل وأوروبا الشرقية ، وكذلك اعتماد
الشركات على الإنتاج المحلي الأقرب من المستهلك النهائي في دول منها الولايات
المتحدة والدول الصناعية الكبرى والأوروبية واليابان عبر الاستثمار بشكل أكثر في
الصناعات المعتمدة على Robots ( الإنسان الآلي ) والطابعات الثورية الثلاثية الأبعاد 3D Printing حيث يتم
تصنيع القطع عن طريق تقسيم التصاميم ثلاثية الأبعاد لها إلى طبقات صغيرة جدا
باستخدام برامج الحاسوبية ومن ثم يتم تصنيعها باستخدام الطابعات ثلاثية الأبعاد عن
طريق طباعة طبقة فوق الأخرى حتى يتكون الشكل النهائي.
لذلك اعتقد أن وباء كورونا سيكون هو المسمار الأخير في نعش حقبة العولمة
التقليدية المصابة ، وبداية حقبة جديدة تمزج بين الدولة القومية المستقلة والدولة
المتكتلة في كيان اقتصادي عالمي جديد ، وكم أتمنى ان يكون لمصرنا والدول العربية
الشقيقة مكان فيه خاصة في مجال التطور التكنولوجي المتسارع والذي أرجو ان يكون هو
مشروع القرن في الدولة المصرية للسنوات العشر القادمة في جميع المجالات ….
0 تعليقات