آخر الأخبار

غرباء خلف النافذة (قصة قصيرة)









نعمه العبادي

( قصة قصيرة )



تندفع الأستاذة خيرية مدرسة اللغة الانجليزية الى غرفة المدرسات، تحمل بيدها الكثير من الأوراق الأمتحانية، وتتوجه بحديثها إلى الجميع، لا بد أن نجد حلاً لمشكلة وجد سعدون قبل أمتحانات البكالوريا، فالبنت ترسب إذا دخلت الامتحان بوضعها الحالي.



تتعالى أصوات المدرسات كل منهن يتحدث عن موقف يتعلق بمشكلة وجد خصوصاً أوقات الامتحانات، فالأستاذة هاجر مدرسة الرياضيات تشرح ما جرى في آخر امتحان وهي تتحدث بحماسة، كدت أنفجر ومسكت أعصابي بالقوة، أول ربع ساعة من الامتحان استبدلت أكثر من عشرين ورقة أمتحانية، وفي كل مرة تقول إن الورقة ليست نظيفة، ثم تحولنا لمعاناة الكتابة، فهي تضع القلم في أول السطر ثم تتوقف وهكذا يتكرر الموقف، وانتهى الوقت وهي لم تكمل كتابة الأسئلة، المحنة أنها بنت ذكية ومؤدبة وكانت من أفضل طالبات الصف.



بدأت القصة مع وجد من قضية غلق الباب، فهي تكرر غلقه عشرات المرات دون أن تكون مطمئنة من غلقه، وهكذا سرى الأمر إلى كل شيء.



تكاد الحياة تصبح جحيماً بالنسبة لها، فبعد أن استجاب والدها على اثر عشرات الشجارات التي تلقت فيها سيلاً من الاهانات والضرب لمرتين، تم بناء حمام ومرحاض خاص لها، تقضي فيهما ساعات وهي تعيد غسل كل شيء عشرات المرات، وتزايدت الأمور سوءً بعد أن أصبحت دورتها الشهرية بمثابة برنامج عقابي، فحالما تأتها تغط في كآبة عميقة واعتزال شديد، ويتعمق لديها شعور، بأنها تلوث أي شيء تقترب منه، ثم يكون الفصل الأصعب عندما تصل الى حالة الطهر، فالأمر يتطلب أن تدخل الحمام في الصباح ولا تخرج منه إلا عند المساء بعد أن تجزع والدتها من الحديث معها من خارج الباب طالبة منها الخروج قبل أن يتهرأ جسدها من تكرار الغسل، وفي كل مرة تغسل كل أفرشة الغرفة والشراشف وحتى الستائر.


تقضي وجد معظم الوقت في إعادة عد أصابعها وقضم أظافرها، فرؤوس الأصابع مقرحة من كثرة العض، وهكذا يعاد ترفيف كل شيء عندها، مهما كان بسيطاً، عشرات المرات.


 يبكر سعدون في سيارته التكسي، ومع كل راكب يصعد معه، يكرر السؤال عن حل لمحنة وجد، فهو يحبها كثيراً، لكن أوضاعها غدت تزعج الجميع على الأقل فيما يتصل بشعور مشاركتها بالألم الذي تمر به، وفي كل مرة يسمع حكايا عن أوضاع مشابهة ووصفات مختلفة، واغلب الوصفات تحيله الى العرافين بإخراج الجن ومعالجي المس الشيطاني، فالبنت بحسب هؤلاء ممسوسة.



ظلت قضية مس الشياطين وتلبسهم بالإنسان سؤالاً مفتوحاً، وجدلية شائكة، يتقاطع فيها خطان، أحدهما يدافع بقوة عن ثبوتها وواقعها وتأثيرها، ودعاته صنفين، الأول، حجته الشواهد العملية المنطبعة في خبرته والتي تتحدث عن قريبين او بعيدين تعرضوا للمس او تشافوا منه، والثاني، يتحدث عن التفسير العلمي او الديني لحقيقة المس وتأثيره، وهو أمر يطول حديثه، خصوصاً فيما يتصل بعوالم الجن وقدرتهم على التواجد في كل مكان والظهور بكل الهيئات، وعن قابلية بعض الناس دون غيرهم لهذا المس، وكذلك حديث عن التسخير والترويض، وأما الاتجاه الثاني، فهو الذي يرفض هذا الأمر، ويعده ضرباً من الخداع والدجل، فمرة ينكر حقيقة الجن من الأساس وأخرى ينكر أمكانية تواجده وقدرته في التأثير على الإنسان.



ليست مشكلة الجن وحدها التي تمثل سؤالاً مفتوحاً، بل هناك الكثير مما يتصل بالإنسان والحياة والمصير والغيب لا تزال غير مجابة، ومعظم ما يقال فيها مجرد تخرصات.



لم يمر أسبوع إلا وقد دفع سعدون نصف ما يتحصل عليه من التاكسي لهذا السيد أو تلك العلوية أو هذا الشيخ أو تلك الكشافة، وفي كل مرة يعزمون ويزمجرون ويتمتمون على وجد المسجاة بين أيدهم، وهم يصرخون ليخرج الجن من جسدها المتعب بإجهاد الوسواس، ولكن حالما تعود الى البيت يرجع كل شيء محله دون فائدة، ولذلك صارت تتهرب من هذا المقترح او ذاك للذهاب بحثاً عن يد قوية تخرج هذا الوجع الذي يسري مثل الزيت في جسدها وعقلها وروحها.



كانت طاهرة مقسمة ما بين هموم المنزل والأولاد الستة الذين لا يتوقفون عن الأكل واللعب والعبث في المنزل، وترك كل شيء محله، وبين وحيدتها وجد التي لم تعد تعرف السبيل لخلاصها، وفي كل جلسة يتكرر الحديث والبحث عن سبيل لعلاجها، تسرد الحكايات والقصص عن هذه العرافة وذلك الكشاف دون الوصول الى خيط نجاة.



بكرت الخالة ناهضة قادمة من بيتها الذي يقع في مدينة أخرى غير المدينة التي تسكن فيها أم وجد، فقد تزوجت مبكراً من غسان صديق أخيها الذي خدم معه في الجيش، والذي وقع في الأسر في الأيام الأخيرة من حرب الثمانينات، وعندما رجع الى البيت ثانية في عمليات تبادل الأسرى، اخذ الأسر من عقله الكثير، فهو بمزاج حاد، يتقلب من فكرة لأخرى، مرة يترك شعره ليصبح غابة كثيفة ومرة يحلق كل شيء منه حتى حواجبه، ويغيب اياماً عن البيت دون أن تدري ناهضة عن محل تواجده، وسلوتها في كل هذا العناء، ولديها منصور ومنى، اللذين أكملا دراستهما بتفوق، فصار منصور موظفاً في احد دوائر التدقيق المالي بعد أن أكمل دراسة القانون، وتعمل منى مهندسة في دائرة الطرق والجسور، وقد تزوجت من ساهر زميلها في العمل، وكانت ناهضة، تحمل معها بشارة عن الشيخ توفيق الذي حالما يمس الجسد يخرج منه كل أنواع الجن والتلبيس، وبعد جدل طويل مع وجد لإقناعها بالذهاب، ترافق الثلاثة بعد إشعار سعدون بالأمر، وأخبراه بأن هناك فرصة للعلاج، والذي يأس جراء كثرة ما شهده من الكذب والدجل.



يسكن توفيق في منزل قديم يمتد بعيداً في عمقه حيث واجهته لا تتجاوز الأربعة أمتار، وعمقه يقارب الأربعين متراً، في مقدمته حديقة صغيرة، فيها شجرة سدر  كبيرة عتيقة لم تنظف أغصانها منذ زمن، ويجول فيها الدجاج، ثم مدخل لمطبخ يكتظ فيه كل شيء، ثم صالة مستطيلة مفروشة بافرشة قطنية قديمة تكاد تلتصق بالأرض، توزع على جدرانها أكثر من عشرة أشخاص، ينتظرون تسلسلهم للنظر في أمرهم، وبعد أن استقر بهن المقام في احد الزوايا، جاءت امرأة سوداء، تظهر عليها ملامح غجر العراق، وقدمت لهن أقداح ماء تسكبها من أناء بلاستيكي شفاف، ثم بعد ذلك أقداح شاي، دون أن تتحدث معهن ولا مع غيرهن بأي كلمة، وكأنها خرساء.




الشيخ توفيق في العقد الخامس من العمر، بقوام جيد، وجسد تظهر عليه معالم العافية، يرتدي ثوباً ابيضاً ويضع على رأسه غطاء ( حدرية- عرقجين)، وأصابعه مملوءة بالخواتم ولحية متوسطة، ويشترط أن يمارس معالجته للمريض لوحده دون أي مرافق، رجلاً كان المريض أو امرأة، فهذا احد أهم شروط برنامجه العلاجي، وينتظر الذين يرافقون المريض في غرفة ثانية غير صالة الجلوس وغير غرفة العلاج، حيث يسمع منهم القصة والتفاصيل ثم يصطحب المريض بنفسه الى غرفة التحضير ويعيده مجددا، وخلال حركته في الذهاب والرجوع، يرتفع صوته بالصلوات والتهاليل، ويردد عبارات من أذكار غير معهودة.



قامت وجد وأمها وناهضة الى غرفة الاستماع، حيث طالت أسئلة توفيق عن أوضاعها وسلوكها والعلاجات التي أخذتها، وتحدث كثيراً عن كراماته وأفعاله، وسرد حكايات عن مئات النماذج التي قام بعلاجها، ويؤكد أنه لا يأخذ أجراً على عمله، وكان الاستبشار والفرح يلوح على وجوه الجميع، بعدها اصطحب وجد الى الغرفة التي كانت مضاءة بأضوية خضراء، وفي احد أضلاعها سرير خشبي عرضه قرابة المتر والنصف وطوله أكثر من مترين، وعليه فراش ودثار خفيف، وقريب منه كرسي، وباحة الغرفة مفروشة بسجادة قديمة، وبزاوية منها مروحة عمودية وصندوق مربع صغير عليه عدد من الكتب والأوراق المقطعة، وفي احد الأركان طبلة خشبية عليها مبخرة كبيرة وقدح زجاج وإناء بلاستيكي يظهر انه مملوء بعصير اصفر، وشمعة احترق نصفها.



أشار لها أن تجلس على السرير وأقدامها مدلاة على الأرض ووضع الكرسي قبالها، وقام ونفخ في المبخرة فتصاعد عطرها، وأشعل الشمعة، وجلب ورقة بيضاء مستطيلة فارغة وقد وضعها على سجل بغلاف كارتوني وبيده قلم رصاص، وقام بتلاوة آيات وطلب من وجد ان ترددها معه، وهو يسود الورقة بالأرقام والرسوم والإشارات، ثم طلب منها أن تتمدد على السرير، وتكرر الآيات وقد ابتعد عنها ووقف في منتصف الغرفة، ثم تحرك باتجاه الستائر يحركها بيده ، ويسألها هل تشعر أن أشياء تغادر بدنها، وهي بين الوهم والخجل تجيب بنعم، والأمر يتصاعد وهو يعدد أسماء غريبة للجن  يطلب منهم مغادرة جسدها، وفي كل ذلك يقف في الجانب البعيد دون ان يقترب منها، ثم سكب قدحاً من العصير وطلب منها أن تنهض وتشربه ثم تعود لنومتها، وكرر ذلك لمرتين، واستمر بالتلاوة والتمتمة.


رويداً رويداً، بدأت عيونها تتثاقل، ويغيب صوتها تدريجياً، حيث تغط بالنوم، وبعد أن تأكد من نومتها، رفع ملابسها وكشف عن جسدها ونظر بشغف ورغبة ثم كشف عن نصف جسده وتمدد برفق فوقها دون أن يلقي بكامل جسده عليها.



دقائق مرت وهي في سكرة جسدها الدافيء رغم ما ألم بها من أثر جنون الطهارة والتنظيف، فتحت عينيها ببطيء، ورأت وجهه ملاصقاً لوجهها، وجسده فوقها، فكان صعق المشهد قادراً على بث شحنة من القوة فيها، بحيث استجمعت يداها ودفعته من فوقها، ولملت ثيابها وهي غارقة بذهول تغيب فيه الجبال الرواسي، وعيونها تقطر بدموع مثل كرات الجمر.



جلست على السرير تحاول السيطرة على بدنها المثقل بالوجع والإرهاق، وأحست في صدغيها بوخزة صداع يخترقهما مثل المسامير، وأغمضت عينيها لتشعر باسترخاء بسيط، وفي هذه اللحظات، حضرت في ذهنها خواطر تتعلق بفكرة المتعة والإحساس بها، وحقيقة الالتذاذ مع شريك هو بمنزلة الميت، وتسارعت لذهنها صور وحكايات، منها، أنها سمعت من احد زميلاتها في الصف حكاية عن طبيب يعمل في مشرحة وقد تم القبض عليه بتهمة التعدي على أجساد بعض المتوفيات، وفي وقتها لم تستطع أن تتخيل ولو مجرد الخيال أن تأخذ الإنسان رغبة الاستمتاع مع جسد ميت، وكان سؤالها الأساسي يتمحور حول فكرة الرغبة المتبادلة، والإقبال والمشاركة، والذي طورته بشكل يمتد الى كل صور العلاقات التي تكون فيها درجات من القهر والفرض، وكانت خلال ذلك، تشكك حتى في شرعية الزيجات التي يقوم الوصل فيها على علاقة تغالبة أو يكون احد أطرافها الصمت الرافض، وزاد عجبها عن إمكانية خلق الغبطة في وصل احد طرفيه بمنزلة الميت أو هو كالميت حقيقة، وعندما قامت وهي تجمع ملابسها بصعوبة، وبعض شعرها يظهر وكأنها خرجت من مصارعة للتو، قالت لتوفيق بصوت مشحون بالوجع، إذا كنت مهتماً بالنظافة واستبعد ذلك منك، فعليك أن تغتسل غسل مس الميت.




كانت الأم والخالة تترقبان بقلق كبير، وهما منقسمتان بين الخوف والريبة جراء الانفراد بوجد، وبين الرضا والسكوت رجاء لعلاج يخلصها مما حل بها، وحالما دخلت شعرتا بأن الأمور ليست على ما يرام، لكنه تحدث لهن بصوت وقح، مدعياً أنها متعبة من خروج الجن، وتحتاج إلى أيام من النوم، وستكون بخير من هذه الليلة.



حالما وصلت غرفتها، ألقت وجد بنفسها إلى الفراش مثل حجر سقط من أعلى جبل، وغطت في سكون اشد من سكون المقابر، وشاع في تخاطيط وجهها حزن مثل حزن أمهات المفقودين في الحروب دون أن يعلن عن مصيرهم، وطلبت من أمها أن تتركها لترتاح، وقد استمر بها الحال في نكوص وتراجع دون أن تتحدث لأحد عما دار في الغرفة المشؤمة حتى الساعة.



عادت ناهضة بحماسة أقل مما جاءت بها في الصباح، ووصلت بيتها متأخراً،  وقد تفاجئت بوجود ساهر الذي جلب معه طفليه دون أن تكون معهما منى، ومعه منصور، ويظهر بشكل واضح على ملاحمهما الاضطراب، لذلك مباشرة انهالت عليهما بالأسئلة لمعرفة ما حدث، وكان ظنها قد ذهب إلى أن أبا منصور قد أصابه مكروه، وبدون أي تمهيد قال ساهر لحماته، إن منى مختفية منذ الظهيرة ومعها السائق، فاندفعت تجمع كفيها وتلطم خديها وهي تصرخ، وتطالبهما بأن يخبراها عن ابنتها، فكان الجواب مشحوناً بالارتباك، ربما مخطوفة، وقاطعت على الفور لتسأل عن خبر أو اتصال، أو أي تصرف منهما مع جهة أمنية، فكان الجواب، أن الدائرة والشرطة وصلهما علم بالاختفاء، ولا تزال الأمور غامضة.



تشرف منى على لجنة تدقيق المشاريع المحالة إلى القطاع الخاص لتنفيذها، وهذه اللجنة هي المسؤولة عن إعطاء تقارير دورية ونهائية تؤكد تنفيذ العمل من قبل المقاولين والمستثمرين لغرض تسليمهم حقوقهم المالية، وقد تعرضت لأكثر من مشكلة وصدام، مرة مع المقاولين والشركات ومرات مع بعض أعضاء اللجنة أو موظفين لهم علاقات نفعية، وقد طالبها ساهر بالتخلي عن اللجنة، ولكنها كانت مصرة على الاستمرار بالتحدي.



 لا تعرف ناهضة الكثير من هذه التفاصيل إلا أن منصوراً يدرك جيداً خطورة الأمور، فقد تعرض إلى مواقف مماثلة ومخاطرات جراء عمله في التدقيق المالي.



اتصل ساهر بأكثر من مقاول ومستثمر كانت لها معهم مشاكل ولم يحصل على أي جواب، وبعد انتظار طال لأكثر من ثلاثة أيام كان بثقله يعادل ثلاثة قرون، اتصلت منى من تلفون غريب وطلبت من ساهر أن يأتها إلى احد مقتربات الطرق الخارجية دون أن يعلم أو يجلب معه أي احد وخصوصاً الشرطة، وحالما وصل وجدهما مقيدين، وكان على السائق بعض آثار الضرب، ومنى بملابسها ووضعها دون أي آثار سوى آثار الخوف، وهي غارقة في صمت مشحون بالخوف، ولا يدور على لسانها إلا كلمة واحدة، لا اعلم شيء.




عاد بها إلى بيت أهلها، وأوصل السائق إلى بيته، وعرفت الشرطة بالخبر، ومع محاولات التحقيق والسؤال، كانت رواية منى، بأن الخاطفين الملثمين أخذاهما إلى مكان نائي، وفرقا بينهما، ولم يطلبا منها أي شيء، ولم يتحدثا معها بأي شيء، وتم إعادتهما إلى المكان الذي وجدا فيه بعد ثلاثة أيام دون أي تفاصيل، وأصرت منى على الثبات على سرديتها حتى لساهر ومنصور وأمها.



في اليوم التالي طلبت من ساهر أن يشرع بتقديم إجازة لكليهما لمدة أربعة سنوات، وخلال فترة الإجراءات التي عملت له وكالة عامة لينوب مكانها، أخذت أولادها وسافرت إلى مصر، حيث يقيم اخو ساهر هناك من سنوات، وأسس شركة مقاولات، وبقيت هناك لحين أن ألتحق بها زوجها بعد إكمال الإجراءات.



ألتحق ساهر بالعمل في شركة أخيه مبكراً، وقررت منى أن تبقي في البيت لرعاية الأطفال، كما أن أجواء العمل لا تناسب وضعها، وكانت تتواصل مع والدتها بشكل يومي ليتبادلان الأخبار والأحاديث.



ينخرط ماهر الأخ الأكبر لساهر في أعمال مقاولات مختلفة عمارات وبيوت وفلل وأبنية أخرى، وكان نشاط الشركة واعداً، وصار ساهر يجول بين مواقع البناء ويتابع التنفيذ في كل المقاولات.



اخبر ماهر أخاه بأن يتواجد في احد مواقع البناء، ويعتني بطلبات الزبون بشكل اكبر، وكان الموقع بمثابة مزرعة كبيرة يتم تشييد دار فيها وبناء آخر بجانبه.


كان صاحب الدار ستينياً ذواقاً في اختيار التصاميم والبناء، يدقق في كل شيء لدرجة كبيرة، ويظهر أنه يفعل ذلك حتى في أناقته وملابسه، ويحضر في كل يوم الى موقع العمل.


كان محمود السلطاني يدير داراً للنشر  ومكتبة ثم باعهما وتحول الى أعمال حرة، ويريد أن يشيد في المزرعة فيلا كبيرة وبجانبها مخزن كبير، لم يتحدث عن الغرض من استخدامه، وفي الوقت الذي كان لطيفاً مع الجميع في تعامله وخصوصاً مع ساهر الحريص على تنفيذ مطالبه بدقة، كان يبقي مسافة من غموض تحيط بشخصيته، وأحيانا يترك موقع العمل بطريقة مفاجئة وهو في قمة انصهاره مع احد الأمور التي يتم تنفيذها، وفي بعض المرات يصبح متوتراً عصبياً لإهمال بعض التفاصيل التي يطلبها، وكان يكرر على مسامع ساهر كلمة أخاف ألا يتم ذلك، وأخاف ألا تفعلوا هذا بالطريقة الفلانية.



يتحرك السلطاني في بعض الأحيان بطريقة يسير فيها بمحاذاة حافة السياج الخارجي للمزرعة، ويغير مساره بطريقة معاكسة، ويدخن بطريقة تشعرك بإقباله الشديد على السيكار، كما انه يشرب الكثير من القهوة والشاي.




توطدت العلاقة بين ساهر ومحمود كثيراً، وقد اطلع على ظروف قدومه لمصر، وزاره في شقته عدة مرات، وتعرف على منى، وكان كريماً في عطاءه، وخلال مسيرة الأيام، وبعد أن أصبحت حركة البناء متلكئة، عرض على ساهر، أن يعرفه على صديق له في استراليا اسمه بات بوبر، وقال بأنه يحتاج إلى مهندس يتابع معه مجموعة أعمال يطلبها، كما أن فرص الحياة هناك أفضل، وقد تكون لمنى فرصة عمل، وبعد نقاش دار بين ساهر ومنى، واتصالات مع الأهل، حصلت الموافقة، ونظم السلطاني الأمور الأولى للاتصال، حيث رتب لهما من خلال بوبر دعوة عمل، وتذاكر سفر، وترتبت الأمور بطريقة سريعة.



عصر الاثنين طارت طائرتهما من مطار القاهرة باتجاه سدني، حيث كان الطريق طويلاً، وبعد ان وصلا الى المطار، وجدا احد الأشخاص ينتظرهما وقد حمل لافتة ورقية مكتوب عليها اسمهما، وبعد أن حمل الحقائب، أخذهما الى شقة استأجرها لهم بات قبل أن يصلا، وكانت الشقة في منطقة تقع بعيدة عن المركز، مفروشة بعفش بسيط، وقد وجدا بعض الطعام والشراب فيها.



اتصل بات بساهر ورحب بقدومه، والغريب أن بات يعرف بعض الجمل العربية التي ينطقها بطريقة بطيئة، وكان لطيفاً في حديثه، وتمنى لهم إقامة طيبة في استراليا، وتواعدا على ان يلتقيا عندما يرتاح ساهر من السفر، ويكون مستعداً للقاء.




في مساء اليوم الثاني، تهاتفا، وأرسل بات سائقاً ليأخذ ساهر الى محمية بات، وحينما وصل الى هناك وجد طريقاً يتخلل بين أشجار كثيفة، وانتهى الأمر الى دار مبنية على الطراز الريفي يحيطها فضاء واسع، تتوزع فيه شجيرات ومجموعات من الورود، ووجد مجموعة من الشاحنات المتوقفة وسيارات صغيرة ومكائن زراعية، وشاهد حركة لأكثر من شخص في المنزل، وبعد الوصول تم أخذه الى صالة الضيوف.



كانت الصالة مصقولة الجدران، مصبوغة بلون أبيض شديد اللمعان، لم يثبت فيها حتى ساعة جدار، ولا لوحة ولا أي شيء، الأمر الذي لفت انتباه ساهر، كما كان في احد أركانها بيانو عتيق، وكانت المسافات بين المقاعد متباعدة نسبياً أكثر من العادة.



حضر بات وهو يلبس ملابس بيضاء بشعر طويل ولحية طويلة، ويتحرك بطريقة تشبه هيئة الرسامين أو المشتغلين في مجال الفن، وتبددت صورة رجل الأعمال التي شكلها ساهر في ذهنه عنه، عندما رأى المعدات والمعالم التي توحي بأنه كذلك.



وبعد أن جلس بطريقة غير مستقرة، سأل ساهر، هل أنت سعيد، أعني بالقدوم إلينا؟ وقبل أن يجيب ساهر، عقب بات، أعتقد أن السعادة مفهوماً متبايناً ومراوغاً من الصعب أن يتم تشكيله في حدود واضحة.



ألتحق ساهر عندما كان في العمل بمعهد لتعلم الانجليزية، وكان يتابع الكثير من الأفلام، ويحرص على مشاهدتها بدون ترجمة، وكثيراً ما كان يجري حوارات بينه ومنى بالانجليزية لتطوير لغتهما، فضلاً عن الاحتكاك والممارسة، ولذلك صار سهلاً عليه، أن يتحدث بها، ويعبر عن أفكاره بطريقة يمكن للمتلقي أن يفهمها.



قال ساهر، السعادة بما هي شعور نفسي بالارتياح والانتشاء هي حالة واحدة غير متعددة، ولكن صور الشعور بالسعادة تختلف بحسب إحساس كل واحد لما يسعده، وتبعاً لذلك تختلف أدوات تحقيق السعادة نظراً لهذا الاختلاف.


فقال بات، برأيك، ما هو أكثر ما ينغص السعادة، ويقطع الطريق عليها؟


فأجاب ساهر، من أعظم معاول هدم السعادة هو القلق والشك.


حالما سمع بات لفظتي القلق والشك، أزداد جلوسه اضطراباً، وقام بشكل مفاجئ الى زاوية فيها مجموعة من الكتب المرففة، فأعاد ترتيبها لأكثر من مرة، وفي كل مرة بعد أن يكمل الترفيف يعود خطوتين الى الوراء، ويطيل النظر فيها، ثم يقوم بإعادة ترفيفها.


يتوجه الى ساهر، ويكرر الترحاب به، ويعتذر لأنه انشغل بالترفيف، ويصف ذلك بالأمر الضروري، ثم يقول له، بأننا  نجلس غداً جلسة عمل للدخول في التفاصيل.



عاد ساهر وتحدث لمنى عما رآه، وتسرب لكليهما بعض من الشك عن شخصية بات، وانتهيا إلى أن المهم، أن يكون صادقاً، ويلتزم بتعهده بقضية العمل، وترتيب أوضاعهما، وموضوع الإقامة وترتيب أوراقهما الرسمية.



بكرا معاً مصطحبين الأطفال الى سوبر ماركت قريب، وألتقيا هناك بميسون العراقية التي حصلت على لجوء في استراليا بعد أن كانت في معسكر رفحاء، وبعد أن تعارفت عليهم، بدأت تشرح لمنى الترتيبات التي تتعلق بموضوع مدارس الأطفال، وتفاصيل الحياة، وهكذا ظلت علاقة التواصل مستمرة بين منى وميسون التي تكبرها سناً ولكنها فرحت كثيراً بوجودها، وصارت تستذكر معها أخبار الديار.



ألتقى ساهر ببات في يوم جديد، وعرف أن أول المشاريع التي يريد منه أن يتابعها ميدانيا هو ما يسميه بات بمحمية البعد عن الألم، وهي مجموعة من بيوت واطئة الكلفة يتم إنشائها على شكل شريط يحيط بأرضه الزراعية، لتكون مساكن لأشخاص يظهر أنهم يرتبطون مع بات بعلاقة ما، وقد عرف أن أكثر هؤلاء ممن ليس لديهم سكناً مستقراً سابقاً أو ممن غادر سكنه وانفصل عن واقعه بعد أن أصبح من أتباع بات.



كان بات تلميذاً خجولاً يتردد في إبداء آرائه مهما كانت بسيطة وطبيعية، وتعرض للكثير من اللوم جراء خجله الذي كان يمنعه من المشاركة في الصف بل في كل مجالات الحياة، وبعد أن تلكأت حياته الدراسية، ألتحق بحلقات لدروس دينية، وكان يرتاد الكنيسة في المدينة، ومع ذلك استمر معه الخجل والتردد.



انكب على البحث عن الألم في النصوص الدينية، وتكونت لديه قناعات بأن هناك إرادة قصدية تريد إلحاق الأذى بنا، ومع ذلك لم تزودنا بما يمكننا من تحمل الألم، وهكذا أصبح القلق والخوف يركض وراءه في صحوه ونومه، وتطور هذا القلق إلى الشك في كل الأمكنة وفي كل التوجهات على أنها مصادر للألم الموجه، وانه لا سبيل للسعادة إلا بالمزيد من التحفز والحذر من كل شيء لئلا يكون ذلك مدخلاً للألم.


وبعد ان ورث من والديه اللذين ورثا بالتبع من والديهما المزيد من الأراضي، قرر أن يبتعد في محميته ويأخذ معه الذين يتبعون أفكاره في قضية قصدية الألم، فهم يشتركون في إحساسهم بالإحباط والخوف من كل شيء.



لم يرغب ساهر ان ينسحب مع بات في موقفه النفسي، وحاول ان يركز على الجانب العملي للمشروع، فهو مهتم بالحصول على فرصة عمل مستقرة، وترتيب أوضاعه القانونية، ومن الممكن أن يجد له ولزوجته فرصة للعمل بعد أن يتجاوز مرحلته الأولية، ومع ذلك كان بات يطرح عليه بعض الأسئلة عن منظوره للألم والقلق والموت والفرح والإرادة والقدر وأمور أخرى.



يدعي بات أن الأديان كلها لا تقدم إجابات كافية عن إشكالية الألم القصدي الموجه لتعميق أوجاع الإنسانية، ويتهم كتبها على أنها تقدم تغطية تبريرية لهذا الألم، ويرى أن هناك تفريطاً في حماية الضعفاء الأكثر تعرضاً لمصادر الألم، ويتعمق في تشكيكه بأن فكرة اللذة المؤجلة التي يطرحها الدين عبر مفهوم العالم الآخر، الذي يعيد موازين العدل والإنصاف فيه لا حقيقة لها، ويرى بأنها خدعة تستهدف تبرير الألم وتدفع الضعفاء للتماهي مع هذه الصورة بقناعات غير مبنية على براهين دقيقة.



يحاول بات أن يشكل محمية من الألم، ويخلق موقفاً جديداً لأتباعه، يقوم على أساس انه يحتاج إلى مناورة تبعده وأتباعه عن دائرة هذا الألم، وفي ذات الوقت يرى أن إمكانية خروجه من هيمنة الألم القهري تكون عبر التمرد أو الخروج من كل المنظومات القيمية التقليدية وفي مقدمتها الأديان المعروفة.


وعلى الرغم من كل هذه الأفكار فإن بات يتفصح إغلاق الشبابيك عدة مرات في الليل ليتأكد من أنها مغلقة بشكل جيد، وقد وضع في أول الطريق المؤدي لمحميته عارضة قطع لا تسمح لأي احد غير معروف ومصرح بدخوله ان يمر، كما انه سعى ان تشكل تلك المساكن التي يريد تشيدها  قوساً متكاملاً يطوقها من كل جهة.


مرت أشهر وصارت حالة وجد تزداد انتكاساً، وبعد ان قرر الجميع عدم البحث في وسائل العلاج المتعلق بالمس وإخراج الجن وكل ما يتصل بعالم السحر، صار سعدون يسأل كل من يركب معه عن طبيب مجرب في هذا المجال، ومع تفاقم حالة وجد التي أصابها الهزال والضعف وفقر الدم، وتساقط الكثير من شعرها، مضافاً الى القروح والجروح التي لا تغيب عن جسدها، وبعد عدة مراجعات لأطباء في البلدة لم يتم تحقيق تقدم مهم في العلاج.

عادت الخالة ناهضة مع منصور هذه المرة لزيارة بيت الخالة طاهرة، وتفقد أحوال وجد، وبعد ان تحدثوا عن أخبار منى وسفرها، اخبر منصور خالته بأنه حاول أن يعرف عنوان طبيب جيد مختص بمثل حالة وجد، فهو يكن لها وداً كبيراً مع فارق السن بينهما، وانه يرغب في ان يأخذها مع والدته لهذا الطبيب، وبعد ان تم عرض الموضوع على سعدون الذي كان يبحث عن أي وسيلة لشفاء وحيدته، أوصلهم إلى الكراج في اليوم الثاني، حيث ذهبت وجد مع ناهضة ومنصور الى عيادة الدكتور مختار في العاصمة.


كان تسلسلهم السابع بين المرضى على الرغم من وصولهم مبكرين إلى العيادة، وكان الانتظار طويلاً، فالمرضى في هذه العيادة يحتاج كل منهم أكثر من نصف ساعة على الأقل لغرض فحصهم وعلاجهم، وخلال الانتظار، شاهدوا شاباً لف تمام كفه بالقطن وتظهر وكأنها محروقة أو مصابة بجرح، وكان الغريب في الأمر، أن هذه عيادة طبيب نفسي، فلماذا يراجعه مريض عنده حرق أو جرح، وألح فضول السؤال، فبادرت ناهضة لمعرفة القصة، وبعد أن تحمدت له  بالعافية، سألت المرأة التي ترافقه والتي يتضح أنها أمه، سلامات عسى ألا يكون مكروهاً، ما الذي أصاب يده جرحاً أم حرقاً؟


 شعر الشاب بخجل، واظهر انطواء أعمق على ذاته، وتبرعت الأم بالإجابة،  احترقت بالمكواة، وأشارت بإصبعها بشكل لم ترغب أن يلتفت لها، بأنه هو الذي احرق يده.




تفرض الأفكار القهرية الوسواسية ضغطاً هائلاً على المصاب بها، ومع انه يدرك سلبيتها لكنه ينساق معها، ويستجيب لها، لعله يخفف من ضغط التوتر والألم الذي تلح بها عليه وتدفعه لتنفيذها، وهكذا احرق هذا الشاب يده بالمكواة، وهو منصاع إلى إرادة تصر عليه، وتدفعه للقيام بذلك مع إدراكه للخطر والأذى.



وصلت النوبة للتسلسل رقم (7)، وكان الدكتور مختار لطيفاً في استقباله، أشار لمنصور وأمه أن يجلسا على الأريكة، وتجلس وجد على كرسي قريب منه.



لاحظ الطبيب حجم السوء الذي وصلت إليه وجد، وبعد ان تعرف على علاقة القرابة التي تربط وجد بمرافقيها، اخذ يحاول متابعة جذور المرض وتأريخه وتطوراته، وسألهم عن المراجعات والعلاجات السابقة، وهكذا بدأت وجد تسرد رحلتها مع المرض ومحاولات العلاج، وهي في حالة تشظي وانكسار، ومع ان الطبيب أدرك الوضع المتقدم الذي وصلت إليه لكنه حاول من تخفيف الصورة، واخبرهم ان حالتها ابسط بكثير من حالات أخرى تماثلت للشفاء وهي الآن تعيش بشكل طبيعي، واستطرد بالحديث عن المرض وسعة انتشاره وتمظهراته، وتفاجئوا ان نسبة الإصابة به تقارب 3٪ من سكان العالم، وبالعادة يصيب الناس دون سن الخامسة والثلاثين، والمفرح ان المعظم تتحسن حالته ويتماثل للشفاء، وقليلة هي الحالات التي تنتهي بنهاية محزنة مثل الانتحار.



حاول الطبيب ان يراجع مع وجد بدقة حياتها، وتفاصيلها، وسألها اذا كانت تخجل من وجود خالتها، فأخبرته لا توجد مشكلة ببقائهما، ولا يوجد ما تخفيه.



حاول تلمس الأسباب التي أدت لمرضها، وسألهم عن وجود حالات مماثلة في العائلة، وعن اي صدمات أو مشاكل نفسية تعرضت لها في صغرها، ومع التدقيق في الأسباب، تحدثت وجد عن أمر تعرضت له في صغرها، تمثل في حركة تخويف كان أخوتها يمارسونها معها، والأكثر ارتكازاً في ذهنها محاولة دفعها من مكان مرتفع ومسكها بعد التخويف أو سحب مقعد الجلوس من تحتها قبل أن تجلس، ومفاجئتها بصوت من خلفها أو تصفيق لإخافتها، وكل ذلك كان يجري من قبلهم دون قصد الأذى، وأنه مجرد مزاح.



تحدث الطبيب عن الآثار الخطيرة التي أحدثتها تلك المواقف والمشاهد في دماغ وجد، وقد تضافرت معها أسباب أخرى، منها شخصيتها المتماهية مع القلق، وقد أطال في الحديث عن المرض وتاريخه وإشكاله، وعرج قليلاً على نظرية فوبيا اللمس التي طرحها فرويد كتفسير للوسواس القهري.



بعد ان فهم حالتها، اخبرهم ان هناك مسارين للعلاج يتحركان بشكل متوازي، الأول يتمثل بمجموعة عقاقير سوف تستمر عليها لأشهر، مع مراقبة حالتها ومتابعة الموضوع للنظر في إبقاء العلاج أو تخفيفه أو قطعه أو تغيره، والمسار الثاني، وهو العلاج النفسي، والذي سماه العلاج بالتعرض، والذي يتضمّن تعليم الشخص أن يكون بتماس مباشر عمداً مع المواقف التي تولّد الأفكار القاهرة والمخاوف من غير أن تدفعه إلى القيام بالعادات القاهرة المقترنة مع الوساوس، وذلك بشكل تدريجي إلى أن يتمكّن من تحمّل الانزعاج والقلق جرّاء عدم ممارسة ذلك السلوك الطقوسي، على سبيل المثال، في حالة شخص لديه وسواس قهري يخصّ أمر نظافة البيئة المحيطة، يتمّ أولاً دعوة الشخص إلى أن يمسّ غرضاً "متوسّط التلوث" (مثل منديل كان قد لمس منديلاً آخر كان على تماس مع نكّاشة أسنان كانت على تماس مع كتاب أتى من مكان "ملوّث" مثل المدرسة).


 تكون العملية بحدّ ذاتها حينئذٍ تعريضاً، أمّا منع الاستجابة فيكون بحثّه على عدم غسل يديه في تلك الحالة، كمثال آخر يكون فرضاً بترك المنزل وتفقّد القفل لمرّة واحدة (التعرّض) وذلك من غير العودة والتفحّص لمرّة ثانية (منع الاستجابة)، بذلك يتعوّد الشخص بشكل سريع نسبياً على المواقف المولّدة للقلق ويكتشف كيف أن مستويات القلق ستنخفض بشكل كبير، وربّما تصل الأمور معهم بأريحية إلى أن يلمسوا شيئاً أو غرضاً "شديد التلوث" أو أن لا يتفقدوا قفل الباب بالمرّة.



حالما عادت وجد إلى بيتها باشرت بعلاجها الدوائي والنفسي، وصارت تتحسن يوماً بعد يوم، وتستعيد عافيها، وهكذا قررت أن تنشأ فريقاً تطوعياً يحاول الاتصال بمرضى الوسواس، ويساعدهم على تجاوز المرض من خلال الطرق الصحيحة للعلاج.


خلال التغطية الإعلامية لنشاط فريقها، ظهرت في مقابلة تلفزيونية بعدما انتشر وباء كورونا ، وكانت تتحدث عن تداعيات القلق الذي يلف العالم جراء هذا الوباء، وقد أثارت نقطة خطيرة لم يجر الحديث عنها من قبل، تتمثل في إمكانية إصابة العالم ب (فوبيا اللمس)، فحالة التباعد والقلق من انتقال العدوى بشكل يجعل خطر الانتشار موجوداً في كل مكان، كما ان عادة التطهير المتكرر التي يطالب بها الأطباء، قد تتحول بشكل تدريجي الى فوبيا اللمس، بحيث يبقى الناس منخرطين بالتباعد عن بعضهم وعن كل شيء على الرغم من انتهاء المرض، وأضافت، إنني عشت سنوات مريرة ومؤلمة في ظل هذا الإحساس القاتل، ولا أتمناه حتى لعدو، ولذلك لا بد أن يتم النظر بعناية لهذا المآل، لأنه لا سامح الله سيكون أكثر خطورة من كل التداعيات التي أحدثها هذا الوباء الخطير...


إرسال تعليق

0 تعليقات