آخر الأخبار

كورونا والعقل الإيماني









محمود جابر



هذا عنوان منحول من برنامج المختلف عليه، واقصد به الصحفي والمثقف الكبير والمذيع إبراهيم عيسى، فهو وبرنامجه سواء، أي أنهما يمكن إدراجهما تحت هذا الاسم ( مختلف عليه).



والحلقة التي أتحدث عنها هى حلقة بعنوان ( العقل الإيماني فى زمن كورونا) والذي أرسلها صديقي الرائع أدم مكاوي معد للبرنامج والحلقة.


وأنا هنا لن أتحدث عن الحلقة بقدر ما أريد أن أبحر فى فضائها، والذي تناول من خلال الحلقة عددا من القضايا فى زمن الكورونا وهى :
-         الصوم
-         صلاة الجماعة
-         صلاة الجمعة
-         العمرة
-         الحج

وقبل البدء فى تناول هذه القضايا من وحى الحلقة لابد أن نؤكد على قضية هامة، وهى قضية الدين والإيمان، هل الدين جاء لإسعاد البشر ونفعهم، أم لإلحاق الضرر بهم، وهل الإيمان هو فى تجشم الصعاب والبحث عن طرق الهلاك باعتبار أن الطريق إلى الهلاك – المقدس- يمكن أن يكون شفيعا للمؤمن إلى الجنة، وفقا لتصور سادى للإله الواحد الأحد – نعوذ بالله من هذا .

ازعم أن الدين والإيمان ما جاء إلا لإسعاد البشر، ورفع إصرهم والأغلال التي كانت عليهم وفق لمنطق القرآن الكريم فى قول الله تعالى (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ)  157الاعراف .


فالدين والإيمان هو أمر بالمعروف، والمعروف هو كل نفع للناس عامة، والمنكر هو كل ما يضر الإنسان، والطيبات هى من جملة المعروف والخبائث من جملة المنكر، والإصر هو كل شدة وضيق تقيد حركة الإنسان نحو البحث عن هذا الخير والمنفعة وأكدتها الآية الكريمة بكلمة والأغلال ... إصر ثقل وأغلال اى ثقل فى وثاق أو حبل أو سلسلة، وهو منتهى التقيد والإذلال والعبودية المهينة والمشينة للعادات والتقاليد والتوهمات التى يظن الناس أنها دين وإيمان وهى ليست من هذا ولا ذاك .


الحاصل أن الدين يسر، ولن يشاد الدين احد إلا غليه، والنبي كان اتقى الناس واعرفهم بالله، وكان يعيش كانسان ياكل ويشرب ويبيع ويشترى ويصلى وينام ويتزوج النساء، والحديث بالغ الدلالة للذين يبحثون فى الدين ان يكون مدخلا للانتحار والموت لا طريق للسعادة والحياة .

وعليه فإن كل إصر وأغلال تمنع الإنسان للوصول الى السعادة والحياة والنجاة، بزعم انه دين أو إيمان، فقد رغب عن سنة النبى محمد وقد خرج من مفهوم الدين الذى يأمر بالمعروف الى عادات تأمر بالمنكر والموت .


الصيام :


من القضايا التى تناولها البرنامج قضية الصيام... أو على وجه الدقة صيام رمضان الذي يهل علينا خلال يومين .

وكورونا الذى هو فيروس وجائحة، قال أهل العلم فيه انه شديدة الخطورة على مستوى ما يفعله فى جسم المصاب أو انتقالها من التلامس والمخالطة، وان النجاة منها يتطلب الابتعاد والحجر المنزلى والنظافة الدائمة، وكذلك رفع كفاءة جهاز المناعة فى الجسم، والمناعة تتطلب بقاء الجسم ريان، وخاصة لمن يعانون من أمراض القلب والسكر والضغط المرتفع، وكذلك المصابون بالوسواس الطبيعي وليس المرضى.




يقول الله تعالى عن شهر رمضان فى كتابه قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ۚ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) البقرة .



فالصايم فرض من الله تعالى على الإنسان القادر، والقادر هو الذى يستطيع تحمل الصيام بدنيا ونفسيا، وهو يتقرب إلى الله تعالى وهو لا يشعر بالهلاك ولا يقربه من الهلاك.

فإذا عرفنا ان الفيروس يجعل من الجسم الإنساني، وعلى الأقل، للأصحاب الأعذار – المرض – لا يطيقون هذا الصيام فإن دعوة الجميع إلى الصيام مع إغفال تلك الجائحة وما يحتاجه جسم الإنسان من بقاء جسمه فى حالة جهوزية للمواجهة المرض فهو دعوة للانتحار لا الى التعبد؛ والانتحار هنا حرام.

 وعليه فإن الصيام بما انه لله وهو يجزى به كما ورد فى الحديث الشريف فكل إنسان يفتى نفسه فى قضية الصيام بعد مراجعة أهل الاختصاص وهم أهل الطب والعمل وهذا هو غاية الكلام ومنتهاه .



وقد عرض البرنامج رأى أكثر من طبيب من أهل الاختصاص واذكر منهم الدكتور توفيق حميد والدكتور حامد عبد الله والدكتور خالد منتصر، والدكتور فاتح بازر باش، وكلهم يجمعوا إلى جانب المعرفة الطبية المعرفة الدينية وقد فرقوا جميعا الفرق بين الصيام، وهو الامتناع عن الطعام والشراب وبين موضوع الجفاف الذى ينتج عن غياب السوائل ويودى الى ما يعرف بمهانة الكلى، وهذه المهانة نتيجة نقص المياة والسؤال تؤدى الى توقف عمل الكلى، وتوقف الكلى يؤثر على الكبد بما يعرف طبيا بالانهيار التعاطفى، فيزيد من ضعف جهاز المناعة وخاصة لدى مرضى السكر والضغط المرتفع والسرطان والحوامل وأمراض القلب والأطفال الأقل من خمسة عشر عاما، وفى نهاية الحديث عن الصيام، نقول ان المجاعة والجوع ليس بابا للصحة بشكل عام، والدين ليس حلا طبيا ولا علميا ولكنه طريق للوصول الى الله تعالى وليس طريقا لا للانتحار أو تعذيب النفس وهلاكها، وكل نفس بما كسبت رهينة .



وأما الجزء الثاني وقصدا للاختصار، وهو المتعلق بصلاة الجماعة والتراويح والعمرة والحج ...


نقول أن الأصل فى الصلاة هو التوجه الفردي إلى الله تعالى قال تعالى (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) 87 الإسراء.

وقال تعالى (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ 29 (الأعراف.

قال تعالى (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ 114 (هود.

وإذا كان الذكر الحكيم ذكر أقيموا الصلاة بلفظ الجماعة فإن أداء الصلاة بشكل فردى فى البيوت والرحال، لا يقلل من قيمتها، ما دام هناك ما يمنع الجماعة وهنا علينا بسد الذرائع، والذريعة هنا تفشى الوباء من خلال التقارب والاتصال والاجتماع والذى قد يؤدى الى هلال الأمة جميعا ونحن هنا مطالبون بحفظ النفس .


وللحقيقة فإن العقل السلفي - الديني - غير الواعي لا يوجد فى الإسلام وفقط، فقد عرض البرنامج صلاة فى كنيسة فى أسيوط بمصر والواعظ يجمع الناس حوله فى ازدحام شديد ويقول لهم أن قهر الكورونا فى أن تصلى من قلبك وبقلبك، ولا ادري ما علاقة أن يصلى الإنسان بقلبه ومن قلبه لله تعالى فى هذا الاجتماع الذى يؤدى الى الهلاك وتفشى هذه الجائحة، والسلفية لم تقتصر على العقل المصرى المسلم والمسيحى فقط، بل وكما رأينا فى نفس البرنامج قس اجتبى يجمع الناس حوله للصلاة فى انفعال شديد يصلى لطرد الروح الشيطانية – الكورونا- مؤمن بأنه يحارب شيطان رجيم أصاب الناس نتيجة تأخرهم أو امتناعهم عن الصلاة !!



وقد أحسنت المؤسسات الدينية الرسمية الإسلامية منها والمسيحية فقد امتنع بابا الفاتيكان عن إقامة صلاة عيد القيامة – الفصح – فى قداسه المزدحم الشهير سنويا وأقام قداسه وحده وكان هذا رشدا يجب أن يشكر عليه لأنه أدرك أن الدين مقصده حفظ النفس من الهلاك، وهذه ما فعله البابا تواضروس بابا الكنيسة المصرية الأرثوذكسية حينما صلى قداس عيد القيامة بدون الحضور الحاشد، وهو نفس ما سلكته المؤسسة الرسمية الإسلامية فى مصر وعلى رأسها شيخ الأزهر الشريف، ووزارة الأوقاف بغلق المساجد ، وإيقاف صلوات الجماعة والجمع، وهو الموقف نفسه التى فعلته المؤسسة الأولى والاهم فى العالم الإسلامي فى العربية السعودية بوقف الصلاة فى الحرمين الشريفين وبهذا ووفقا لما قاله عيسى بان السعودية دخلت التاريخ من أوسع أبوابها، لأنها قصدت حماية الإنسان وهو احد أهم المقاصد الدينية جميعا حفظ النفس البشرية التى قال الله تعالى (مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ) 32 المائدة .


وهو ما جاء فى حديث النبى أن قتل مسلم أو الإنسان أعظم حرمة على الله من هدم بيته الحرام، وفى حديث آخر الإنسان بنيان الله ملعون من هدمه، ووفقا لرأى الطب فى انتقال هذه الجائحة فإن الاجتماع والاختلاط هو نوع من أنواع القتل ومن يفعله أو يأمر به فهو قاتل، وهذا ليس روح الدين ولكن نصوصه الأصلية تقول ذلك، وعليه فإن إغلاق المؤسسات العبادية – المساجد والكنائس- وإبطال الجُمع والجماعات كحل طارئ فى مواجهة هذه الجائحة أمر مفروض على أولى الأمر وإلا كان توصيفهم الشرعى بأنهم قتله ويؤمرون بقتل الناس .



وان كانت صلاة الجماعة تزيد على صلاة الفرد ب سبع وعشرون درجة كما ورد فى كلمة الدكتور زكريا اوزون ضيف البرنامج ، ولكن الأمر مشروط بمنع الضرر والضرار، الذي أشار إليه الدكتور الطبيب أمير سليمان بان المساجد والكنائس وأماكن التجمعات أماكن مثلى لنقل العدوى وانتشار الكارثة، وان احد أسباب انتقال وباء الكوليرا سابقا فى العالم الإسلامي كان مواسم العمرة وان المعتمرين كانوا يصابون به ثم يعودون الى بلادهم حتى تفشى الوباء قديما فى كل بلدان العالم الإسلامي، وما اتفق عليه الطب قاله أهل الاختصاص أيضا كما ورد فى رأى عمار بن حمود التونسى واحمد سعيد زايد المحاضر المصرى فى علم الأديان .




وبقى لدينا فى هذه السطور القليلة العروج على قضية التراويح؛ والتراويح رغم أنها سنة عمرية – سنها عمر بن الخطاب- وليست من سنن النبي، اى أنها فى العرف الشرعي – حكما- هى بدعة، ولكن المصريين يتعاملون مع التراويح معاملة طقسية روحية اجتماعية وهى ثقيلة على النفس أن يأتى رمضان دون ان نشهد صلاة التراويح فى المساجد، ولكن يمكن أن نقول ان التراويح شرعا هى سنة فردية يؤديها الإنسان فى بيته أو مسجده منفردا، وهذا هو الأصل، ومع هذا لا البرنامج ولا كاتب هذه السطور يدعوا الى منعها، ولكن نتحدث عن المنع الذى هو سدا لذريعة انتشار الوباء والضرر، كما هو الحال فى الحديث عن الجماعة التى لا تعنى سقوط الصلاة، ولا إغلاق المساجد هى محاربة للدين ولكنها هى عين الدين فى الحفاظ على الإنسان وعدم قتله بهذا الوباء الذى يمكن أن ينتقل من شخص الى آخر .



فى النهاية نقول ان شعائر الدين لا تمارس من اجل قتل النفس ولكن شعائر الدين تمارس لرضا الرب وإدخال الطمأنة الى النفس والراحة فكيف تجتمع الطمأنة للنفس مع الخوف من انتشار العدوى والمرض من المصلى فى الجماعة أو الجمع أو المعتمر والذي حتما يمكن أن يصاب وينقل هذه الإصابة إلى أسرته وأهل بيته وجيرانهم، الذين وصى بهم النبى فى مئات الأحاديث المتواترة والصحيحة،  حتى انه قال صلى الله عليه وآله، ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت انه سيورثني ..



البرنامج والمقال ليست تحريضا على شيء أو أمرا بفعل شىئ،  ولكنه كما فهمت من البرنامج  وكما حررت مقالى،  هى دعوى للفكر والتأمل والنقاش، سواء اتفقت أو اختلفت ، ولكن يجب أن نضع نصب أعيننا جميعا حينما نتحدث عن الدين وشعائره أن الدين جاء لإسعاد البشر لا لهلاكهم وقتلهم ....



إرسال تعليق

0 تعليقات