نصر القفاص
"هو رجل له رأس فى شكل فاكهة الأناناس الخشنة.. له جسم على هيئة خضار
الباذنجان الطويلة.. وإلى جانب ذلك فإن لديه شعورا متضخما دون سبب بدوره التاريخي"!!
كان هذا هو جزء من نص تقرير كتبه "الكسندر كادوجان" الوكيل
الدائم للخارجية البريطانية عن "شارل ديجول" بعد أيام من وصوله إلى "لندن"
رافضا الاستسلام عقب احتلال قوات "هتلر" لعاصمة بلاده – باريس – ورفع
التقرير إلى رئيس وزراء بريطانيا – ونستون تشرشل – الذى مزقه وألقى به فى سلة
المهملات.. ثم طلب "ديجول" ليناقش معه خطط مواجهة قوات "المحور"
ويشاركه استشراف آفاق المستقبل, فيما بعد الحرب العالمية الثانية.. والتى كانت
نيرانها قد اشتعلت قبل أيام!!
الفرق بين الدبلوماسي الكبير والزعيم البريطاني.. أن الأول موظف يجيد تطبيق
اللوائح والقواعد.. والثاني لديه مشروع وحلم, فأدرك أن "ديجول" يملك
حلما ومشروعا فى ضوء ما عرفه عنه.
لجأت لتقديم هذا المشهد, لأنه يلعب دورا فى شرح "الزمن بعد زلزال
كورونا" وملامح هذا الزمن بدأت تتشكل.. بل يمكنني القول أن "ما بعد
كورونا" بدأ فعلا.. قبل "كورونا" كان "جونسون" رئيس
وزراء بريطانيا, يرفض فكرة تقييد حركة الناس فى مواجهة "الفيروس" على
نهج الرئيس الأمريكي "ترامب".. لكن كليهما اضطر لرفع "الراية
البيضاء" وراح يطبق منهج "الصين" متجرعا مرارة قصور الفهم ومحدودية
التفكير.. حتى ولو أحاطا نفسيهما بمراكز تفكير ومؤسسات تحمل "لافتة
الديمقراطية"!!
بدأ "زمن ما بعد كورونا" يدق أبواب الدنيا.. فلا الاقتصاد سيكون
على ما كان "قبل كورونا" ولا السياسة ستمضى فى طريقها التقليدي.. لأنه
سيكون للديمقراطية قدرة وقوة تختلفان عن شكل الديمقراطية القائمة.. سنعيش زمنا
يتنفس إعلاما آخر.. يأكل ثقافة مختلفة عن ثقافة البيتزا!!
ستتغير المفاهيم السائدة حول "حقوق الإنسان" التى تهالكت بعد سوء
استخدامها وتوظيفها سياسيا.. ستفرض الشعوب كلمتها بأقوى مما تم الاستقرار عليه.. ستكون
الحاجة ضرورية لقوانين أكثر حسما ووضوحا وصرامة.. ستلتف الشعوب حول من يملكون
الموهبة والقدرة على الإبداع.. لأن نظرة الناس لقوة السلاح وسطوة المال وغموض
أجهزة الأمن والمخابرات, ستكون قد تغيرت.. قل أنها تغيرت فعلا.. فالعالم يستنجد فى
هذه اللحظة بالعلم والأطباء بعد رحمة الخالق ولطفه.
حين أزعم أننا بدأنا "زمن ما بعد كورونا" فهذا يرجع إلى أنني
أضحك كلما قرأت من يحبسون أنفسهم فى عبارة "العالم قبل كورونا.. غير العالم
بعد كورونا" وهى تذكرنى بعبارة سخيفة شاعت تقول: "له ما له.. وعليه ما
عليه"!! لأنها كلام يأخذ شكل الكلام فقط!!
هل نحن فى مصر أدركنا ذلك؟! أي هل جهزنا أنفسنا لزمن "ما بعد كورونا"؟!
الإجابة تفرض مراجعة ما كنا عليه "قبل كورونا" لأن فيه مفتاح الإجابة..
ولعل البداية بالاقتصاد مهمة.. فنحن
ما لم نكن قد تمكننا من وضع أسس اقتصاد يطمح فى تحقيق تنمية شاملة.. ما استطعنا أن
نبادر بإجراءات وقرارات تكلفتها باهظة ماليا.. لكننا وجدناها حاضرة فى الوقت
المناسب.. وما لم تكن القيادة السياسية جاهزة للتعامل مع مخاطر غير تقليدية, ما
استطاعت أن تظهر هادئة ومتماسكة وقادرة على الإمساك بدفة سفينة الوطن.. وحتى أكون
واضحا لابد أن أحدد القيادة السياسية فى الرئيس "عبد الفتاح السيسى" أولا..
وبعد ذلك من حوله.. وهنا سنجد أن القيادة العسكرية تعمل معه بتناغم وخفة
حركة تؤكدان أنهما على موجة واحدة..
كذلك رأينا القيادة الأمنية التى أظهرت يقظة واضحة واستعدادا انتزع احتراما
وتقديرا واجبين.. ثم نأتى إلى مجلس الوزراء الذى حقق نجاحا نسبيا, يستحق الإشادة..
وحين أقول "نجاح نسبى" فهذا يرجع إلى ارتباك بعض الوزراء, كما أن الأزمة
كشفت عجز آخرين عن مواكبة الحدث وتداعياته.. لكن الحكومة فى مجمل ما فعلته حققت
نجاحا.. وذلك إن شئنا الدقة والإنصاف.
نأتى بعد ذلك إلى مؤسسة التشريع – البرلمان – فقد وضح أنه خارج الخدمة
تماما.. بداية من وكيل مجلس النواب القائل "شعب مش عايز يفهم"!! مرورا
برئيس المجلس الصامت بإبداع.. دون إغفال النواب الذين لا يرتاح الشعب لصمتهم
وعجزهم, كما لا يرتاح لكلامهم.. لأنهم يحتاجون إلى دروس خصوصية فى الفكر والسياسة
ومخاطبة الجماهير!!
ويمكننا أن نمد الخط على استقامته لنجد أن الأحزاب السياسية انتزعت الفشل
بجدارة.. يتقدمهم "مستقبل وطن" الذى حاول أن يفعل, فقدم "هرتلة"
تصلح لأن تكون مشاهد فى أفلام الكوميديا!!
وكذلك كانت النقابات.. كما كانت ما تسمى بمنظمات المجتمع المدنى, والتى استفزت
الرأي العام باجتهادات بدائية وسخيفة.. كما فعلت تلك الجمعية التى تثير حولها
وداخلها علامات الاستفهام, وفشلت محاولة تجميلها من جانب رجال مال وبقايا فنانين
وحطام رياضيين!! وهذه ليست قسوة بقدر ما هى محاولة رؤية للحقيقة بحجمها الطبيعى..
ويتبقى الإعلام الذى يرفض مواكبة الحاضر, فيصبح طبيعيا أن يكون ضعيف البصر
والبصيرة فى التطلع إلى المستقبل.. وينطبق التوصيف على الثقافة.. ويكفينى هنا أن
أشير على القائمين بأمر الثقافة والإعلام بأن يسألوا عن شعار يتصدر مقر المخابرات
المركزية الأمريكية ويقول: "لابد أن نعرف كل شيء.. وإذا عرفنا سننتصر" ولعلى
أقول ذلك باعتبار أن المعرفة لها وجهين.. أحدهما "علني" تقدمه الثقافة
والإعلام.. وثانيهما "سرى" وتقوم به أجهزة الأمن والمخابرات..
وواضح أننا نجحنا فى الفعل "السرى"
ونعانى عجزا فى الفعل "العلنى" وتلك هى زاوية رؤيتى.
أعود إلى أسئلتي.. لأشير إلى أن اهتماما نسبيا بالصناعة, يؤكد استعدادنا
للتركيز عليها وإعطائها أولوية فى "زمن ما بعد كورونا"..
كما أن اهتماما نسبيا بالتعليم
يؤهلنا للبناء عليه.. أما ملف "الصحة" فقد أكد "زلزال كورونا"
أنه يستحق اهتماما وتركيزا لا يقل عن التسليح للجيش والدعم لأجهزة الأمن.. ففى "زمن
ما بعد كورونا" ستصبح أضلاع مربع الجيش والشرطة والصحة والتعليم هى الأهم..
وما لم يدعم هذا المربع إعادة
صياغة شاملة لنهج السياسة ومنهج الإعلام وإستراتيجية الثقافة مع تطوير فعل
النقابات ومنظمات المجتمع المدنى.. سنكون أشبه بمن يحاول أن يمشى على ساق واحدة.. وألتقط
من بعض القرارات الصادرة عن القيادة السياسية أنها شرعت فى الإعداد لانطلاقة "مابعد
كورونا" ومنها ما يتعلق بالصحة تحديدا كأولوية قصوى.. إضافة إلى صمت تجاه
سلوك "رجال المال.. الذين نسميهم تجاوزا برجال الأعمال.. بعد أن أكد "زلزال
كورونا" اعتقادهم فى القدرة على إعادة عقارب الزمن للوراء.. وكان أكثرهم جرأة
فى كشف نفسه القائل "علينا أن نعود للعمل لحماية الاقتصاد" ثم هدد ببحور
دم وانتحار.. وتخاريف تعكس حالة من يفاخرون "بعورتهم" اعتقادا أنها "ثروة"!!
محنة "كورونا" حملت معها "منح" كثيرة لنا فى مصر, كما
ستفعل مع الدنيا.. فهل سنخرج منها على "درب الصين" أما سنتعامل معها وفق
رؤية الوكيل الدائم للخارجية البريطانية للزعيم "ديجول"!! وما استطيع
القطع به أن أوراق اللعبة لم تعد فى يد "رجال أمريكا"!!
0 تعليقات