آخر الأخبار

شاي شاي شاي .. مع ضمير للبيع !









الدكتور إياد البنداوي


ما زلت أتذكر جيدا أثناء مناقشة أطروحتي للدكتوراه امتعاض استأذنا القدير الدكتور عبد النبي خزعل (حفظه الله) من استخدامي لمصطلح (تقنيع الواقع) في وصف الخطاب الدعائي لأنه مصطلح غير واضح وغير متداول برأيه ، ورغم أنني أوضحت له وجهة نظري في استخدامه إلا انه لم يقتنع (بالتقنيع) وأظنه ما زال كذلك للان.



ولعل الدكتورة حميدة سميسم حينما استخدمت هذا المصطلح وعرفت الخطاب الدعائي بأنه (عملية تقنيع الواقع وتصوره وفق إدراك مسبق لما يجب أن يكون... ) كانت تشير باختصار لما أود الحديث عنه في هذا المقال ، وهو أن وسائل الإعلام لا تقدم الواقع الحقيقي الذي نعيشه في حياتنا اليومية بل تلبسه قناعا دعائيا يحرف غالبا الحقائق على الأرض ويزيف الأحداث ويلبسها قناعا يتناسب مع ما يريده أصحاب السلطة والمال الذين يرفعون شعار فرعون العتيد (ما أريكم إلا ما أرى) ، فليس كل مظلوم في وسائل الإعلام مظلوم فعلا ، ولا كل شريف وعفيف ونزيه هو كذلك في الواقع ، إذ غالبا ما يكون العكس هو الصحيح ، كيف يحدث ذلك ؟ تابعوا معي .



إن الإعلام مسؤول عن صنع واقع أخر يختلف كثيرا عن الواقع الحقيقي الذي يعيشه الأفراد ويتفاعلون مع تفاصيله اليومية ، وهذا الواقع المصطنع يطغى على عقول الجمهور ويسيطر على أفكارهم عبر أساليب الانتقاء المتعمد والإبراز والتضخيم والإخفاء والتعتيم والتأطير والتكرار وتشكيل الصور النمطية ، ليهيمن الأعلام على عقلية المتلقين ويصنع واقعا مزيفا حينما يتحول إلى أعلام مضلل منحاز بعيد عن روح الدقة والموضوعية والحياد التي يفترض ان يتحلى بها ، وهو ما نلحظه بوضوح في أوقات الصراع والأزمات والحروب.


ماذا يعني ذلك ؟ ، لنأخذ مثلا من المشهد الإعلامي العراقي ، فضائية ( UTV ) التي انطلقت قبل أيام في بداية شهر رمضان المبارك ، والتي يرعاها السياسي العراقي (خميس الخنجر) المثير للجدل والمتهم بقضايا تتعلق بالإرهاب.


عرضت هذه القناة حلقة بعنوان ( شاي شاي شاي ) ضمن مسلسل ( بنج عام) للسيناريست البصري احمد وحيد ، وسلطت الضوء فيها على حادثة اغتيال نازح بسيط من أهالي المناطق الغربية ، نزح الى المدن الجنوبية بعد احتلال داعش لمنطقته ، وتعرض الى تنمر كبير من بعض سكنة المنطقة التي نزح اليها بعد ان اتهمه البعض بالانتماء لداعش واتهمه البعض (بالعلاسة) لصالح جماعات مسلحة في هذه المنطقة ، لتنتهي الحلقة باغتياله .



إذا ما علاقة هذه الحلقة وبطلها النازح بائع الشاي بمقالنا هذا وبدور وسائل الإعلام في تقنيع الواقع وتقديم واقع مضلل ومزيف ؟!



استقبلت مدن الوسط والجنوب العراقي أخوتهم النازحين من جراء الحرب مع تنظيم داعش الإرهابي عام 2014 ، وفتح الجنوبيون قلوبهم قبل بيوتهم ومساجدهم وحسينياتهم لأهالي المحافظات الغربية ، وقاسموهم لقمة العيش ، ولم تسجل في الواقع اي حادثة اعتداء أو تجاوز أو انتهاك لحقوق النازحين في هذه المدن الكريمة المعجونة طينة أهلها بطين الأرض والمروءة والحمية والغيرة.


وبعض العوائل الجنوبية تركت بيوتها وانتقلت للسكن مع أقاربها لتفرغها لاستقبال الضيوف الكرام ، ولم يقتصر الأمر طبعا على كرم الضيافة والإيواء وهو حق للأخ على أخيه ولأبناء الوطن الواحد على أهلهم وليس منة ولا فضلا ، لم يقتصر الأمر على ذلك فقط ، بل تناخى الشباب في وسط وجنوب العراق ليقدموا أرواحهم في سبيل تحرير الأرض ومنع غول داعش من ابتلاع وطن التأريخ والحضارة والمقدسات في ملحمة كان أبطالها رجال الحشد والجيش والقوات الأمنية.



فكيف ارتضي كاتب معروف مثل أحمد وحيد أن يبيع ضميره لمن يدفع ليقلب الحقائق ويعكس الأحداث ويصور مدن الشهداء بمظهر المدن التي لم تحفظ حياة ضيوفها وتقتلهم جهارا نهارا ؟ ، وهل حصل هذا في الحقيقية ؟ أم العكس ؟




كنت أتمنى أن يسلط المسلسل في حلقته هذه الضوء على من تسبب بدخول داعش وتشريد العوائل وقتل الأبرياء من الطرفين ، وليته تحدث عمن نهب أموال الإغاثة المخصصة لمخيمات اللاجئين وتركهم في العراء منذ سنوات ، وبدل ان يسلط الكاتب (الجنوبي) الضوء على بطولات أخوته المقاتلين المضحين نراه يصطاد في ماء التضليل والتزييف وقلب الحقائق العكر ليوهم المتلقي أن الضحية هو الجلاد ، ليرضي الجلاد الحقيقي الذي يبدو أن (مصاريه) تعمي القلوب والأبصار وتشتري الضمائر والأقلام المعروضة للبيع.

إرسال تعليق

0 تعليقات