عز الدين البغدادي
بلا شك فإن علم الآثار من العلوم الهامة جدا، والتي توفر معلومات ملموسة عن
التاريخ القديم، وهو التاريخ الذي لا تجد كثيرا من المعلومات عنه.. إلا أن من
الخطأ أن نبالغ كثيرا في تحميل المعلومات التي نحصل عليها لنثقلها بما نضيف عليها
من تحليلاتنا ورؤانا الخاصة، واعتقد أننا لو فعلنا هذا سنقع في إشكال منهجي خطير،
وربما أخلاقي أيضا.
علم الآثار يمكنه أن يساعدنا في الإثبات لكن قابليته على النفي محدودة،
بمعنى أننا يمكن ان نجد ما يدل على وجود ملك أو قائد اسمه كذا وكذا، لكن لا استطيع
ان انفي وجود شخصية أخرى لأني لم أجد ما يدل عليها. أقصى ما يمكن أن أقوله بأن
البحث العلمي لم يصل بنا بعد إلى نتيجة.
سأقرب لك الأمر، وأقول لك: لو أردنا أن ندرس حادثة تاريخية وقعت منذ خمسين
سنة، مثلا انقلاب 8 شباط فإننا سنجد أنفسنا بين مئات المصادر والشهادات والدراسات،
ومع ذلك يمكن أن تجد شهادة ما تقلب القراءة السائدة التي استندت إلى تلك المصادر،
فهناك أسباب كثيرة تجعل قراءة ما أكثر مقبولية وشيوعا. كما إن أي قراءة سائدة تجد
فيها ثغرات يمكن أن تعطي تبريرا للقراءات الأقل شهرة.. وقارن ذلك بمعلومات متناثرة
يوفرها علم الآثار عن ملك ربما اذا جمعتها لن تحصل على أكثر من صفحتين او ثلاثة،
ومع ذلك نصر على تكوين صورة شاملة واسعة جدا اعتمادا عليها.
ثم ألا يحتمل ان المعلومات التي تحملها بعض الآثار غير صحيحة، وتعبر عن
رؤية أو أمنية أو تمجيد لشخصية أكثر من واقع حالها.
أثار المؤرخ العراقي د. خزعل الماجدي جدلا واسعا واستغرابا كبيرا في محاضرة
ألقاها على هامش معرض الكتاب الدولي في القاهرة، والتي تحدث فيها عن الحضارة
المصرية.
الغريب انه ذكر بأنه قرأ تاريخ 44 ملكا (فرعونا) حكموا مصر، ولم يجد فيهم
ظالما‼
وهذا غريب جدا وصورة مثالية لا يمكن تصديقها عن عدم وجود ملك ظالم واحد ضمن
هذا العدد الكبير ممن حكم مصر ملكا‼
وأضاف بأن من يقولون إن الفرعون
ظالم هم "دجالين ومشعوذين"‼
ثم أراد أن يؤكد رأيه، فقال: إن الملوك المصريين كانوا يرون أنفسهم آلهة
تنظم الكون فمن المستحيل أن يكونوا من الطغاة والظالمين‼
وقال بأن هؤلاء الملوك الالأهة كانوا يرتجفون خوف أن لا يعدلوا‼
وهذا استنتاج غريب عجيب، وكلام أقرب إلى النفي منه إلى الإثبات.
ثم أضاف: ما يقال عن موسى وفرعون رواية دينية، وفى الحقيقة نحن لا نأخذ
بالرواية الدينية كمؤرخين ونحن للأسف لم نجد أى أثر لموسى فى مصر ومن بين آلاف
النصوص لا نعرف موسى ولا يوسف فى مصر‼ وقال بأنه لا يعتمد علي النصوص الدينية في
كتابه التاريخ.
وهذا برأيي خطأ، فالمؤرخ لا يترك قرينة دون أن ينتفع بها، وهو قادر بحسه
التاريخي على التمييز بين القصص التي يمكن وضعها ضمن الأساطير، وتلك التي تصلح
كقرينة تاريخية على الأقل.
كعراقي اعتز جدا بشخصية أخذت حيزا هاما مثل د. خزعل الماجدي، واتفق معه في
أمور من قبيل إعادة تقديم فهم أفضل لمفهوم النبوة، لكن اعتقد ان الأستاذ الفاضل
يختلط عنده العلمي (الآثار) برؤيته الفلسفية الخاصة (فلسفة ونشوء الأديان) كما كنت
آمل لو أنه كمثقف تحدث بلغة أكثر احتراما للكتب الدينية لاعتبارات كثيرة، وكعالم
ان لا يطلق إحكاما كهذه وتحليلات غريبة مثل تلك التي أطلقها.
0 تعليقات