هانى عزت بسيونى
بسم الله الرحمن
الرحيم
{وَإِذْ أَخَذَ
رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى
أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا ، أَنْ تَقُولُوا
يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ .. } .. صدق الله العظيم
..
.. انه الإعجاز في
وصف مشهد عظيم .. حضره كل منا في زمن ما ، فلو أخذنا من سياق الآية الكريمة حرف "إذ"
وهو في اللغة ينصرف إلى الزمن سنجد ان المعنى في أن نذكر ما حدث في زمن البداية
تلك عندما أخذ الله من ظهور بني آدم ما اخذ من ذريته الى يوم يبعثون ... فتفصيل
الآخذ في المعنى هو الله عزل وجل .. والمأخوذ منه هو ابونا آدم ... والمأخوذ من
ادم هو ذريته أي نحن ، ثم من ذريته إلى ذريته الى أن تقوم الساعة ..
هذه هي العناصر
المتكاملة في المعادلة التي أمامنا للتأمل والتدبر .. وهي الحكمة الأساسية للمشهد
، ولنتأمل إذن وبدقة شديدة ما حدث ..
فعن هذه الآية فيما
يرويه أبو هريرة رضي الله عن قول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
( لما خلق الله تعالى
أدم عليه السلام مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة ( انسان ) هو خالقها إلى يوم
القيامة وجعل بين عيني كل إنسان منهم وميضاً من نور ثم عرضهم على آدم فقال آدم : أيْ
رَبَّ ، من هؤلاء ..؟
قال سبحانه وتعالى : هؤلاء
ذريتك يا آم ..
إذن ذرية آدم "جميعاً"
أُخذت من ظهر آدم وحده في ذلك المشهد فكان آدم هو الأصل ، ونحن نعلم أنّ كُل منا
قبلَ أن تحملَ به أمّه كان ذَرَّةً في ظهر أبيه ، وأبوه كان ذرّة في ظهر أبيه
صعوداً حتى آدم .. وهكذا نجد أنَّ كل واحد مأخوذ من ظهره ذرية من قبله الى ادم
عليه السلام ..
وهناك أناس يؤخذون - كذرية
- ولا يؤخذ منهم ذرية .. وهم من فرض الله سبحانه وتعالى عليهم أن يكون الواحد منهم
عقيماً لا ينجب ، واستمرار لهؤلاء الى آخرُ جيل تقومُ عليه الساعة لن يتمكنوا من الإنجاب
أي لن يؤخذ منهم ...
وبهذا عَلمْنا القرآن
الكريم أنَّ كل ذرّة من تلك الذرات عظيمة الإبداع والخلق قد أُخذت مما قبلها وأُخذ
منها ما بعدها وكلها مأخوذ ومأخوذ منه باستثناء آدم لأنه مأخوذ منه وهو ليس مأخوذ
من شيء ، فقد خلقه الله بداية لكل البشرية الى آخر ولد من أولاده في هذه الحياة
الدنيا ليكون الأخير مأخوذ وليس مأخوذ منه بعكس آدم المأخوذ منه وليس بمأخوذ ..
لنتأمل قول ربنا
سبحانه وتعالى : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بني ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ...} [ سورة
الأعراف آية ١٧٢] ..
ربما هنا قد يقول
قائل متسائلاً .. ؟
أكان لهذه الذرية
القدرة على النطق وقت ان أُخِذت جميعاً من ظهر آدم في ذلك المشهد الرائع ...
أليست تنتظر التكوين
بأن تتحد بـ (البويضة) في رحم الأم ليكتمل التكوين ؟
أجيبه وأقول .. لماذا
تظن أن مخاطبة ربنا لهم أمرُ صعب او مستحيل !!!؟
إن الإنسان من البشر
يستطيع أن يتَعلَّم عَشْرَ لغاتٍ وأكثر ، فإذا كان الإنسانُ يستطيع أن يعدد وسائل
الأداء والمخاطبة بلغات عدة .. ألاَ يقدر من خلقه سبحانه جل شأنه أن يعدد وسائل
الأداء والتخاطب لمخلوقاته ؟!
إنه الله الخالق
القادر ، ألم يقل الحق تبارك وتعالى للجبال: { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا
فَضْلًا ۖ يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ۖ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ...
[سورة سبأ آية ١٠ ].
كيف إذن لا يتسع أفق
الإنسان لأن يدرك أن الله قادر على أن يخاطب أيّاَّ من مخلوقاته !؟
إنه قادر على أن
يخاطب كل مخلوق له بلغة لا يفهمها الآخر وهو القائل سبحانه: { وَسَخَّرْنَا مَعَ
دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ...} [سورة الأنبياء آية ٧٩].
.. هكذا نتعلم ..
نتعلم من القرآن
الكريم أن الجبال تسبح أيضاً من غير نبي الله داود عليه السلام شأنها شأن
المخلوقات جميعها مصداقاً لقول الحق تبارك وتعالى :
{ وَإِن مِّن شَيْءٍ
إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ...} [سورة
الإسراء آية ٤٤] ..
وحتى ذرات يد الكافر
تسبح وإن كان تسبيحها لا يوافق إرادته ... سبحان الله ...
وقول الحق سبحانه
وتعالى : { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ } يبين لنا أن الجبال
كانت تردد تسبيح داوود وتلاوته للزابور ...
بل ولا يقتصر أمر
الحق إلى الجبال بل إلى كل مخلوقاته سبحانه ، والامثلة عظيمة وكثيرة ألم يوحيّ
ربنا سبحانه وتعالى إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً من الشجر ومما يعرشون كما
قال سبحانه وتعالى { وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ
الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ } [سورة النحل ايه ٦٨
] ..
إذن لله سبحانه
وتعالى في خلقه شئون وأدوات خطاب ، فهو الذي خلق الكون والمخلوقات ويقول للشيء كُن
فيكون .....
فإذا قرأنا أن الحق
تبارك وتعالى قال لذرية آدم : ألست بربكم؟ .. فهذا يعني أنه قالها لهم باللغة التي
يفهمونها لأنه هو سبحانه الذي قال للسماء والأرض: { ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً
قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ سورة فصلت آية ١١ ] فبأي لغة تحدث سبحانه
وتعالى مع السموات والأرض !!!؟؟؟ .
وهل نسينا حين تكلمت
النملة وفهم سليمان كلامها .. !!!؟ .. فمن علّم سليمانَ كيف يفهم كلام النمل ... سبحان
الله في قوله عز وجل : { قَالَتْ نَمْلَةٌ ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ
يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ...} [ سورة النمل: آية ١٨ ] ... النملة أيضا
تفهم ما يفعله البشر حين يدوسون على كائنات صغيرة دون أن يروها .. فمن علم النمل
هذا .. وفهم سليمان عليه السلام لغتها !!!؟ ...
... وكذلك تكلم
الهدهد ليخبر سيدنا سليمان عن مملكة سبأ وحالة بلقيس وقومها .... فمن علم سليمان
عليه السلام لغة الهدهد !!!؟..
الله عز وجل يخاطب
جميعَ خلقه ويجيبُه جميعُ خلقه ، ولا ينبغي أن تقل كيف خاطب المولى سبحانه الذر من
ظهر بني ادم والذَر لم يكن مكتملاً في خلقه .. اليس الذر خلق من خلق الله وله لغته
أيضا قبل اكتماله .. سبحانك يارب !؟
إعجاز لم يصل بعد الى
عقول العلماء بل لم يفكروا أن يدخلوا في هذه المسألة بالأساس لأنها في ظاهرها
بعيدة عن العقل ، ويكفي أن ربنا الخالق القادر قد أبلغنا أنه قد خاطب الذرات قائلا
: ألست بربكم ..؟
فقالوا : بلىَ شهِدنا
… سبحان الله ..
لقد أشهدنا الحق على
وحدانيته ونحن في عالم الذر : { وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ
بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ } .
إنها معجزة الفطرة
المودعة في النفس البشرية وكأنه سبحانه قد أودع في النفس البشرية والذات الإنسانية
فطرةً تؤكد له أنَّ وراءَ هذا الكونِ إلهاً خالقاً قادراً مدبراً سبحان الله في
قدرته وعظمته .
ويقال ( أشهدته ) أي
جعلته شاهداً والشهادة على النفس لَوْنٌ من الإقرار والإقرار سيد الأدلة ، لأنك
حين تُشهد إنساناً على غيره فقد يغيّر الشاهد شهادته ولكن الأمر هنا أن الخلق
شهدوا على أنفسهم وأخذ الله عليهم عهد الفطرة خشية أن يقولوا يوم القيامة: { إِنَّا
كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ } .
هي الفطرة والتأمل والتدبر
والتبصر ببصيرة الهدي والهداية التي تهدينا أن وراء هذا الكون العظيم قدرةً تناسب
هذه العظمة .. قدرة تناسب هذه الدقة التي أخذنا منها موازين الحياة فسبحان الله
تعالى الخالق العظيم ..
0 تعليقات