د. إبراهيم علوش
ما برح البعض يثير ذكرى الهزيمة في حزيران من كل عام، منذ عام 67، في سياق
يوحي وكأن الهزيمة كانت دلالة على تهافت الخيار الناصري في السياسية العربية، خيار
المواجهة مع العدو الصهيوني، وخيار العمل لتحقيق الوحدة العربية، والبناء والتنمية
والعدالة الاجتماعية، ودعم حركات التحرر عربياً ودولياً، مع أن أحد أبرز الأمثلة
على إنجازات تلك السياسة كان دعم ثورة الجزائر في الخمسينيات والستينيات، حتى
نهايتها المظفرة، بعد أكثر من مئة وثلاثين عاماً من الاحتلال الاستيطاني الفرنسي،
وهو السبب الرئيسي الذي دفع فرنسا للمشاركة بالعدوان الثلاثي على مصر عام 1956.
ولأن معظم العرب اليوم لم يعاصروا مرحلة الخمسينيات والستينيات، فإن ما
يصلهم عنها يبقى مشوباً بالضرورة: 1) برواسب الصراعات التي كانت قائمة في تلك
الفترة ما بين الشيوعيين والقوميين والإسلاميين، وما بين البعث والناصرية، 2) بالصراع
الذي كان قائماً ما بين المحور المصري والمحور السعودي في تلك المرحلة، 3) بامتداد
ذلك الصراع بين هذين المحورين الذي ما برح قائماً في بلادنا ما بين خيار المقاومة
والمواجهة والتحرر من جهة، وخيار التسوية والتعاون مع الطرف الأمريكي-الصهيوني من
جهة أخرى. ولهذا ما زالت أطرافٌ متعددة، كلٌ لدوافعه، تسعى لتوظيف هزيمة حزيران
إما لاحتلال مكانة عبد الناصر التاريخية كممثل لخيار المواجهة والتحرر، أو لإسقاط
ذلك الخيار برمته لمصلحة خيار الهزيمة والاستسلام. ولو كان عبد الناصر قد سقط
فعلاً لما احتاج أعداؤه للاستمرار بالسعي لتوظيف هزيمة ال67 لإسقاطه…
الغريب أن مثل هذا التوظيف السياسي للهزيمة يتجاهل أن كل الأمم والحركات
التاريخية الكبرى تمر بهزائم ونكسات، وليس هناك حركة سياسية كبرى في تاريخنا
بالأخص، من الدعوة النبوية إلى الثورة الفلسطينية المعاصرة إلى غيرها، إلا وتعرضت
لضربات ونكسات تهد الجبال، ولكنها كانت دوماً تعود لتنهض لأن العبرة تبقى في أهداف
تلك الحركة السياسية ومدى تعبيرها عن الحاجات التاريخية للأمة. مثلاً، لو تمت
إبادة كل فصيل مقاوم في فلسطين، فإن حركة المقاومة والتحرير ستولد من جديد ما دامت
فلسطين محتلة. وما دامت الأمة العربية مجزأة وتابعة ومحتلة ومتأخرة عن ركب
الحضارة، فإن حركة الوحدة والتحرر والنهضة لا بد لها أن تولد من جديد، سواء تحت
عنوان إسلامي أو ماركسي أو بعثي أو ناصري أو غيره، لا يهم، لأن حاجة الأمة
التاريخية لأمثال عبد الناصر هي التي تجعله يولد من جديد، بالرغم من هزيمة حزيران
ومحاولة توظيفها لإسقاطه.
بالرغم من ذلك، لا بد من التعلم من الأخطاء والتجارب، ولا ينزه عن الأخطاء
مخلوق، وليس من الحكمة أن نتعامل مع الأخطاء باستخفاف ورعونة. وفيما يتعلق بهزيمة
ال67، توصلت من خلال مجموعة من الأدبيات التي تعالج تلك المرحلة، ومنها الأدبيات
الأمريكية والصهيونية المعادية، إلى طبقتين محتملتين من الأسباب التي أدت إليها. فهناك
أولاً مجموعة من الإشكالات السياسية والعسكرية التي أفرزت الهزيمة، وهناك ثانياً،
من يربط الهزيمة بتأخر المجتمع العربي حضارياً.
المفكر ياسين الحافظ مثلاً في كتابه “الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة” يرى
بأن الهزيمة كانت نتاج التخلف الحضاري للمجتمع العربي إزاء “إسرائيل” المدعومة من
الاستعمار الغربي. فهي بهذا المعنى معركة لا تعتمد على العدد، ولا حتى على العتاد،
بل تشبه غزو هولندا الصغيرة لأندونيسيا الكبيرة، أو احتلال بريطانيا للهند الأكبر
منها بكثير، فهي نتاج تخلف البنى الاجتماعية والسياسية للمجتمع العربي، وهذا الأمر
لا يحل باستيراد السلاح المتقدم، بل بتقدم الإنسان نفسه، وتقدم العلاقات القائمة
بين البشر في المجتمع الذي يخوض الحرب، فسلاح الجو مثلاً ليس فقط مجموعة طائرات
حديثة أو غير حديثة، بل علاقة بين الإنسان والآلة في سياق منظومة متكاملة لا يمكن
فصلها عن التقدم الحضاري للمجتمع، ويعتمد ياسين الحافظ في هذا على رأي فون
كلاوزفيتز، مرجع العلم العسكري، بأن الحرب اختبار لجميع قوى الأمة من اقتصادية
وتنظيمية، وبأن قبضة اليد (القوة العسكرية) تستمد قوتها من قوة الجسم (المجتمع) الذي
يحملها.
ولعل الأمثلة على ما ذهب إليه ياسين الحافظ لا تعد ولا تحصى، من اجتياح
المستعمرين البيض لأمريكا إلى احتلال نابليون لمصر في المعركة الذي قتل فيها 87
فرنسي وثلاثة آلاف مملوك (وثمة خلاف على هذه الأرقام، ولكنها ضمن هذه الحدود)، وقد
عبر وقتها نابليون عن نفس الفكرة بعد متابعته لسير المعركة بقوله: لا شك لدي بأن
مملوك واحد يمكن أن يهزم فرنسي واحد، وأن عشرة مماليك يهزمون عشرة فرنسيين، وأن
مئة مملوك قد يتعادلون مع مئة فرنسي، وأن ألف فرنسي يستطيعون أن يهزموا عشرة آلاف
مملوك!!!
فما عبر عنه نابليون هنا هو فكرة التخطيط الاستراتيجي والعمل الجماعي
المنظم، أو باختصار، مدى تقدم البنية التنظيمية التي يفرزها مجتمع صناعي يقوم على
العلم على البنية التنظيمية التي يفرزها مجتمع متخلف… فالجندي الأمي لا يعادل
الجندي المتعلم، والضابط الساعي فقط للامتيازات لا يعادل الضابط المتفقه في العلم
العسكري، الخ… وهو الأمر الذي يؤكد أهمية تحقيق النهضة في المجتمع العربي، دون أن
يعني ذلك أبداً أن علينا أن نؤجل القتال إلى ما بعد النهضة كما يطالب بعض الإنهزاميين!
فالمطلوب هو عدم خوض معارك نظامية مع قوى متقدمة تكنولوجياً. ولهذا ينتصر العرب في
معارك حرب العصابات، ويخسرون المعارك النظامية مع الدول المتقدمة، وهو قانون عسكري
أثبتته التجارب.
وبعد العامل الحضاري فقط يمكن أن نتناول الأسباب المباشرة للهزيمة،
السياسية والعسكرية، التي تحفل بها معظم الكتب. والأبرز هنا هو الضربة الجوية
المفاجأة والصاعقة يوم 5 حزيران 67 التي تم فيها تدمير سلاح الجو المصري أولاً، ثم
سلاح الجو السوري والأردني والعراقي. وكانت الحصيلة ضياع 416 طائرة عربية على
الأرض قبل بدء المعركة. وفي مسرح عمليات صحراوي منبسط ومكشوف، كان ذلك يعني بقاء
القوات البرية والمحمولة دون أي غطاء جوي مما أدى لجزرها جزراً. وبدون غطاء جوي
تتحول الحرب النظامية إلى مجزرة بالقوات المكشوفة، مع العلم أن مجموع القوات
المصرية والسورية والأردنية كان 290 ألفاً، منهم عشرون ألفاً من الجيش المصري في
اليمن، ومجموع القوات الصهيونية 264 ألفاً، ومع العلم أن جزءاً لا بأس به من
القوات العربية لم يدخل المعركة أصلاً.
فلماذا حدثت المفاجأة في 5 حزيران؟ حسب المفكر عصمت سيف الدولة في “رسالتان
إلى الشباب العربي”، حدثت المفاجأة لأن الاتحاد السوفيتي السابق ضغط على عبد
الناصر لكي لا يكون البادئ بالهجوم بسبب اتفاق القوتين العظميين يوم 26/5/67 على
عدم تفجير أزمة دولية. وبالتالي حدث هنا خلل بربط القرار المصري بالقرار
السوفييتي، ولم يكن بالإمكان إلا ما كان لأن مصر وحدها لا تستطيع أن تخوض المعركة
بدون الدعم السياسي واللوجيستي للحليف السوفيتي. فاستغلت “إسرائيل” ذلك وغدرت بمصر
والعرب في 5 حزيران، مما استفز السوفييت كثيراً، ولكن هيهات!
وبالعودة للمراجع الأمريكية، وجدت أن “الإسرائيليين” اشتكوا للرئيس
الأمريكي آنذاك ليندون جونسون أن مصر التي أغلقت مضائق تيران أمام الملاحة “الإسرائيلية”،
وحشدت مئة ألف جندي والف دبابة على الحدود، رداً على التهديد “الإسرائيلي” لسوريا،
كانت على وشك أن تهاجمهم حسب زعمهم!! فأرسل الرئيس جونسون برقية إلى الرئيس
السوفييتي ألكسي كوسيغين هدده فيها أن يلجم مصر إن لم يرغب بأزمة دولية، وفي الثانية
والنصف صباحاً، يوم 27/5/67، أيقظ السفير السوفييتي في مصر الرئيس عبد الناصر
ليبلغه الرسالة التالية من كوسيغين: “لا نريد لمصر أن تلام على بدء حرب في الشرق
الأوسط. فإذا بدأتم الهجوم، لا نستطيع دعمكم“.
وتزعم مراجع “إسرائيلية” أن هذا دفع بمصر لإلغاء خطة الهجوم والتحول إلى
مواقع دفاعية، وهو الأمر الذي أعطى “إسرائيل” زمام المبادرة، فدمرت سلاح الجو
المصري، مما ترك الجيش المصري مكشوفاً في الميدان، وهو ما غير مسار الحرب برمتها
بسبب المفاجأة الصاعقة “الإسرائيلية”.
ولعب التخلف دوره هنا أيضاً، فالطائرات كان جاثمة على الأرض في المطارات
بدون ملاجئ حصينة مسلحة، والرادار المصري كان مغلقاً لسببٍ ما! مع أن المراجع “الإسرائيلية”
تقول أن الطائرات الصهيونية طارت دون مدى الرادار المصري، وأدنى من النقطة الدنيا
التي تستطيع فيها صواريخ سام-2 المضادة للطائرات أن تصيب أهدافها! وما حدث على
الجبهة المصرية تكرر على الجبهتين السورية والأردنية، فمن أصل 24 طائرة هوكر هنتر
بريطانية في الأردن دمرت عشرون على الأرض، و55 طائرة ميغ سورية متنوعة، وطائرتي
إليوشن، أما سلاح الجو العراقي فخسر 22 طائرة عسكرية متنوعة قبل بدء المعارك.
وكان هناك ضعف شديد بالتنسيق والإمداد بين القيادة العسكرية والقوات
المنتشرة على طول الجبهة، وارتكبت القيادة العسكرية العليا أخطاءً، ليست كالأخطاء،
أدت إلى تسليم مساحات كاملة بدون قتال عندما أمرت القوات بالانسحاب بعد خسارة عددٍ
من المعارك الأولية. مثلاً، في معركة أبو عقيلة في سيناء،
ويرى بعض المحللين السياسيين أن عبد الناصر الذي بقي يعلن تكراراً خلال
الستينات أن الظروف ما زالت غير مهيأة لتحرير فلسطين، وأنه لا يملك خطة لذلك، ومن
يقول أن لديه خطة للتحرير هو مخادع، قد تم استدراجه استدراجاً للمعركة، خاصة أن
الصحافة السورية والسعودية والأردنية آنذاك بقيت تثير موضوع الملاحة “الإسرائيلية”
في خليج العقبة، عبر مضيق تيران، والقوات الدولية الموضوعة في سيناء منذ عام 1957…
ولم يكن يتوقع عبد الناصر أن تندلع الحرب بهذه الصورة، ولكنه لم يملك أن يقف
صامتاً إزاء الاستفزازات العسكرية لسوريا، والتهديدات باجتياح دمشق، المفبركة حسب
البعض، فأمر بسحب القوات الدولية من سيناء، وأغلق مضائق تيران، وهدد بالحرب إذا تم
العدوان على أية دولة عربية.
أخيراً، بالرغم من الاتفاقية الدفاعية بين مصر وسورية والأردن، تصرفت الدول
العربية كجيوش مختلفة لا كجيش واحد، فتلك هزيمة للنظام القطري العربي، لدولة
التجزئة، وليس لمفهوم الوحدة العربية كما يقول عصمت سيف الدولة. ولو كانت تلك
الجيوش لدولة واحدة على الجبهتين الشرقية والغربية لاختلف الأمر أيضاً. ولكن الخطأ
المميت يبقى خوض حرب نظامية حيث تجب حرب العصابات. وعلى كل حال، يخاف أي نظام على
نفسه لو دمر جيشه في حرب “خارجية”، فلو تم تجييش الشعب العربي لخوض حرب شعبية كما
حدث في الصين وفيتنام لاختلف الأمر تماماً.
المهم لم تنتهِ القضية هنا، إذ ينسى من يتحدثون عن هزيمة ال67 أن يذكروا
حرب الاستنزاف على الجبهة المصرية-“الإسرائيلية” التي بدأت في حزيران عام 68، وقضى
فيها 1424 جندي و127 مدني “إسرائيلي”، وأكثر من 5000 شهيد مصري، وانتهت فعلياً على
يد العميل الأمريكي أنور السادات.
والهزيمة ليست هزيمة إلا لمن يخضع لشروط عدوه السياسية، ولمن يتخلى عن
مشروعه بسببها، وهذا هو الفرق بين عبد الناصر ومن يحاولون إسقاطه من المتعاونين مع
الطرف الأمريكي-الصهيوني. فالهزيمة العسكرية لم تتحول إلى هزيمة سياسية، وتحولت
إلى شعار "لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف". وهذا هو الذي يهم حقاً، لأن
الذي لا يهزم أبداً ليس من التاريخ، بل من هوليود.
0 تعليقات