هانى عزت بسيونى
تلك القدرةً التي تناسب عظمة هذا الكون ، قدرة تناسب الدقة التي أخذنا منها
موازين الوجود والزمن الذي نعيش فيه بحركة الحياة ..
فمن الأفلاك مقاييس للزمن ولولا حركة الأفلاك ما كان الليل والنهار وتقسيم
اليوم إلى ساعات ، ولولا أن حركة الأفلاك المصنوعة بدقة متناهية لما استطعنا أن
نَعُدَّها مقياساً للزمن .
سبحان الله حين يقول : { الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ } [ سورة الرحمن آية ٥ ]
… عندما نتأمل كلمة ( بحسبان ) نجد ان الحق سبحانه وتعالى يبلغنا أنه جعل الشمس
والقمر بحسبان ولم يخلقهما سبحانه جل شأنه عبثا بل لحكمة عظيمة في كلمة
بِحُسْبَانٍ إلا وهي { لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب } [يونس: آية ٥ ] ..
إذن مقصدها أن نتعلم عدد السنين والحساب سبحان الله .. وأن نتأمل حركة دورة
الشمس والقمر مقياساً للحساب لنجد أنها أيضاً مخلوقة بحساب واتزان في هذا الكون
المصنوع بالدقة والإحكام وبقدرة تناسب عظمة الخالق ، لكن عقولنا مازالت لم تدركها لأن
أقصى ما يهدينا العقل إليه منها هو أن نعرف أنَّ هناك قوةً تعمل دون أن نعرف أو
ندرك هذه القوة أو محدداتها ..
لذا كان لابد أن يأتي لنا رسلٌ من طرف تلك القوة ليقولوا لنا مرادَها …
فجاء موكب الرسل ليبلغ كلُّ رسولٍ مرادَ الحق من الخلق …
فقال كلُّ رسول إن اسم القوة التي خلقتكم هو " الله " وله مطلق
التصرف في هذا الكون ، ومراد الحق من الخلق تعمير هذا الكون في ضوء منهاج عبادة
الحق الذي خلق الإنسان والكون وكل الأمور التي ما كانت لتدرك بالعقل .
وهكذا نعلم أن منتهى حدود العقل هو الإيمانٌ ، الإيمان بقوةٍ الخالق خالق
العقل ومن وراءَ هذا الكون ، وتستوي العقول فطرياً في هذه المسألة ..
أما اسم القوة والمنهاج المطلوب لهذا الإله فلابد له من رسول ليوضح وينقل
لعقولنا ذلك .
لقد أرهق الفلاسفة أنفسهم في البحث عن هذه القوة ومرادها وسموها مجال البحث
( Metaphysics ) أو ماوراء
الطبيعة ، وعادة ما يقابل الفلاسفة من يسألهم من أهل الإيمان سؤال مفاده ، ومن
الذي قال لكم إن وراء المادة قوة يجب أن تبحثوا عنها ؟! وغالباً ما يقول الفيلسوف
منهم … إنها الفطرة التي هدتني إلى ذلك !..
فما هي هذه الفطرة ؟ ..
لقد تشعبت الفلسفة في تعريفها إلى مدارس كثيرة ، وحاول أهل الفلسفة أن
يتصوروا هذه القوة بطرق لها حدود العقل لكنها لاتدرك ما وراء خلق العقل ليبدأ ظهور
الخلل ، لأن الإنسان يمكنه أن يعقل وجود القوة الخالقة لكنه لا يمكنه تصورها ،
فغرق الكثيرون من الفلاسفة في القلق النفسي المدمَّر بالخلط بين تعقل وجود قوة
وراء هذه المادة وبين تصور هذه القوة !.
وببساطة شديدة للتبسيط أضرب بهذا مثلاً بالمشهد البسيط للتوضيح ، فإذا كنا
نجلس في حجرة ، والحجرة مغلقة الأبواب ، ودق الجرس وكلنا يجمع على أن هناك طارقاً
بالباب ، فهذا الشيء المجمع عليه من الكل يَعدُّ تعقلاً ، ولكن أنستطيع أن نتصور
من الطارق ؟ هل رجل كان أم امرأة … شاب أم شيخ ؟؟
المؤكد أننا سنختلف في التصور وإن اتحدنا في التعقل بعقولنا إلى أن نفتح
الباب لنرى ما خلفه .
هي إذن شهادة الفطرة ، تلك الفطرة التي نجدها في طفل مولود يبحث بفمه عن
ثدي أمه حتى ولو كانت نائمة ويمسك الثدي ليحصل على غذاءه ، أو كرد الفعل حين توجه
بقرب أصبعك من عين طفل فيغمض عينيه فجأة دون أن يعلمه أحد ذلك أو يطلب منه !.
انها الفطرة التي خلقها سبحانه وتعالى فينا حين أشهدنا على وحدانيته ونحن
في عالم الذر كما سبق ان اشرت في مقال سابق لي تفسيراً للآية ، بسم الله الرحمن
الرحيم { وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى
شَهِدْنَآ } . صدق الله العظيم .
ويقال (أشهدته) أي جعلته شاهداً والشهادة على النفس لَوْنٌ من الإقرار ،
والإقرار سيد الأدلة ، لأنك حين تُشهد إنساناً على غيره فقد يغيّر الشاهد شهادته ،
ولكن عندما يشهد الإنسان على نفسه فإنها ليست شهادة إنما إقرار … إقرار الخلق
للخالق بأنهم شهدوا على أنفسهم وأخذ الله عليهم " عهد الفطرة " خشية أن
يقولوا يوم القيامة …{ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ } .
هي إذن … { فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا
تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } [ سورة الروم اية ٣٠ ] … والتي فطر الله عليها الإنسان
ليدرك بفطرته كل ذلك ، وبوجود القوة الإلهية ، ليس لأننا نؤمن بوجوده سبحانه ولكن
لأنه حقيقة مطلقة أزلية لا معنى لشيء بدونها ..
فالله هو سر الجمال والرحمة و المودة و الحرية والحياة وأسماؤه الحسنى
مطبوعة على الوردة وعلى إشراقة الفجر وعلى ابتسامة الوليد وعلى إطلالة الربيع وعلى
كفتي الميزان وعلى صولجان الحكم ، فهو العدل الحكم ، وبدونه يستحيل العدل وتستحيل
الرحمة ، وينطمس الكون ويظلم ، لانه سبحانه نور السماوات والأرض وهو الذي يمسكهما
أن تزولا .
ولإن الدين يبدأ به .. والفلسفة تنتهي إليه .. والعقل يتوقف عنده.. ولا
يملك العقل إلا السجود له .. و لا تملك العين إلا البكاء ندماً في رحابه ، فلا كيف
ولا كم و لا أين ولا متى .. حيث هو الذي لا إله إلا هو .. رفعت الأقلام و جفت
الصحف ..
الله أسألكم أن تسألوا الله سبحانه لنا و لأنفسكم الرحمة و أن التمسوا لنا
و لأنفسكم النجاة ، فلم يبق لنا جميعاً إلا التوسل ..
0 تعليقات