آخر الأخبار

ذلك الرجل






 

 

محمد قياتى

 

 

يتحدث الرئيس عبد الفتاح السيسي لغة بسيطة تكاد تقترب من لغة رجل الشارع العادي، يتحدث كشخص تعرفه عن قرب ربما يكون جارا لك في الشقة المقابلة أو صديق دراسة قديم أو زميل عمل، لا يحاول أن يبدو منظرا أو خبيرا في الشئون السياسية والإستراتيجية رغم أنه كذلك بالفعل، ينفعل ويغضب ويبكي ويضحك أمام الكاميرات دون تكلف أو احتياط زائد أو حتى مراعاة لقواعد البرتوكول الرئاسي، كلفته عفويته تلك حملات من الهجوم والتصيد التي كان في طليعتها أعضاء تنظيم الإخوان وبعض المعارضين للنظام، وبشكل عام لا يمكن بالطبع الاتفاق على كل تفاصيل السياسات والقرارات التي يتخذها أي نظام سياسي في أي دولة في العالم، فكل قرار سيكون له معارضوه والمتضررون منه والمختلفون معه، غير أن هناك فوارق جلية بين معارضة قرار أو سياسة ما وبين معارضة تنطلق من الكيد السياسي والتصيد والرغبة في تحويل البلد إلي كومة من الركام يجلس فوقها الناعقون والشامتون وأصحاب نظرية " السواد المطلق " ، وهناك أيضا فارق أكثر وضوحا بين الخلاف السياسي وبين الانحياز إلي الثوابت الوطنية وحماية الأمن القومي وكل ما يتعلق بالسيادة والدفاع عن مقدرات الدولة المصرية، هنا يصبح الخلاف انحيازا واضحا ضد المصالح العليا للوطن لا يخدم إلا القوى المعادية لمصر والمصريين .

 

 

 

أقول هذا الكلام بمناسبة الخطاب التاريخي الذي ألقاه الرئيس عبد الفتاح السيسي أول أمس السبت أثناء تفقده لقوات الجيش المصري في المنطقة الغربية، ذلك الخطاب الذي حدد ثوابت السياسة المصرية تجاه دولة ليبيا الشقيقة والأزمة الوجودية التي تتعرض لها وتهدد سيادتها واستقلالها وسلامة أراضيها بل وجودها كدولة من الأساس، الخطاب يعد الأكثر حسما ودقة وتحديدا لرؤية مصر وسياستها تجاه الأزمة الليبية، والأكثر شمولا ومواجهة للخطر الذي يهدد الدولة المصرية من ناحية حدودها الغربية، وبعيدا عن اللغة الواضحة والرؤية الدقيقة لخطاب الرئيس فهناك عدد من الملامح التي تعد علامات بارزة حول دور مصر تاريخا وقيادة وحضارة في المنطقة وهي تتلخص فيما يلي :

 

 

 

1- لم تنجر مصر إلي حرب كلامية وتصريحات استفزازية تلوكها الألسنة التركية والإخوانية منذ أشهر، وعندما قررت مصر التلويح بالتدخل العسكري في ليبيا كان تلويحا واضحا باستخدام قواتها المسلحة وليس عبر مرتزقة ومليشيات مأجورة .

 

 

2- تلخصت الروية المصرية تجاه ليبيا في مفردتين اساسيتين هما " الحماية والبناء " حماية ليبيا من مخاطر السقوط في مستنقع الفوضى وهيمنة المليشيات والقوى الخارجية، والبناء بما يعني إعادة بناء مؤسسات الدولة الليبية السياسية والأمنية بما يحافظ على استقرار ليبيا وسيادتها وسلامة أراضيها ووقف نزيف الدم الليبي، وهاتين المفردتين هما ملخص لدور مصر الحضاري والتاريخي في المنطقة على امتداد تاريخها، فلم تكن مصر أبدا معولا للهدم أو أداة للفوضى، وإنما كانت على مر التاريخ مشعلا لنشر السلام والفكر والفن والثقافة، وما خاضت مصر حربا إلا دفاعا عن حدودها وثوابتها الوطنية والقومية يشهد بذلك مساهمة مصر في كل مراحل التطور الحضاري والإنساني التي شهدتها البشرية .

 

 

3- كرر الرئيس غير مرة في خطابه أن مصر ليست لها مطامع في ليبيا، وهو ملمح آخر من ملامح السياسة المصرية المستمدة من المبادئ الأخلاقية للحضارة والقيم المصرية، فمصر قد تكون دولة تواجه مشكلات اقتصادية، وما زالت تتعافى من آثار سنوات الترهل والفوضى الشاملة وتداعيات الأزمات الاقتصادية العالمية بما فيها أزمة كورونا الطارئة، ولكنها لا تسعى لحل مشكلاتها عن طريق الطمع في ثروات الغير أو تسعى للسيطرة عليها، وهو نهج يتناقض مع نهج الغزاة البرابرة على اختلاف انتمائتهم وأعراقهم، فمصر دولة تمثل ضمير الإنسانية وهي كانت وما زالت على امتدادا تاريخها تسعى لتحقيق العدالة في السياسة والاقتصاد على السواء.

 

 

 

4- تحد الرئيس عن خط " سرت – الجفرة " باعتباره خط احمر لن يسمح بتجاوزه، وبعيدا عن كون التحذير رسالة على أن مصر قادرة على الردع العسكري، فهي تمثل – وهو الأهم – وعيا بأن أمصر القومي يبدأ من خارج حدودها، وهو المفهوم الذي ظل غائبا عن السياسة المصرية لعقود، بعد أن تسببت السياسة المترددة لنظام مبارك في تحجيم مصر داخل حدودها وتراجع دورها القيادي في المنطقة، ولعل ما يجري الآن في ليبيا وأثيوبيا على وجه التحديد هو حصاد لتلك السياسات المرتشعة .

 

 

أخيرا يرد الرئيس الاعتبار لمفهوم آخر غيبته سياسات الانعزال والنأي بالنفس التي ظلت جاثمة على صدر السياسة المصرية منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي، وهو مفهوم الأمن القومي العربي، أو الأمن الجماعي العربي، ذلك المفهوم الذي أصبح ملمحا أساسيا من ملامح السياسة الخارجية المصرية في عهد السيسي، بدء من عبارته الشهيرة " مسافة السكة" ومرورا بمحاولته إحياء معاهدة الدفاع العربي المشترك عبر إنشاء " قوة عربية مشتركة" وانتهاء بعبارته الأخيرة في المنطقة الغربية التي حدد خطوط حمراء على الجميع أن يعيها ويلتزم بها وإلا فإن جيش مصر سيجبرهم على ذلك .

 

 

 

إن أي قراءة عادلة لسياسات ومواقف الرئيس عبد الفتاح السيسي، ستؤدي بلا شك إلي احترام هذا الرجل ووضعه في المكانة اللائقة بين حكام مصر التاريخيين الذين تركوا بصمات لا تمحي في سجلات الوطنية والشرف، أما مصر المقاتلة فتلك قصة أخرى تحتاج إلي تفصيل .

 

 


إرسال تعليق

0 تعليقات