علي الحفناوي
عندما نشرت مذكرات والدي الدكتور مصطفى الحفناوى عن خلفيات تأميم قناة
السويس، كنت قد قررت اختصار بعض الفصول لتناولها جوانب تصورت أنها من الخصوصيات
التى لن تهم القارئ.. ثم جاءنى من يلومنى على اختصار تلك الجوانب، وطالبنى بنشرها
ولو في صورة مقالات على الفيسبوك كما اعتدت منذ فترة.. واليوم أستأذنكم في نشر هذا
الجزء، حيث يقول الدكتور مصطفى الحفناوى:
1- التحقت بكلية الحقوق بالجامعة المصرية في أكتوبر 1931، وكان المفروض أن
أتخرج منها في يونيو 1935، لأنى كنت من الطلاب المتفوقين، وآية ذلك أنى حصلت في
امتحان يونيو 1932 على مرتبة الشرف الأولى، حيث تجاوز مجموع درجاتى ثمانين في
المائة.
2- إلا أنى تركت الدراسة لأسباب مادية، والتحقت في أكتوبر سنة 1932 بوظيفة
صغيرة بوزارة الزراعة بلغ راتبها يومئذ سبع جنيهات ونصف في الشهر... ولو كان تلقى
العلم بالنسبة لرجل مثلى أداة للعيش، لبقيت في هذه الوظيفة أرقى ولو ببطء من درجة
إلى أخرى، وأعمل على تحسين حالتى بالحصول على مؤهل عال وأنا مستمر في الوظيفة.
3- ولكن، على الرغم من أنى كنت يومئذ خالى الوفاض، أكسب قوتى بنفسى، وليس
ثمة من يستطيع أن ينفق على، تأثرت بظروف بلدى، ظروف الاحتلال البريطاني، والمجتمع
الاقطاعى والرأسمالى، وأحسست بوطأة القيود التي كانت تكبل أمتنا العزيزة، فجنحت
إلى الثورة على كل هذا، وآية ذلك:
أ- أول كتاب وضعته، ولا شك أنه موجود بدار الكتب المصرية، وهو مطبوع في
سنة 1932، عنوانه "الإصلاح الاجتماعي في مصر".
ب- كتاب آخر طبع في سنة 1933، وعنوانه "رسالة الشباب إلى الوطن".
ت- مقالات متفرقة بصحف الأهرام والسياسة والسياسة الأسبوعية والبلاغ،
وأهمها مقال بعنوان: "الفلاح – العامل – الموظف الصغير، ماذا أعد لهؤلاء"،
وهذا المقال منشور في الصفحة الأولى من الأهرام في سنة 1934.
ث- كنت أدعو لمكافحة الظلم الاجتماعي، ثم ما لبثت أن عالجت السياسة،
وهاجمت الاحتلال، مناديا بإحياء ذكرى مصطفى كامل ومبادئه (الأهرام في فبراير سنة 1932)
4- قامت ثورة الطلبة في سنة 1935، فأبيت أن أقف متفرجا، وفى يدى قلم ثائر،
واستقلت من وزارة الزراعة في نوفمبر 1935، وعدت إلى كلية الحقوق. وكان لابد أن
أكسب قوتى ونفقات دراستى، ولكنى كنت قد احترفت الصحافة، واستخدمنى المرحوم عبد
القادر حمزة في جريدة البلاغ، وكانت تجمعنى حجرة واحدة أنا والمرحومين إبراهيم عبد
القادر المازنى والدكتور محمود عزمى.
وكان الطلاب يتسابقون إلى الأحزاب التي تتربع على كراسى الحكم، ولكنى اتخذت
مكانى مع "المتطرفين"، فاشتركت مع أقلية من رجال الحزب الوطنى في افتتاح
نادى الحزب الوطنى للمطالبة بالجلاء، واختارونى سكرتيرا لهذا النادى.
ثم كانت المفاوضات التي انتهت بمعاهدة 26 أغسطس 1936، فهاجمتها في كتاب
مفتوح موجه إلى وزير خاجية إنجلترا (إيدن وقتئذ)، ونشر بيانى باللغة الفرنسية في
كثير من صحف أوروبا، ثم وقعت المعاهدة المشئومة فهاجمتها وحملت عليها في منشورات
أدت لاعتقالى، ثم محاكمتى التأديبية وفصلى من الجامعة، فكانت الصحافة دائما ملاذى
ومورد رزقى.
وفى هذه الحقبة وضعت كتبا ثلاثة صودرت، وهى:
أ- السفر الخالد (ضد معاهدة 1936)
ب- مصرع الحرية (رواية طبعت سنة 1937 وصودرت أيضا)
ت- حكومة الوفد في عام، نشر سنة 1937 وصودر وحبست احتياطيا وقدمت لمحكمة
الجنايات بتهمة الدعوة لقلب نظام الحكم... (وعلى غرار هذا الكتاب، وضع المرحوم
مكرم عبيد في تاريخ متأخر كتابه الأسود المعروف).
5- واستقر بى الحال في الصحيفة اليومية التي أعمل بها وهى "البلاغ".
وفى آخر سنة 1937، وقع أمر غير مجرى حياتى، واضطرنى لترك السياسة، حتى لا أتعرض
للاعتقال كما كنت، ذلك أنى التقيت في صعيد الوطنية بمجاهد مصري قديم، هو المرحوم
الشيخ على الغاياتى، الذى سلخ من عمره سبعة وعشرين سنة قضاها في جنيف، حيث كان
يصدر صحيفته "منبر الشرق" بالفرنسية وشعارها "الشرق للشرقيين".
عاد الرجل إلى بلاده في أواخر سنة 1937، وراح يبحث عن شاب مصري اسمه "مصطفى
الحفناوى" بمناسبة بيانى لوزير خارجية إنجلترا ضد معاهدة 1936، وكان قد قرأه
ونشره وهو بأوروبا، وكان يقول أنه الصوت الوحيد الذى ارتفع في أوروبا ضد معاهدة 1936.
وفى هذا اللقاء، ارتبطنا بعرى المصاهرة فتزوجت احدى كريماته، وتصادف أن
ألقى القبض على أثناء حفلة الخطوبة بدعوى أنى متهم بالاشتراك في الشروع في قتل
المرحوم مصطفى النحاس. (حادث اطلاق الرصاص على باب سيارته بمصر الجديدة من شاب كان
عضوا بجمعية مصر الفناة، ولم تكن لى أدنى صلة بتلك الجمعية ولا بالمتهم، ولكنهم
كانوا يسوقون إلى السجن جميع خصوم الوفد.
لذلك، أفرج عنى قاضى المعارضة في اليوم الرابع). وفى السجن، زارتنى شريكة
حياتى، بعد انقضاء ليلة واحدة من وضع خاتم الخطوبة في اصبعها، فأحسست بمسئوليتى
الجديدة، وأن حريتى لم تعد ملكى وحدى، ووعدتها أن أطلق السياسة طلاقا لا رجعة فيه،
وكنت بارا بوعدى.
6- وبعد أشهر قلائل تزوجت، وقصرت نشاطى على الصحف، البلاغ ومجلات دار
الهلال، لكسب معيشتنا والاستذكار ليلا، وتخرجت من كلية الحقوق في يونيو سنة 1940
بتفوق كبير في الدرجات.
7- قيدت اسمى بجدول المحامين تحت التمرين، والتحقت في وقت واحد بمكتبين
كبيرين، مكتب المرحوم محمد على علوبة ومكتب الأستاذ عبد الرحمن الرافعى... ويقضى
المحامى تحت التمرين سنتين على الأقل حتى يجد طريقه إلى المحكمة، ولكنى افتتحت
مكتبى مستقلا في يناير 1941، وكأن السنوات التي مضت قد هيأتنى لما لا يتهيأ له من
مرت به التجارب التي صهرتنى، ولذلك ما لبثت منذ الابتداء أن ألقيت نفسى أشق طريقى
إلى الصفوف الأولى...
ودليل ذلك أنه في سنة 1943، كنت أهم مترافع في أكبر قضية شهدتها المحاكم في
سنوات الحرب العالمية، قضية الحديد والمواسير بالإسكندرية، وظفرت ببراءة الشركة
الكبيرة التي وكلت عنها... ويومئذ، زارنى في مكتبى اثنان من رجال القضاء العالى،
بل أكبر أستاذ جنائى في مصر، وهو المرحوم سيد مصطفى (رئيس النقض ووزير عدل سابق) ومحمد
كامل مرسى (عميد الحقوق، ووكيل النقض فوزير العدل فأول رئيس لمجلس الدولة فمدير
الجامعة). وهذان الرجلان اللذان استقالا من محكمة النقض احتجاجا على الحكومة،
شاركانى في مكتبى على قدم المساواة التامة، واستمرت الشركة الثلاثية إلى أن أقيلت
حكومة الوفد وعادا إلى محكمة النقض وبقيت وحدى في مكتبى، المكتب الأول في مصر
لمحام لم يقض في المحاماة أكثر من أربع أو حمس سنوات في ذلك الوقت.
8- من أجل هذا النجاح الخاطف، أقبلت الشركات العالمية التي استقدمت من
الخارج لتنفيذ المشروعات الكبرى على مكتبى، وذاعت سمعتى كمترافع قوى، ومحام مصري
يجيد الإنجليزية والفرنسية... وإذا كانت الصور المادية هي مقياس نجاح المحامين،
فيكفى أن أذكر أن شركة "م. كوكينوس" بالإسكندرية أقامت لى فيلا بشارع
الأهرام في سنة 1945، بلغ مجموع تكاليفها بالإضافة إلى أرضها وحديقتها عشرين ألفا
من الجنيهات.
9- ولو كان المال، الذى لم أجد منه في مستهل حياتى أقل القليل، لو كان هذا
المال ضالتى لتفرغت للمحاماة، وقد أمطرتنى ذهبا وفضة، ولصرت واحدا من هؤلاء الذين
احترفوا تلك المهنة واتخذوها لجمع المال، وقد تفوقت عليهم سمعة وفنا في عصرها
الذهبى... ولكن علم الله أنى كنت كما بدأت حياتى، وكما أنا دائما شديد الحب لوطنى،
ووجهت هذا النجاح لخدمة بلدى أكثر مما وجهته لأهلى ولأولادى ولنفسى.
كما قلت سابقا، إن الشركات العالمية استقدمتنى إلى أوروبا منذ سنة 1946 للفنوى
أو لتحرير العقود أو المرافعة أمام هيئات التحكيم. استقدمونى إلى لندن وباريس
وأمستردام وجنيف وغيرها... ومن هنا، لاحت الفرصة لأن أجد السبيل مستعينا بالمال
الذى أكسبه وبالصلات الطيبة لخدمة قضية بلدى التي كانت وثائقها مخبأة، وكانت مجهلة.
وقد كنت شديد الولع بأن أتوفر على هذه القضية، وأترافع فيها، فمن أجل هذا فقط
تعلمت الحقوق، وكنت أشعر أننا في حياتنا السياسية نعالج الوطنية بوحى العاطفة،
وليس بالتخصص والفن القانوني.
ولهذا، وعلى الرغم من أنى أصبحت زوجا ووالدا، رحت أبحث عن مستندات القضية،
وأتخصص في القانون الدولى لأعالجها وأعرضها من منبر عالمى بطريقة علمية.. فكانت
قضية قناة السويس، قضية استعمار الغرب للشرق، هي القضية التي أفنيت فيها سنوات
العمر.. إلى أن استعادت مصر قناتها ونالت استقلالها الحقيقى.
((أما تفاصيل مذكرات د. مصطفى الحفناوى قبل وبعد هذا الفصل فمتوفرة بالكتاب))
0 تعليقات