آخر الأخبار

تحرير التلفزيون العربي.. مطلب شعبي !

 




 

 

د. حازم الرفاعي

 

 

يدور الحديث الدائم عن المعارك الإعلامية الدائرة ضد مصر، وهو أمر لا شك فيه؛ ولكن الحديث الأكثر جدية هو عن مسئولياتنا نحن في مواجهة هذه المعارك. ولربما يتجسد هذا الأمر في قناة الجزيرة وشبكتها وكذلك الظاهرة المسماة التلفزيون "العربي". وهي محطة تلفزيونية مقرها لندن تصاحبها صحيفة اسمها "العربي"، كما أن أفقها يحتوي أو يتناغم صياغة وموضوعاً مع مواقع إعلامية أخري مثل "ضفة ثالثة" و"حكمة" وغيرها. وعليه، فإن كل من يتعاطى الثقافة فكراً وكتابة قد يجد نفسه -بقصد أو بدون- في مسار تلك المنظومة المتسعة من "الجزيرة" إلى "العربي" على شبكات التلفزيون والشبكة العنكبوتية ومواقع التواصل الاجتماعي تلك. ويتعقد الأمر بأن ميزانية هذه المحطة قد تقترب من المائة مليون دولار سنوياً. وعليه فإن من يكتب من المثقفين -وهم في العادة محدودو القدرات المالية- قد يعتاد على العائد المادي السخي الذي تقدمه تلك المحطات، وسيبرر لنفسه العمل معها. هذه الميزانية المرصودة ليست عظيمة في ذاتها، فسعر طائرة مقاتلة مثل إف ٣٥ ودبابتين قد يصل إلى هذا المبلغ. وهذا المبلغ يكفي لصنع ارتباك كبير فكري ومعنوي قد تعجز عن تحقيقه الطائرة المقاتلة والدبابتان المصاحبتان لها.

 

 

السؤال الأهم إذن هو عن مسئولياتنا الواجبة في مواجهته وحقيقة عقيدتنا الإعلامية أوفلسفتنا نحن كمصريين بخصوص الإعلام. ولربما يجسد الأمر كله ذلك التناقض بين اسم التلفزيون العربي وماسبيرو. (فالتلفزيون العربي) من القاهرة كان هو اسم أول إرسال تلفزيوني من مصر، وظل كذلك حتى السبعينات. وكان التلفزيون العربي مثله مثل صوت العرب حقيقة إعلامية في الشرق الأوسط. فلقد قررت مصر أن عبء الاسم لا ضرورة له، فأُلقي اسم التلفزيون العربي على قارعة الطريق حيث التقطه من لا يستحقه. لم يتوقف الأمر على ترك الاسم، إنما تجاوزه إلى التبرؤ من الاسم. فلقد كان إنتاج التلفزيون العربي من القاهرة غزيراً وضخماً ورائداً. وأنتجت مصر تحت ذلك الاسم ذو الأفق الكبير الملايين من ساعات الإرسال هي البرامج والحفلات والمسلسلات والبرامج الثقافية التي تم بثها من القاهره. وفجأة وبقدرة قادر -كما يقال- تذكر المسئولون هذه الثروة الإعلامية المهولة، وبدأ الاهتمام بها فاستعيدت الآلاف من تلك التسجيلات، ولكن السؤال فاجأ الجميع! فإلى أي اسم تعزى هذه الثروة الإعلامية الهائلة من حفلات أم كلثوم لحوارات طه حسين والعقاد؟ وهنا قفزت السياسة والوعي السياسي والانحيازات الثقافية إلى تشكيل القرار. وبدلاً من أن تعزى التسجيلات إلى (التلفزيون العربي) تم استخدام اسم جديد مدعى سطحي فارغ وبلا مضمون وهو (ماسبيرو زمان)! وربما كان هذا هو المطلوب! فكلمة ماسبيرو كلمة أجنبية تلوكها الألسنة فتعطي الإحساس بالتميز. وهي لا تعود إلى أي مرجعية إعلامية، بل إلى اسم الحي الذي بُنِيَ فيه مبني التلفزيون المصري أو العربي. فهل كانت تلك التسجيلات القديمة ستحمل اسم الحي الذي نشأ فيه المبنى لو كان الاسم دارجاً كالسيدة زينب أو الحسين أو الدرب الأحمر أو ما شابه. الاسم الاجنبي صار ضرورياً لحالة السطحية التي أحاطت بالإعلام؛ فبديلاً عن مثقفي الإعلام كصلاح زكي أو ليلى رستم أو أماني ناشد وميرفت رجب ظهر (مذيعو توضيح المسائل الواضحة) يحرصون بالأساس على تأكيد وجودهم -غير الضروري في أغلب الاحوال- في عالم تتغير فيه وبسرعة وظائف وأدوار الإعلام. وهكذا فإننا كمصريين ألقينا بالاسم المهيب (التلفزيون العربي) على قارعة الطريق حتى يختطفه أعداء الشعب المصري والشعوب العربية، بإشراف مسئول سياسي يتلقى الأموال من إمارة نفطية يدخلها صباح كل يوم نصف بليون دولار من ريع النفط والغاز بينما لا يتجاوز تعداد سكانها عدة عشرات من الآلاف. تفتح الدوحة خزائنها لجبهة النصرة والإخوان وتنظيمات الإرهاب والدم وتمول في ذات الوقت أي نشاط ثقافي أو سياسي يدعي الليبرالية أو الاشتراكية فالهدف الأساسي هو أن يقسم المقسم و أن يقطع جسد المجتمعات العربية كلها كما يشتهي الوزان بالرصاص والدم الأحمر القاني مضافا اليه بحار من الحبر وتلال من الكلمات ترتدي قميص عثمان للحريات والعدالة.

 

يبقي علينا تساؤل يحتاج شجاعة فما هي العقيدة السياسية وما هو التوجه الفكري للإعلام المصري؟ فلا يوجد إعلام مجرد من الانحياز في قلب تكوينه. ويتساوى في هذا الجميع من هيئة الإذاعة البريطانية لروسيا اليوم لفرنسا ٢٤ وأوروبا للأنباء. أليست أجهزة الإعلام في هذه الدول منحازة للتكوينات القومية التي تبث منها؟ ثم ما هو دور الإعلام في عصر ثورة الاتصالات ووسائل التواصل الاجتماعي؟ فمع سرعة وسائل التواصل الاجتماعي حيث تحول كل إنسان إلى مراسل وصاحب رأي مذاع، ازدادت أهمية التدقيق في الخبر عن طريق شبكات المراسلين ومهنيتهم. فأجهزة الإعلام هي القادرة اليوم على وجود شبكة مراسلين كبيرة تتابع الحدث بسرعة وتدقيق. ولقد اختارت مصر أن تكون لها شبكة باسم "النيل للأخبار" فهل يوجد لها مراسلين في شرق أفريقيا أو إثيوبيا وجنوب السودان؟ أم أن الأمر هو مجرد اسم ينفي التوجه العربي والضروري لمصر. تُرَى هل هناك ميزانيات لإنتاج البرامج الوثائقية والعلمية؟ وأليس هذا ضرورياً وعاجلاً؟ وفي المقابل.. هل تستطيع مصر أن تكون أي شيء إلا دولة مشرقية عربية يتعاظم دورها بقدر اتساع أفقها الفكري والثقافي العربي في الأساس، والعالمي في الرؤية، والعصري في التوجه؟ ألا يجب أن تسترد مصر اسم "التلفزيون العربي من القاهرة" وأن تتحرك في هذا الإطار؟ فحجم المطلوب من أموال ليس بالضخامة التي تجعله عائقاً، لكن غياب المثقفين عن القيادة وغياب التوجه والجدية والإصرار على الريادة والتوثيق والعلم هو السبب الحقيقي في الأزمة. صار الإعلام المصري غارقا في إقليمية قاهرية تقتات المعتاد والممل من أحداث بينما الإعلام والصحافة في العالم كله تواجه تحديات وسائل الاتصال الاجتماعي وسقوط الحدود. الإعلام المصري إن أراد الحياة فعليه أن يتلافى الإحساس بضرورة تقبل الركاكة والضآلة خشية استعداء قوىً عظمي. فذلك الموقف هو السبب الحقيقي في غياب الإعلام من القاهرة، وهو غياب لا يمكن استمراره في ظل عالم يعاد تشكيله؛ فقوة مصر الحقيقية هي في شعبها، وفي الشعوب العربية التي تنحاز تلقائيا لمصر إن جدت السير واستشعرت صدق صوتها. إن استرداد ( التلفزيون العربي من القاهرة ) بمجموعة صغيرة من كوادر مهنية وسياسية تتلافي الندرة النسبية المحلية ضرورة عاجله. وهكذا فإن كوادر سياسيه إعلاميه مصرية وعربية من المنامة لمراكش مرورا بالقاهرة ودمشق هو بداية صحوة إعلاميه واجبه فهي ركن غائب فيما يدور من معارك تطحن شعوب العرب وتزيف وعيهم.

 

إرسال تعليق

0 تعليقات