بقلم: عمرو صابح
من أكثر قرارات الرئيس عبد الناصر التى حظيت بانتقادات واسعة وهجوم
شرس ، قراره بمساندة مصر لثورة اليمن التى اندلعت فى 26 سبتمبر 1962 ، فقد تم
اتهام عبد الناصر أنه بدد احتياطى مصر من الذهب على سفوح جبال اليمن ، وتسبب فى
خراب الاقتصاد المصري.
فهل تلك الاتهامات للرئيس عبد الناصر صحيحة؟
لنقرأ معاً:
بخصوص تبديد احتياطي الذهب المصري فهذا لم يحدث بالمرة بل كان
الذهب الذى تم توزيعه على قبائل اليمن من أموال الملك المخلوع سعود بن عبد العزيز
الذى خلعه أخاه الملك فيصل بن عبد العزيز عن العرش عام 1964 ، وعاش لاجئا فى مصر
وكان يريد استرداد عرشه عبر محاربة أخيه فى اليمن ، وكان هو الذى أقترح على الرئيس
عبد الناصر فكرة رشوة رؤساء القبائل اليمنية بالذهب، وحول جزء من أمواله لعملات
ذهبية وسافر بنفسه مع وفد مصرى لليمن لمقابلة زعماء القبائل هناك وتوزيع الذهب
عليهم.
وقد قام المرحوم الدكتور على نجم رئيس البنك المركزى المصرى الأسبق
بتفنيد خرافة تبديد احتياطي الذهب المصري فى حرب اليمن ، فى دراسة قال فيها:
" إن أحدا لا يجرؤ أن يشكك فى ذمم الحكومات المتعاقبة فى عهد
الثورة أو الرئيس جمال عبد الناصر وبخاصة فى موضوع الإحتياطيات القومية للذهب ،
جاء عام 1964 ولم يكن بخزانة الدولة أي نقد أجنبي . . وكانت البلاد تعتمد فى
وارداتها الخارجية من القمح والسلع الغذائية الضرورية الأخرى على الاتحاد السوفيتى
الذى كان يوردها بالكامل مقابل صادرات مصرية من القطن والمواد الخام الأولية ،
ولكن فى عام 1964 شهد محصول القمح الروسى اضطرابا شديدا نتيجة سوء الأحوال
المناخية هناك، ومن ثم لم يستطع الاتحاد السوفيتى أن يورد الكميات المتفق عليها من
القمح لمصر فى هذا العام بل إن إنتاجه كاد يكفيه . وقد استغلت الولايات المتحدة
الأمريكية الموقف لتجويع الشعب المصرى من أجل إسقاط نظام جمال عبد الناصر عدوها
اللدود فى منطقة الشرق الأوسط، وزعيم حركة التحرير من الاستعمار داخل دول العالم
الثالث ، فمنعت توريد القمح عبر المنح التى كانت تصرفها لمصر فى صورة هذا المحصول
الإستراتيجى ، وكان أن اجتمع مجلس الوزراء لمناقشة كيفية تدبير المبالغ اللازمة
لشراء القمح فورا قبل وقوع الكارثة ، وفى سخونة المناقشة جاء اقتراح من جانب
الدكتور عبد المنعم القيسونى ببيع جزء من الذهب قيمته 10ملايين دولار تدفع كعربون
لشركات القمح العالمية لتحويل شحنات من القمح تحملها سفن كانت فى عرض البحر إلى
ميناء الإسكندرية . واتخذ مجلس الوزراء برئاسة السيد على صبرى القرار وصدق عليه
الرئيس جمال عبدالناصرالذى قال:
إن كنوز الدنيا لا تساوى أى شىء أمام تجويع مواطن واحد من هذا
الشعب". "
وفى خريف عام 1964 رافق على نجم سبائك الذهب، وقد حملتها أربعة
طائرات نقل خاصة إلى ” بنك التسويات الدولية ” فى بازل بسويسرا، وكانت هذه السبائك
تزن حوالى خمسة عشر طنا، وتمثل أقل من 10% من مخزون الذهب المصرى المخزون منذ عام
1952، وكان وزنه يقدر بنحو 154 طنا، وهو وزن يزيد كثيرا على تقديرات أحد وزراء
المالية قبل الثورة.
كل الشهود قبل عام 1970 يقولون إن التصرف فى رصيد الذهب المحفوظ فى
خزائن البنك المركزى على هيئة قوالب فى صناديق مغلقة عليها أرقام مسجلة تسجيلا
دقيقا فى الداخل والخارج، ولم يزد على الكميات التى بيعت فى عام 1964 لإنقاذ مصر
من حرب التجويع الأمريكية ، وقد بيعت هذه الكميات بالأوقية – الأوقية حوالى 7ر31
جراما من الذهب عيار 24 – وكان سعر الأوقية فى ذلك الوقت 35 دولاراً.
ويضيف السيد على نجم:
ان العالم لم يعد منذ أكثر من نصف قرن يتعامل بقاعدة الذهب ،
وأصبحت قوة العملة فى أى دولة تقاس بقوة الإنتاج وأصول الدولة، وعلى التكنولوجيا
التى تمتلكها، والأذون التى بحوزتها، والدائنة للدول الأخرى نظرا لأنه بعد أزمة
عام 1929 وفى أعقاب الحرب العالمية الأولى تراجعت غطاءات الذهب من نسبة 100% مقابل
الإصدار النقدى من العملة إلى نسب متواضعة تتراوح فى الدول الكبرى ما بين 10% و15%
فقط، والباقى أذون خزانة ثم تلاشت واختفت تماما قاعدة الذهب، وبدأ صندوق النقد
الدولى يجبر الدول النامية بربط عملاتها الوطنية بعملات الدول الكبرى مثل الإسترليني
فى النصف الأول من القرن الحالى وبالدولار بدءا من النصف الثانى؛ حيث أجبرت مصر
للتوقيع على اتفاقية الصندوق عام 1944 لربط عملاتها الوطنية بالدولار باعتباره
عملة عالمية.
كما أكد السيد حسن عباس زكى وزير الخزانة والاقتصاد الأسبق فى حوار
معه فى جريدة الأهرام ، وخلال محاضرة له فى جمعية الشبان المسلمين فى تسعينيات
القرن الماضى على أكذوبة تبديد احتياطى الذهب المصرى فى حرب اليمن ، وكان مما قاله:
" ان احتياطى الذهب فى مصر قبل الثورة لم يمس ، وأنه مازال موجودا
حتى الآن فى البنك المركزى، وان الثورة لم تستخدم هذا الرصيد فى تمويل صفقات
السلاح أو مساعدة الثورات فى اليمن أو الدول الإفريقية .
إن الدولة فى عهد عبد الناصر كانت تعتمد على سياسة إحلال الصادرات
محل الواردات، كما كان يتم استيراد السلاح والمعدات الصناعية مقابل الصادرات
المصرية من القطن والمنسوجات والبترول عبر نظام “الصفقات المتكافئة ” مع دول
الكتلة الشرقية والاتحاد السوفيتى السابق . وهذا الأمر ساعد الدولة فى الاعتماد
على مواردها الذاتية دون الاضطرار إلى اللجوء إلى الاقتراض الخارجى إلا فى أضيق
الحدود ، فلم يتجاوز حجم ديون مصر الخارجية فى تلك الحقبة مبلغ أربعمائة مليون
دولار فقط . كذلك ساعدت هذه السياسة على عدم وجود عجز فى الموازنة.
وبفضل هذا الاحتياطى من الذهب كان سعر الجنيه المصرى وقتئذ يعادل
أكثر من ثلاثة دولارات أمريكية ، ووصل معدل النمو الإقتصادى خلال فترة حكم عبد
الناصر إلى مصاف الدول الصناعية الكبرى حيث بلغ أكثر من 6% من الناتج المحلى
الإجمالى، وهو معدل لم تشهده البلاد سواء قبل الثورة أو حتى خلال الفترات اللاحقة
لها.
وقال إنه من السذاجة أن يعتقد البعض أو يدعى أن الثورة استخدمت هذا
الرصيد فى تمويل الثورات فى اليمن أو الدول الإفريقية ، وأن أى مزايد عليه أن يذهب
بنفسه إلى البنك المركزى ليسأل ويتأكد.
إن الذين أذلوا الشعب ونهبوا أمواله فى بطونهم ، والذين كانوا
يبرطعون فى عشرات الألوف من الأفدنة والعزب والقصور والضياع ، وتركوا الشعب يعانى
من الفقر والجهل والمرض ، تحولوا فجأة إلى حماة للشعب مدافعين عن حقوقه!
ولا بأس فنحن فى عالم جديد ، كل شىء فيه مباح ، حتى أن يتحدث
الإقطاعيون باسم الفلاحين وعتاة المستغلين باسم العمال والفقراء.
والذين أثاروا شكوكا حول قضية الذهب ، إنما يهدفون من ورائها إلى
اتهام ثورة 23 يوليو1952 التى قضت على نفوذهم وسطوتهم وجردتهم من سلطانهم ، بأن
الثورة كانت تسير على شاكلتهم فى نهب أموال الشعب.
ورغم أن وزراء الاقتصاد والمالية فى عهد الثورة قد كذبوهم ، إلا
أنهم ما زالوا يصرون على أن يصروا على نفس الإدعاء بالمنهج ذاته الذى هاجموا فيه
السد العالى ، وجعلوه سببا قى الخراب والزلازل ، وفى نقص الإنتاج ، وأنه آيل
للسقوط ! ،وبنفس المنهج الذى هاجموا به تأميم شركة قناة السويس واستردادها من
سيطرة الأجانب لتصبح مصرية خالصة تسهم فى الاقتصاد القومى المصرى والعربى، وتفتح
بنكا استثماريا يتزايد دخله سنويا وعلى مر الزمن ، وذلك بعد أن حكموا سنوات فى ظل
وحماية الاحتلال وبمباركته، وتحت ظل دباباته حتى تفجرت ثورة يوليو، وطردت المحتل
وأجلته عن أرض الكنانة بعدما كانوا يتحكمون فى صناديق الانتخاب يسوقون إليها
الفلاحين لينتخبوا جلاديهم ويزورونها ليكون البرلمان ممثلا للإقطاع ولرأس المال
المدعوم والمتعاون مع رأس المال الأجنبى.
عندما قامت ثورة يوليو52 كان العجز فى الميزان التجارى عام 1951
أكثر من 39مليون جنيه ـ بقيمة الجنيه فى ذلك الوقت، وكان أكثر من جنيه إسترلينى
ويتعدى الأربعة دولارات أمريكية ـ وكان العجز فى ميزانية آخر حكومة سنة 1951 /
1952 أكثر من 25 مليون جنيه".
فضلاً عن شهادات كبار المسئولين عن الاقتصاد المصرى ، فالأرقام
تخبرنا بالتالى :
حققت مصر نسبة نمو من عام 1957 ـ 1967 بلغت ما يقرب من 6.7 % سنويا
ومصدر هذا الرقم تـقرير البنك الدولى رقم [ 870 ـ أ ] عن مصر الصادر فى واشنطن
بتاريخ 5 يناير 1976.
وهذا يعنى يعنى أن مصر استـطاعت فى عشر سـنوات من عصر عبد الناصر
أن تـقوم بتنمية تماثـل أربعة أضعاف ما استطاعت تحقيقه فى الأربعين سنة السابقة
على عصر عبد الناصر. كانت تلك نتيجةً لا مثيل لها فى العالم النامى كله حيث لم يزد
معدل التنمية السنوى فى أكثر بلدانه المستقلة خلال تلك الفترة عن اثنين ونصف فى
المائة بل أن هذه النسبة كان يعز مثـيلها فى العالم المتـقدم باستثـناء اليابان ،
وألمانيا الغربية ، ومجموعة الدول الشيوعية, فمثـلا ايطاليا وهى دولة صناعية
متـقدمة ومن الدول الصناعية الكبرى حققت نسبة نمو عن تـقدر بـ 4.5 % فقط فى نفس
الفترة الزمنية.
كما استطاعت مصر تنفيذ أنجح خطة خمسية فى تاريخها من 1960-1965 ،
وبدأت الخطة الخمسية الثانية من 1965-1970 ،بل أنه وبرغم هزيمة 1967 حافظت مصر على
نسبة النمو الإقتصادى قبل النكسة, و زادت هذه النسبة فى عامى 1969 و 1970 وبلغت 8
% سنويا. وأستطاع الاقتصاد المصرى عام 1969 أن يحقق زيادة لصالح ميزانه التجارى
لأول وأخر مرة فى تاريخ مصر بفائض
قدره 46.9 مليون جنية بأسعار ذلك الزمان.
وفى نفس الفترة الزمنية عقد الستينيات من القرن الماضى كانت مصر
تبنى السد العالى أعظم مشروع هندسى وتنموى فى القرن العشرين باختيار الأمم المتحدة
والذى يعادل فى بناؤه 17 هرم من طراز هرم خوفو .
وتبنى القطاع العام الذى بلغ ثمنه بتـقديرات البنك الدولى 1400
مليار دولار،كما كان لدى مصر أكبر قـاعدة صناعية فى العالم الثـالث حيث كان عدد
المصانع التى أنشأت فى عهد عبد الناصر 1200 مصنع منها مصانع صناعات ثـقيلة
وتحويلية وإستراتيجية.
يقول الدكتور منصور فايز الطبيب الخاص للرئيس جمال عبد الناصر ، فى
كتابه " مشوارى مع عبد الناصر " ، ان الرئيس عبد الناصر أخبره ان
قرارعودة القوات المصرية من اليمن بعد حرب 1967 ، كان الثمن الذى طلبه الملك فيصل
منه مقابل أن يساعد مصر مادياً بعد الهزيمة!.
وهكذا يتضح لنا أن مساندة مصر لثورة اليمن ومساعدتها للشعب اليمنى
فى التحرر من العبودية لم تدمر اقتصادها.
0 تعليقات