صلاح زكي أحمد
( ... بقدر ما تمٌثلْ
" مذكرات طالب بعثة " للدكتور " لويس عوض " نموذجاً لإثارة
الجدل بالطريقة المكتوبة بها ، وهي الكتابة ب " اللهجة العامية المصرية
" فإنّ حكاية العثور عليها بعد فقدها لنحو ربع قرن ، تُثير من الشوق الكثير ،
لمعرفة وقائع ما حدث ، بل والشغف بمعرفة تفاصيل تلك الحكاية !!
*****
ففي صيف ١٩٦٥ ، دخل الأستاذ " لطفي الخولي " والذي كان
مكتبه يجاور مكتب الدكتور " لويس " بمُغلّفْ كبير ، مكتوب عليه "
الى الأستاذ " لطفي الخولي " ومنه للدكتور " لويس عوض " !!
وبعد دقائق حدث الشئ نفسه من تلك المكاتب المجاورة لمكتب الدكتور
" لويس " من أسماء مثل توفيق الحكيم وحسين فوزي وغيرهم ...
****
فّتّحّ الدكتور ، هذه المُغلفات واحداً ، اثر الآخر ، ليجد ملزمة
مطبوعة من مذكراته المفقودة ، والراسل شخص واحد ، يحمل اسماً لافتاً هو "
كناري " والمدينة التي جاءت منها تلك الرسالة هي الإسكندرية !!
*****
لكن ، أي " كناري " هذا !! ؟؟
ثم كيف الوصول اليه في مدينة كبيرة ومترامية الأطراف ؟؟
*****
الصدفة هنا لعبت دورها ، وحقًّا ، فلا تأتي الصدفة إلاّ لمن
يستحقها ..
ففي خلال حديث عابر بين الدكتور " لويس " وصديقه ،
الكاتب المسرحي الكبير" ألفريد فرج " قّصّ خلالها حكاية هذه الملزمة
المطبوعة من مذكراته الضائعة منذ سنة ١٩٤١ ، بأن فوجئ الدكتور " عوض "
بأن صديقه الإسكندراني يعرف " كناري " هذا واصفاً إياه بأنه أحد أدباء
الثّغرْ ، عروس البحر الأبيض المتوسط ، بيد أن شقيقه الناقد الأدبي الكبير ،
الأستاذ " نبيل فرج " يعرف " كناري " هذا ، يعرفه كما يقولون
في العامية المصرية ، " يعرف أصله وفصله وعنوانه " !!
*****
ودون الدخول في تفاصيل إضافية ، كان الدكتور " لويس وألفريد
فرج " وشقيقه في بيت " كناري " بأحد أحياء الإسكندرية ، وبعد
مناورات وألاعيب مكشوفة ، وخفيفة الظل ، عادت المذكرات كاملة الى يد صاحبها ، وما
كان يحدث هذا الأمر دون ثورة غضب من " لويس عوض " عَلى " كناري
" الذي أدرك أن تصميم الدكتور لإستلام مذكراته قد يصل الى حد القضاء ،
وتسليمه لِيَد العدالة !!
سّلّمّ " كناري " المخطوط المكتوب بالألة الكاتبة لصاحبه
، موضحاً ظروف وملابسات وقوعه في يديه منذ العام ٤١ ، ولكن عشق " كناري
" للأدب ، وهو أديب بالفعل ، ولكنه شأن آلاف الموهوبين الذي يعيشون بعيداً عن
القاهرة ، فلا يعرف بهم أحد رغم موهبتهم ، فقد ، اتفق مع الدكتور " لويس
" عَلى أن يكتب بضع صفحات في بداية هذه المذكرات ونهايتها ، عند طباعتها ،
باعتباره هو الأمين على هذا النص التاريخي ، الذي لولا حرصه عليه لبات نسياً
مّنسياً ...
*****
وقد كان له ما أراد ، فقد وافق الدكتور" لويس " عَلى
مطلبه ، وبدا أنه صاحب حق ...
وهكذا كانت المُقدمة والخاتمة لهذه المذكرات ، تحمل بجانب المُقدمة
المكتوبة بقلم صاحب المذكرات ، مقدمة قصيرة بقلم " كناري " أديب
الإسكندرية المجهول ، فيما جاءت كلماته في الختام آية من الجمال !!
*****
غير أننا نعرف من تلك المُقدمة بقلم الدكتور " عوض " أن
الأستاذ " محمد عودة " المفكر القومي الكبير، كان أول القارئين لها ،
وهي مجرد مخطوط ، وذلك عام ٤١ أو ٤٢ ، ولعل الوازع في ذلك هو ، أن الأستاذ "
عودة " له سابق معرفة أو لا حق معرفة ، في التعامل مع نص أدبي يُماثل تلك
المذكرات المكتوبة بقلم الدكتور " عوض " فقد كشف الأستاذ " عوده
" النقاب عن رواية نادرة مكتوبة أيضاً باللهجة العامية المصرية ، وعنوانها
" قنطرة الذي كّفّرْ " وهي عن دراما الحياة الشعبية قبل وخلال ثورة 1919
وبطل الرواية هو " عبدالسلام قنطرة " وقد وّظفّ المؤلف الأسم الى تلك
القنطرة التي كانت في درب الجماميز الموصلة الى بيت " كفاريللي " أحد
علماء الحملة الفرنسية وقد قّلّبّ الشعب المصري اسمه الى " اللي كّفّرْ
" وقد دُفعت للنشر في أربعينيات القرن الماضي ، أما الكاتب فهو الدكتور
" مصطفى مصطفى مُشرَّفه " الشقيق الأصغر لعالم الفيزياء المصري الكبير ،
ومعاون " إينشتين " الدكتور " علي مصطفى مُشرَّفة " رحمه الله
....
******
ونعرف أيضاً أن الدكتور " محمد مندور " مفكرنا الكبير ،
كان عَلى معرفة كاملة بحكاية هذا المخطوط ، وظني في ذلك يرجع الى أن الدكتور
" مندور " قد شّغلّ حيزا غير قليل من تلك المذكرات ، وقد أراد "
عوض " إطلاعه عليها ، فقد إلتقى به في باريس وهو في طريقه الى بريطانيا
للدراسة في " كامبريدچ " حيث رّسّتْ السفينة في ميناء مارسيليا الفرنسي
، ومنها أخذهم القطار الى باريس ، فوجد الدكتور " محمد مندور " قد سبقه
الى عاصمة النور بعدة سنوات للدراسة في السوربون ، بغرض الحصول عَلى درجة
الدكتوراة ، في الآداب ويبدو أنه قد حّصّلّ عليها في تلك الفترة ، بيد أنه فّضّلّ
البقاء في باريس لبضع سنوات قاربت العشر ، حتى أصبح وبكل مقدرة وقوة ، بمثابة
" عُمدة طلاب مصر والعرب " في تلك العاصمة التي لا تترك أحداً إلاّ
وأمسكت بمخيلته ، وسيطرت عَلى عقله ، وامتلكت روحه !!
*******
في الكلمات الأخيرة من مقدمة الدكتور " عوض " لهذه
المذكرات المُثيرة للجدل ، بدا لي مُراجعاً لكتابه ، كأنه " يُقدٍمْ رٍجلْ ،
ويأخر رٍجلْ " عَلى حد التعبير الشعبي !!
فيقول :
" لقد نّبّشٌ كناري قبراً من قبور الماضي ، بعد ربع قرن من
الزمان ، بعد أن تّغّيّرْ وجه مصر ، وتّغّيّرْ وجه أوروبا وأصبح قلب صاحب هذا
الكتاب في خريف العمر ، فلم يعد ابن الثانية والعشرين والذي خّرّجْ من مصر غازياً
وعاد اليها غازياً ، وكان خياله يّكسو كل شئ بِبُردة من الأحلام ، ولست أدري ان
كان كناري قد استخرج لنا من بطن الأرض عظمة أو استخرج كنزاً كما يسميه .. ولكن
أياً كان الحكم عَلى هذا الكتاب فهو وثيقة تاريخية نّرىّ منها جانباً من صورة مصر
وجانباً من صورة أوروبا وجانباً من صورة فّتّىّ مصري مُتفتح ، كان يريد أن يّجتبي
الدنيا في أعطافه بين ١٩٣٧ و ١٩٤٠ " ....
*****
انتهت الكلمات الإفتتاحية
لهذه المذكرات البديعة والجميلة ، فهل أستطاع الدكتور " لويس
عوض " بمذكراته المٌثيرة للجدل أن يحسم الإجابة عَلى تلك التساؤلات الأقرب
الى الهواجس ، المُتسربلة بالشك وعدم اليقين !!
*****
لا أعرف ما كان يقصده الدكتور " لويس " من طرحه لهذه
التساؤلات التي بدت لي أنها أقرب الى الخواطر والمخاوف معا !!
هل بسبب تلك الطريقة الفريدة في الكتابة ، وهي القائمة عَلى اللجوء
الى " العامية المصرية " لا اللغة العربية الفصحى ، أم السبب يرجع الى
تجاوز الزمن والعصر وروح التطور لٍمّ وّرّدّ في هذه المذكرات من وقائع وأحداث
وشخصيات !!
*****
ظني أن تلك المذكرات سوف تظل خالدة ، لا بخلود صاحبها ، فالله
وحدها له الخلود ، ولكن بخلود تلك القيم الفكرية والثقافية والتربوية والتاريخية
التي جاءت بها صفحات هذا " الكتاب الوثيقة " ولذا يتعين التعامل معها
عَلى هذا النحو ، بحُسبانها " وثيقة تاريخية " مُتعددة القيم والأفكار
والثقافات .... )
******
صلاح زكي أحمد
القاهرة :
فجر يوم الأحد الموافق ٤ أكتوبر٢٠٢٠
ملاحظة :
سبق نشر هذا الموضوع عن مذكرات الدكتور " لويس عوض " في
موقع " أصوات أونلاين " مع صور نادرة وأفلام وثائقية تاريخية .
0 تعليقات