نصر القفاص
"فى شهر يوليو سنة 1949 تقرر أن تستقيل وزارة إبراهيم عبد
الهادى.. وتقرر أن يؤلف حسين سرى الوزارة التى تجرى الانتخابات الجديدة.. دعى حسين
سرى من أوروبا سرا بواسطة صهره محمد هاشم وزير الداخلية..على إثر وصوله إلى مصر, اتصل
بى تليفونيا الأستاذ إدجار جلاد صاحب جريدتى الزمان, وجورنال ديجيبت وقالى لى: لقد
عاد حسين سرى إلى مصر فجأة.. ثم سألنى هل لعودته علاقة بالموقف السياسى؟ أجبته بأنني
أجهل أمر عودته جهلا تاما ولم أسمع خبر وصوله سوى منك".
الحكاية على لسان "كريم ثابت" فى مذكراته.. ولاحظ أنه
كتب "تقرر" أن تستقيل وزارة "إبراهيم عبد الهادى".. وكتب
"تقرر" أن يؤلف "حسين سرى" الوزارة.
من الذى قرر.. ولماذا؟
صاحب القرار كان الملك "فاروق" فى الزمن
"الديمقراطى".. هو الذى يقيل وزارة تتمتع بالأغلبية.. وهو الذى يعين
حكومة أقلية.. يفعل ذلك وقتما شاء, طالما أن المندوب السامى لم يشر عليه بشىء..
وللقصة بقية سردها "كريم ثابت" فقال:
"بعد تشكيل الوزارة
الجديدة.. استقبل الملك فاروق فى مكتبه بقصر المنتزة حسن يوسف رئيس الديوان الملكى
بالنيابة وحسين حسن سكرتيره الخاص وإدجار جلاد وكاتب هذه السطور ليسلمهم براءة
الباشوية التى أنعم بها عليهم يوم 29 يوليو وهو مناسبة ذكرى حلف اليمين
الدستورية..
كان طبيعيا أن يتحدث عن تغيير الوزراة.. وكيف أن ما حدث كان مفاجأة
للناس.. بل لرجال القصر أنفسهم.. حتى أنه فيما عدا حسن يوسف لا أظن أن أحدا منكم
كان يعلم به مقدما".
الملك كان صاحب الأمر والنهى فى الزمن الليبرالي!
الملك فخور بأن أقدار البلاد, هو يتلاعب بها دون علم أحد.. حتى من
الذين يحيطون به, سوى "حسن يوسف" رئيس الديوان الملكى بالنيابة.
لكن هل كانت هذه هى الحقيقة؟
الإجابة.. ينفيها "كريم ثابت" فى مذكراته.. فهو يقول:
"كان طبيعيا أن نؤمن ونوافق على كلامه.. وقلت: لدرجة أن جلاد كلمنى بالتليفون
وسألنى عن سر عودة حسين سرى فقلت: إننى لم أعرف خبر عودته سوى منك.. هنا ضحك فاروق
رغم أنه يعلم أنني صاحب السياسة التى قام عليها التغيير الوزارى.. وهو يعلم أنني
الذى نقلت إلى حسن يوسف أوامره بأن يعمل الترتيب اللازم لاستدعاء حسين سرى من
أوروبا ليتولى تأليف الوزارة" ثم يضيف تفصيلة مهمة جدا يقول: "لقد كان
يفرح بالظهور بهذا المظهر.. ونحن لم نكن نرى فى ذلك ضررا.. فلم لا ندعه يفرح.. لم
لا نتركه يغتبط"!!
لا أظن أن هناك تجاوزا لو قلت أن جلالته كان "ساذجا"!!
الذين حوله يعلمون أنه "ساذج" ويفرح بسذاجته.. ذلك معنى
كلام صديق الملك ومستشاره والوزير فى زمنه.. هو لا يرى فى ذلك نفاقا.. بل سبيلا
لأن يجعلوه يغتبط بأن يفاخر بمفاجآته فى تغيير الوزارة كما يغير ملابسه.. ويحمل
التاريخ مواقف أخرى انقلب فيها على نفسه حسب حالته المزاجية, وحبه لهذا الزعيم أو
كراهيته لآخر.. وكانت الأمور تتبدل.. "فالنحاس" الذى كان لا يحبه, رفض
أن يسمح له بتشكيل الوزارة دون تدخل الانجليز بالدبابة والمصفحة.. تحول إلى مقرب
وحبيب له فى آخر شهور حكمه.. والسبب أنه سانده فى أزمته مع أمه وزوجته, والتى كانت
فضيحة مدوية.. بل قل أنها كانت "أم الفضائح"!!
كان جلالته يشك فى كل من حوله!!
هكذا يقول "كريم ثابت" وكتب قائلا: "لاحظت خلال
دراستى الأولية لأخلاقه وطباعه أنه شغوف بإحاطة أعماله بجو من السرية والكتمان..
مع أن أغلب أسراره كان يعرفها المحيطين به, لأنه كان يحدث كل منهم بها على حدة..
لكنه كان يهتم اهتماما شديدا بالتزام رجاله بالصمت حتى لو كان السر متعلق بأمور
تافهة لا تستحق التفاتا!!
يروى "كريم ثابت"حكاية شارحة للمعنى فيقول: "سمعت
أن جلالته سيدعو عدد من أصدقائه وأصفيائه إلى رحلة خاصة – معنى أصفيائه واضح –
وددت أن أتحقق من ذلك لأنظم مواعيدى فى متسع من الوقت خلال غيابه.. سألت المسئول
عن تنظيم الرحلة وإعداد معداتها.. هل لما سمعت نصيب من الصحة؟! أجابنى بأنه لا
يعرف عن ذلك شيئا.. بعد أقل من ساعة كنت إلى جوار الملك, وجاء من سألته ليعرض عليه
برنامج الرحلة.. ولما اختليت به اعتذر وقال لى أن مولانا يحب أن تكون هذه هى
طريقتنا فى العمل"!!
حكايات كثيرة لتأكيد المعنى ذكرها صاحب المذكرات.. لكن أطرفها
حكايته مع الفنان "سليمان نجيب" الذى يقول "كريم ثابت" أنه
حضر إلى القصر لزيارة بعض أصدقائه فى يوم إعادة تشكيل وزارة "حسن سرى"
لتصبح ائتلافية.. دخل مكتبى وسألنى: "هل صحيح الوزارة ستتغير؟! وأضاف.. هناك
إشاعات حول الموضوع.. أجبته: ومنذ متى خلت المجالس من الشائعات يوما واحدا.. كانت
أسماء أعضاء الوزارة الجديدة أمامي على مكتبي, فلم أشأ تحريك الأوراق حتى لا ألفت
نظره, ولم أغير جلستى طول مدة وجوده فى مكتبى.. وبعدها بساعة كانت الإذاعة تعلن
نبأ تأليف الوزارة الجديدة وأسماء أعضائها".
للحكاية بقية.. يقول "كريم ثابت" فى مذكراته: "مساء
اليوم التالى لتلك الواقعة.. كنت جالسا فى بهو نادى السيارات بصحبة جلالة الملك..
مر أمامنا الفنان سليمان نجيب.. كان فاروق يعرفه جيدا.. لاحظ أنه ينظر تجاهى
باسما.. ناداه الملك قائلا: مالك يا سليمان؟!
فأجاب: يقولون يا مولاى عن يوسف وهبى ممثل.. ويقولون عنى أننى
ممثل.. فى حين أن الممثل هو هذا الرجل.. وأشار نحوى.. فقد كنت عنده أمس قبل إذاعة
أخبار الوزارة الجديدة بساعة واحدة.. وسألته.. هل هناك تغيير وزارى كما يشاع؟ فلم
ينف الشائعة, وتركنى أخرج من مكتبه وأنا على يقين أن الشائعة غير صحيحة.. فضحك
فاروق وقال له: أمال إحنا جبناه ليه!! وبعد انصراف سليمان نجيب قال لى جلالته ما
كان يقوله لأصدقائه: تعرف يا كريم إننا نجرناك كتير منذ اشتغلت معانا.. أنت طبعا
لا تعرف الفرق.. لكن هذا هو الواقع.. أراد أن يقول لى أن سليمان نجيب معجب بك ونسى
أن هناك معلما دربك.. هذا المعلم هو أنا.. لا تنسى ذلك"!!
الحكاية لا تحتاج إلى تعليق
الواقعة تحمل كل ما تفكر فيه من معان.. تجعلك ترى عقل وفكر
"الولد" الذى حكم لأكثر من خمسة عشر عاما, لم ينجز خلالها غير أنه أضاف
لميراثه عن أبيه وكان 14 ألف فدان, ثمانين فدانا أخرى.. فقد غادر مصر وهو يملك 94
ألف فدان وبضع مئات!!
ثم يقولون أن مصر فى الثلاثينات والأربعينات كانت عظيمة!!
برهانهم ودليلهم أن "الموضة" كان يتم عرضها فى القاهرة
قبل "لندن" و"باريس".. وأن بعض شوارع العاصمة والإسكندرية
كانت نظيفة, وتتزين بالاستعمار وخدمه من أصحاب الثروات والنفوذ.
الذى يتحدث عن آخر ملوك مصر قبل الثورة هو صديقه ومستشاره والوزير
فى آخر حكومات زمن الملكية "كريم ثابت" الذى يؤكد: "كان الملك يحب
السهر ولا يستطيع النوم عادة إلا قبيل الفجر"!!
ولتأكيد ذلك يروى قصة
أخرى: "أيقظنى جلالته بالتليفون فى إحدى الليالى.. كانت الساعة تقترب من
الثالثة فجرا.. قال لى أريد منك أن تتفق مع حسين سرى رئيس الوزراء على موعد يقابل
خلاله عبد الجليل العمرى ليكلمه فى رأى له حول موضوع غطاء الذهب للنقد.. استغربت
قائلا: موعد لعبد الجليل العمرى يا مولاى؟!
فقال: نعم.. لماذا هذا الاستغراب.. قلت لأن عبد الجليل العمرى وكيل
وزارة المالية, ويستطيع مقابلة رئيس الوزراء دون وساطة.. فقال متأففا.. هل تسمح
بأن تطلب غدا من حسين سرى بأن يعين – يحدد – موعدا سريعا لمقابلة عبد الجليل
العمرى.. وأضاف بأنه قابله وسمع كلامه فنصحه بمقابلة رئيس الوزراء ليشرح له وجهة
نظره كما شرحها لى.. قلت: وإذا طلب عبد الجليل العمرى مقابلة رئيس الوزراء.. فهل
يرفض طلبه؟! لماذا نتدخل نحن بين وكيل وزارة ورئيس الوزراء لتحديد مقابلة؟! فقال
لى: أنت غريب الليلة يا كريم.. لا أفهم لماذا تناقش كل هذه المناقشة.. كل المطلوب
منك أن تأخذ موعدا سريعا لعبد الجليل العمرى بأمر منى.. أما شعور رئيس الوزراء فلا
يهمنى.. مفهوم.. قلت: مفهوم يا افندم.. وغير مفهوم.. قال لى: نفذ المفهوم ولا تهتم
بغير المفهوم.. بعد ساعة – الرابعة فجرا – دق جرس التليفون وكان جلالته المتحدث..
سألنى: هل هضمت فكرة أخذ موعد لعبد الجليل العمرى.. فقلت: أتريد جلالتك الحق.. لم
أهضمها.. فقال لى: أنت حقيقى غريب الليلة.. لم أعرفك يوما مغلق الفهم كما عرفتك
الليلة.. ثم أضاف: أنت حتما مريض الليلة.. ألم أقل لك أن فكرة المقابلة جاءت منى..
قلت: فهمت.. سأنفذ الأمر حتى لو لم أفهمه.. أجابنى: ويظهر أنك لن تفهمه"!!
لم تنته القصة.. باقى تفاصيلها تفجر الضحك والدموع.
يقول "كريم ثابت": "فى الصباح طالعت الصحف كعادتى..
قرأت فى بلاغ كبير الأمناء, أنه جرت مقابلات ملكية بعد ظهر أمس.. وجدت بينها اسم
أحمد بك سليم السكرتير العام للبنك البلجيكى الدولى, وكان من قبل من رجال وزارة
المالية.. آدركت أن الملك كان يعنيه فى حديثه معى, وأنه ذكر اسم عبد الجليل العمرى
سهوا.. إتصل بى جلالته بعد الظهر وقال: هل أخذت الموعد أم مازلت تجهد فكرك فى
تفسير الموقف؟! فقلت: هل كنت جلالتك تريد الموعد لأحمد سليم سكرتير البنك
البلجيكى؟.. أجابنى: طبعا.. فماذا فعلت.. قلت: تم تحديد الموعد يا افندم وأبلغوه
إياه.. لكننى أود أن أوضح أن جلالتك كنت تقول الموعد لعبد الجليل العمرى وذلك
جعلنى أستغرب.. فقال لى: من ذكر اسم عبد الجليل العمرى.. هل ترى كيف كنت مريضا
أمس؟! من أين جئت باسم عبد الجليل العمرى.. لقد قلت لك اسم أحمد سليم عشرين مرة!!
وفى المساء طلبنى وقال: يحسن أن تكتب الأسماء التى أذكرها لك حتى لا تكرر ما فعلته
أمس"!!
كل ذلك فى مذكرات "كريم ثابت" هى هوامش لتقديم إضاءة حول
شخصية "الولد" الذى حكم مصر!!
أما باقى المذكرات ففيها ما يجعلك تعرف الحقيقة.. تفهم سر تحرك
الجيش ليلة 23 يوليو 1952.. ستتأكد أن هذه الثورة أنقذت مصر من ملك كان يلعب
بمقدراتها.. وهو فى الوقت نفسه لعبة الانجليز!! وساسة يتباكون على
"الديمقراطية" التى كانت و"الليبرالية" التى ضاعت..
يتبع
0 تعليقات