آخر الأخبار

د. محمد فراج يكتب : الحديد والصلب.. قلعة صناعية وطنية يجب إنقاذها (١)

 




 

 

مجمع الحديد والصلب بحلوان، إحدى قلاع الصناعة المصرية، يواجه مصيرًا تحيط به الشكوك ويمكن أن يصل إلى كارثة التصفية مثلما حدث مع الشركة القومية للأسمنت.. معدات وخطوط إنتاج متهالكة.. أعطاله مستمرة، وتراجع كبير في أرقام الإنتاج.. خسائر ضخمة، ومديونية ثقيلة.. فشل ذريع في الإدارة يصل إلى حد التقصير الموجب للمحاكمة.. شبهات قوية للفساد.. وقرارات وإجراءات لا يمكن تفسيرها إلاّ بتعمد (تخسير) الشركة، وإهدار المال العام.

 

وإذا لم يتم اتخاذ خطوات حاسمة وسريعة لإنقاذ شركة الحديد والصلب، ووضع حد للفوضي الشاملة الضاربة فيها، وللإهمال والفساد وإهدار المال العام، والإدارة الفاشلة، فإن نزيف الخسائر سيستمر، وستكون الشركة معرضة لأن تلفظ أنفاسها الأخيرة.. مع أن هذا المصير القاتم ليس محتومًا على الإطلاق..

 

فالشركة العملاقة تملك مقومات للنهوض وتجاوز أزمتها الخانقة، والاقتصاد المصرى بحاجة ماسة إلى منتجاتها التي تتفرد بإنتاجها فى السوق المحلية، مثل قضبان وفلنكات السكك الحديدية، والصلب المُشكَّل على هيئة ألواح مختلفة الأحجام والسُمك، والكمرات والستائر والزوايا الحديدية من مختلف المقاسات، وأنابيب ومستودعات البترول.. وغيرها من المنتجات الهامة لصناعات أساسية مختلفة.. وكل هذا سوف نحتاج إلى استيراده من الخارج إذا تم ـ لا سمح الله ـ إغلاق شركة الحديد والصلب المصرية.. وسنخسر «أم الصناعات الثقيلة» التى تمثل أساسًا لصناعات أساسية كثيرة بالغة الأهمية لتطور الصناعة والاقتصاد الوطنى عمومًا.. كما سنخسر خبرات هندسية وفنية ثمينة تراكمت على مدى عقود من الزمان.. ولا يمكن تعويضها بسهولة. ويكفي أن نشير إلى أن خسائر الشركة وتدهور أحوالها قد جعل عدد العاملين فيها ينخفض من (٢٥ ألفًا) في السبعينيات والثمانينيات ـ أغلبهم من المهندسين والفنيين والعمال المهرة.. إلى (٨٫٥ ثمانية آلاف وخمسمائة فى الوقت الحالى).

 

فوضى الأرقام

 

 

وقد يكون ضروريًا هنا أن نشير إلى ما اصطدمنا به من فوضى وتضارب الأرقام أثناء جمعنا للمادة الضرورية لكتابة هذا المقال، بما فى ذلك الأرقام التي يذكرها مسئولون كبار، وتأخذ بها مواقع وصحف كثيرة، دون ملاحظة تضاربها، مما جعلنا نعتمد بصورة أساسية على أرقام تقرير الجهاز المركزى للمحاسبات حول النشاط المالى والفنى للشركة باعتباره مصدرًا يتمتع بمصداقية عالية، علمًا بأن تقرير «الجهاز» أبدى تحفظات جوهرية على تقرير مجلس إدارة الشركة من العام المالى (٢٠١٨/٢٠١٩).. ونأخذ بأرقام تقرير «الجهاز» (موقع «البورصة نيوز» التابع لجريدة البورصة - ١١ نوفمبر ٢٠١٩) بصفة أساسية، وفى الأمور المتصلة بأرقام ووقائع أساسية دون أن يمنعنا هذا من الأخذ بأرقم مصادر أخرى فى حالة توافقها وتواترها.

 

ومن الضرورى أيضًا أن نشير إلى أن استنادنا إلى أرقام «تقرير الجهاز المركزى للمحاسبات» لا يمنعنا من الاختلاف مع رؤية التقرير واستنتاجاته.. فهذ أمر لا علاقة له بمصداقية الأرقام، وإنما بتحليلها واستخلاص الاستنتاجات منها.. وهو مجال مفتوح ومشروع لاختلاف وجهات النظر.

 

ديون.. وفوضى.. وفساد

 

تقرير الجهاز المركزى للمحاسبات عن النشاط المالى والفنى للشركة في العام المالى (٢٠١٨/ ٢٠١٩) يتحدث عن «شكوك جوهرية في إمكانية استمرار الشركة» لأسباب منها عدم قدرتها على سداد الالتزامات المالية في ظل ارتفاع المديونية إلى ٥٫٣٧٢ مليار جنيه بنهاية العام المالى (٢٠١٨/ ٢٠١٩) .. وأشار التقرير إلى توقف الإنتاج المتكرر، حتى وصل زمن التشغيل إلى ٨٪ فقط من الوقت المقرر للتشغيل!! وذلك مقابل معدلات أعطال تبلغ ٩٢٪!! أى أن العمل والإنتاج أصبحا يمثلان الاستثناء، بينما القاعدة هي التوقف والأعطال!! ولو أن هذه الأرقام جاءت في غير تقرير «المركزى» لكان من المستحيل التصديق بها.. علمًا بأن الفرنين العاليين (١ و٢) متوقفان منذ أعوام بسبب تقادمهما إذ يرجع بناؤهما إلى بداية عمل الشركة عام ١٩٥٨ (أى أكثر من ٦٠ عامًا) وكان ينبغى إحلال فرنين جديدين محلهما، لكن هذا لم يحدث.. لماذا؟! الإجابة عند المسئولين عن شركة الحديد والصلب، والشركة القابضة للصناعات المعدنية ووزارتى التجارة والصناعة، وقطاع الأعمال العام..

 

فحم الكوك وشبهات الفساد

 

ويذكر تقرير الجهاز المركزي للمحاسبات أن عدم وجود احتياطي استراتيجي من فحم الكوك- الضروري لتشغيل أفران صهر الحديد، هو من أهم أسباب تعثر التشغيل في ظل عدم انتظام توريدات فحم الكوك من شركة الكوك، والذي وصل إلى توريد (10 أطنان) فقط يومياً في شهر أغسطس 2018، بينما تحتاج شركة الحديد والصلب إلى أكثر من ألف طن في اليوم.. مما دفعها إلى استيراد (32 ألف طن) من شهر سبتمبر 2018، تكفي احتياجاتها لشهر واحد!!

 

إلى هنا ينتهي كلام التقرير في هذه النقطة، وتبدأ الشكوك في فساد الإدارة، فالمعروف أن فحم الكوك ضرورى لصناعة الحديد والصلب ضرورة الهواء للتنفس.. ولهذا أقامت الدولة شركة الكوك بجوار مجمع الحديد والصلب مباشرة لتسهيل التوريد السريع والمنتظم، وتقليل تكلفة النقل، وذلك باعتبار أن الشركتين طرفان في عملية إنتاجية متكاملة (علمًا بأن شركة الكوك تقوم بصنع منتجات كيماوية أخرى.. إلى جانب منتجها الأساسى).

 

والمثير للعجب والشك هو أن شركة الحديد والصلب تتأخر في دفع مستحقات شركة الكوك بحيث تزيد مديونيتها لها عن (٤٠٠ مليون جنيه) فتلجأ شركة الكوك للتباطؤ في توريد الفحم إلى شركة الحديد والصلب (عشرة أطنان من ألف طن مطلوبة على الأقل يوميًا)!! وهنا تقوم شركة الصلب باستيراد (٣٢ ألف طن) لتلبية احتياجات الإنتاج فى شهر سبتمبر ٢٠١٨.. كما يشير «تقرير المركزى للمحاسبات»..

 

 والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: إذا كان لديكم سيولة وعملة صعبة للاستيراد.. فلماذا لا تسددون مستحقات شركة الكوك، وتحصلون على توريدات منتظمة؟!! وإذا كنتم ستقترضون من أجل استيراد الفحم لماذا لا تستخدمون هذا القرض لسداد مديونيتكم لجيرانكم في «الكوك» وتضمنون توريدات منتظمة؟؟!! ولماذا تتحمل شركة الحديد والصلب من أموال الدولة في حقيقة الأمر ـ أعباء التعاقد وتكلفة الشحن البحرى، ثم الشحن البرى، من الموانئ إلى التبين، بينما يمكن أن تحصلوا على ما تريدون من جيرانكم.. (الحيط في الحيط كما يُقال).. على ما يلزمكم؟؟!! علمًا بأنه فى هذه الحالة تبقي أموالنا في بلادنا.. ويزول عبء عن ميزاننا التجارى.. وتحصل شركة مصرية على مستحقاتها الأسيرة لديكم. وينتعش نشاطها وإنتاجها.. وبديهى أن إدراك هذا كله لا يحتاج إلي ذكاء خارق، بل إلى امتلاك الحد الأدنى من النزاهة والحرص على المال العام.. لكن من الواضح أن هذا الحد الأدني غير موجود..

 

وإذا كان ما ذكرناه هو مثال لشهر واحد ، نقلناه عن تقرير «المركزى للمحاسبات» فإن الكارثة الحقيقية هى ما يذكره التقرير عن عدم وجود احتياطى استراتيجى من فحم الكوك، وبالتالى تعطل الأفران كلما نقص الفحم في مخازن الشركة.. علمًا بأن توقف الأفران وإعادة تشغيلها أمر له قواعد ونظام للتدرج يؤدى عدم الالتزام به للتأثير على الكفاءة الفنية لتلك الأفران.

 

وهنا يفرض نفسه سؤال مُلح: إذا كانت إدارة الشركة - وإداراتها المتعاقبة فى الحقيقة ـ مفتقدة إلى الحد الأدنى من النزاهة والرشد الإدارى والفنى والاقتصادى.. فأين الشركة القابضة للصناعات المعدنية؟؟!! وأين وزارة قطاع الأعمال العام ووزارة التجارة والصناعة؟!!

 

الخردة.. و(التجارة فى الخسارة؟!)

 

مثال آخر للفساد وإهدار المال العام يتعلق بتعامل إدارة الشركة مع (الخردة).. وهى بالنسبة لشركة الحديد والصلب بالذات ليست شيئًا تافهًا كما يمكن أن يوحى به اسمها.. لكنها مصدر لدخل كبير يمكن أن يغطى الجزء الأكبر من مديونياتها، وأن يوفّر لها سيولة تقلل بصورة ملموسة من اضطرارها للاستدانة.. خاصة إذا علمنا أن الشركة لديها (خردة) تزيد على (٩٣٠ ألف طن) تبلغ قيمتها (٤- ٥ مليارات جنيه) بأسعار البورصة العالمية للخردة، على أقل تقدير.

 

ومعروف أن الشركة كانت قد عقدت صفقة مع (شركة المصريين للصلب/أبوهشيمة) فى سبتمبر ٢٠١٨، تبيع بموجبها (٢٣٠ ألف طن خردة) لأبى هشيمة قدَّر الخبراء قيمتها وقتها بنحو (١٫٢ مليار جنيه).. مع إمكانية شرائه (٧٠٠ ألف طن) أخرى فى منطقة تابعة للشركة معروفة باسم جبل التراب.. (بوابة الأهرام ـ واليوم السابع، والصحف والمواقع فى ٢٥ سبتمبر ٢٠١٨).. وينص العقد على إجراء معالجة محددة لهذه (الخردة) قبل تسليمها لـ«شركة المصريين»..

 

 

 

فماذا حدث؟؟

يذكر تقرير الجهاز المركزى للمحاسبات أن شركة الحديد والصلب حققت خسائر بقيمة ٥٩ مليون جنيه عن كميات الخردة المسلمة لشركة حديد المصريين البالغة ١٥٫٨ ألف طن!! بسبب احتساب نسبة فاقد أثناء التجهيز قدرها (٢٥٪)، بالإضافة إلي ارتفاع تكلفة المعالجة (لأسباب لم يذكرها التقرير) بحيث ارتفعت تكلفة الطن على شركة الحديد والصلب إلى (١٢٫١٤ ألف جنيه).. أى أعلى من سعر حديد التسليح الـمُصنع مثلا!! أى أن الشركة (تاجرت في الخسارة) وخسرت (٥٩ مليون جنيه) عند تنفيذ (٧٪) فقط من الصفقة، فإن الأمر ينقلب إلى مهزلة حقيقية، لأن تنفيذ بقية الصفقة سيعنى أنها ستسلم الخردة بدون مقابل وتخسر فوقها حوالى (٨٥٠ مليون جنيه)!! وهذا جنون مطبق.. ولا يمكن أن يكون له اسم آخر. ولهذا أسميناه (التجارة فى الخسارة)!! كما يقول العامة عن مثل هذه الصفقات الخاسرة..

 

فهل يا ترى ليس لهذا المال صاحب.. لكى يعيث فيه الفاسدون نهبًا وإهدارًا بهذه الطريقة الإجرامية؟؟!!

 

(تقرير الجهاز المركزى للمحاسبات المنشور في موقع البورصة نيوز ـ جريدة البورصة، ١١ نوفمبر ٢٠١٩)

 

ثروات طائلة.. فى مهب الريح!

كما يشير التقرير إلى تقاعس إدارة الشركة عن اتخاذ الإجراءات القانونية لتسجيل نحو (٧٩٠ فدانا) فى حوزة الشركة (بوضع اليد) في منطقة التبين و(٦٥٤ فدانًا) أخرى (وضع يد) في الواحات البحرية، و(٤٥ فدانًا) مشتراة من الشركة القومية للأسمنت عام ١٩٧٩.. أى منذ ٤٠ عامًا!! وغنى عن البيان أن تسجيل الملكية يمثل حماية قانونية لها ضد محاولات الاعتداء ووضع اليد عليها بصورة غير قانونية، وخاصة من جانب أفراد ذوى نفوذ، ولا يحترمون القانون.. وهو ما تشير التقارير الصحفية إلى تعرض أراضي الشركة له، بما فيها المساحة الأصلية المخصصة لها بموجب القرار الجمهورى بإنشائها (عام ١٩٥٤) والتي تبلغ (٢٥٠٠ فدان.. أو ما يعادل 10‪.5 مليون م٢) فى منطقة التبين بالقاهرة.. والتي أقيمت عليها مصانع الشركة والمدينة السكنية للعاملين، بالإضافة إلى مسجد كبير.

 

>‫> وللحديث بقية حول مظاهر الفوضى والتسيب والفساد وإهدار المال العام، التي وصلت بشركة الحديد والصلب إلى وضعها الحالى.. وكلها أمور يمكن ـ وينبغى بالقطع ـ مواجهتها ووضع حد لها، سعيًا للنهوض الممكن والضرورى بالشركة، واستعادتها كقلعة ومفخرة للصناعة المصرية كما كانت لسنوات طويلة..

 

.‫. فإلى الأسبوع القادم.. إن امتد بنا العمر..

 

إرسال تعليق

0 تعليقات