آخر الأخبار

نساء علي رصيف الهامش ..

 

 


 

 

حمدي عبد العزيز

 

شاهدت الفيلم التسجيلي القصير (نساء علي الرصيف) والفيلم من إنتاج القناة المصرية الثامنة (قناة الصعيد) لكاتبته ومخرجته المصرية نجلاء بسيوني والتي نالت جائزتين ذهبيتين عن هذا الفيلم من مهرجان القاهرة للإعلام العربى دورة عام 2011 ، حيث حصلت على جائزة فى السيناريو ، وجائزة فى الإخراج ..

 

يدور هذا الفيلم ويتدفق شريطه السينمائي أمامنا بأوجه نسائية متنوعة يجمعها عالم واحد هو عالم رصيف السوق ..

 

لكل وجه قسماته وتجاعيده الخاصة التي تفصح عن روح إنسانية لها الآمها وحرماناتها وأحزانها وأحلامها الخاصة ..

 

وكل صاحبة وجه لها حكايتها ومعركتها الخاصة مع حياتها البائسة الجافة ..

 

ووراء كل صاحبة وجه رجل عاجز عن العمل ، أو عظام قبر كانت رجلها ، أو رجل فارقها ، وأولاد ينتظرون عودتها بما يسد جوعهم ، أو يوفر لهم الحد الأدنى من الستر والملبس والمأكل ..

 

كل وجه نسائي

 

هو وجه لامرأة معيلة تكافح من أجل أن تبقي أسرة علي قيد الكرامة الإنسانية

 

لكل وجه قصته

 

لكن قصة واحدة تجمع كل هذه الوجوه

 

هي قصة الإصرار علي استمرار الحياة ولو بحدها الأدني في ظل ضيق الحال وندرة الحيلة ..

 

ولعل في اختيار رصيف السوق الذي تجلس فيه كل أصحاب هذه الوجوه من النسوة دلالة رمزية عميقة لفكرة تحمل عمقاً فلسفيا إجتماعياً لقضية المرأة ، بوصفها كائن يحمل وظيفة فسيولوجية مبدئية يحملها مسئولية استمرار الحياة علي هذه الأرض ، وبوصفها كائن تعرض لسحق تاريخي تحت ضغط عملية التقسيم الإجتماعي للعمل ، ولعل رمزية السوق والرصيف في الفيلم تضعنا مباشرة أمام مسرح القضية إجتماعياً ، وتضع أنظارنا مباشرة أمام مربط الفرس ، حيث أن السوق هنا هو موقع التقسيم ، وموضع القهر الإجتماعي ، والرصيف الذي هو هامش السوق والشارع والمجتمع هو شاهد التهميش ..

 

وهنا تكمن براعة نجلاء بسيوني المخرجة وكاتبة السيناريو للفيلم حيث لم تبرح الكاميرا عالم السوق إلا للتنقل لقراءة الوجوه النسائية التي طحنها هذا السوق وشكل حدود نوازعها وأحلامها ، ومعاناتها ..

تقهر المرأة لامحال كجزء من القهر الإجتماعي

 

وتهمش المرأة كجزء من عملية التهميش الإقتصادي والإجتماعي الذي تمارسه قوي الهيمنة الإجتماعية عبر مراحل التاريخ الإنساني ..

 

الفيلم يعبر التسجيلية إلي عالم الشعرية السينمائية التي تعبر أسطح الصورة إلي أبعادها الكامنة بحيث يبوح لنا كل كادر سينمائي بأسرار عناصره ، سواء باستخدام لغة الأوجه المتعبة ، أو العيون المشعة بالإصرار والتشبس بأهداب الحياة ، أو تلك التي تحمل ابتسامة لها تاريخها الخاص من المكابدة والكدح والألم ، أو تلك الأعين النسائية المشعة بالدفء والأمل رغم قسوة الحياة وجفافها الشديد ..

 

في (نساء علي الطريق) لاتحتفي المخرجة نجلاء بسيوني عبر كاميرتها وكتابتها لسيناريو الفيلم بالمرأة المصرية التي أطاح بها تقسيم العمل الإجتماعي إلي قارعة الرصيف ، وقش أراضي الأسواق القروية ، وإنما هو احتفاء في حقيقة الأمر مجرد احتفاء سردي ، إنما هي تنفذ إلي عمق أشد ، وهو كيف أن العناصر التي تقدمها لهذا الكائن الحنون الضعيف الهش يمثل النواة الصلبة التي تحصن عالماً من الرجال والبنات والأولاد من التداعي والسقوط ، وتقف كحائط صد يحمي الحياة البشرية في أضعف منطقة من مناطقها من الضمور ..

 

هي اختارت أحد أسواق الصعيد المصري كمجال للرؤية السينمائية ، وهو اختيار لأعمق نقاط الإنسحاق والتهميش في مصر ..

 

هو الصعيد بإمكاناته الثروية المحدودة كمنطقة بعيدة عن المركز الذي تبدأ منه الخدمات وعمليات التمدن الإنساني عبر التاريخ ..

 

وهو الصعيد الذي يعد يقع علي هامش الهامش كقلب لعملية الإنسحاق الإجتماعي للمرأة

 

وهو الصعيد الجاف بسياقاته التراثية والثقافية الشديدة التمييز ضد المرأة .. ومن هنا كانت استعانتها بترديد كلمات أغنية فيلم (عرق البلح) الذي أخرجه الراحل البديع رضوان الكاشف والتي أعدها من التراث الجنوبي الراحل الرائع عبد الرحمن الأبنودي ، وغنتها الرائعة شيرهان بآداء إنساني عميق ..

 

طوال الفيلم كانت تتدفق هذه الكلمات مع تدفق وجوه النساء أصحاب قصص الفيلم

 

( بيبا.. آخر الصعيد

 

بيبا.. والصاعد مات

 

بيبا.. خلف بنات

 

بيبا.. خلف بنية

 

بيبا.. قد القطية

 

بيبا.. خدها عليا

 

ببا.. خدها بدابايح

 

بيبا.. والسمن سايح

 

ببا.. سايح لفوق

 

بيبا.. وعمله طوق .. ) ..

 

إلي آخر هذه الكلمات

 

التي تتكرر مقاطعها كلما توغل السرد البصري في كل وجه من وجوه أولئك النسوة اللواتي يخضن معركة الحياة أمام شراسة الواقع الإجتماعي والإقتصادي وقوة الدفع المهيمنة التي تعمل طوال الوقت علي إزاحتهن إلي الهامش بعيداً عن متن الحياة الإنسانية الأقل قسوة وجفافاً وعنتاً وعذاباً ، ليظل الرصيف هو موطنهن الإجتماعي طالما ضن عليهن حضن الوطن بحنوه وحمايته ..

 

، وهذه الإستعانة الجمالية كانت تشكل سياقاً للعبور بالفيلم التسجيلي إلي فضاءات السينما الروائية والإستعانة بآدواتها ، وهو ماأكسب اللغة السينمائية في لفيلم طاقة جمالية ساعدته علي التوغل العميق داخل تلك الارواح البشرية المنهكة علي رصيف السوق ..

 

كذلك جاءت الكلمات الراوية المصاحبة لشريط الرؤية متدفقة كلغة القصيدة الشعرية الحديثة شارحة كحد المشرط أو كسن المنظار الجراحي الذي جال بنا في أعماق جروح أرواح النسوة الباحثات عن أسباب البقاء والحياة ، في عالم لاتسهل فيه لقمة العيش ..

 

كل التحية للمبدعة البارعة

 

نجلاء بسيوني ..

___

_____


_________

حمدى عبد العزيز

9 مارس 2020

إرسال تعليق

0 تعليقات