عز الدين البغدادي
وأما مما روي عن أهل البيت فكثير، وقد روي عن جابر قال: جعلنا
للنبي (ص) فخّارة، فأتيته بها فاطلع في جوفها، فقال: حسبته لحماً.
وفي لفظ: فاطَّلع فيها فَقال: حسبته لحماً فَذَكرت ذلك لأهلي
فذَبحوا له شاةً.
ثم تأمّل في قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: "فوالله ما
كان يُلقى في روعي ولا يخطر ببالي أنّ العرب تزعج هذا الأمر من بعده (ص) عن أهل
بيته، ولا أنّهم منحوه عني من بعده، فما راعني إلا انثيال (أي إسراع) الناس على
فلانٍ (يقصد أبا بكر) يبايعونه" لم يكن يخطر بباله أو يلقى في روعه، ثم ما
راعني إلا كذا وكذا، هل في شيء من ذلك ما يدلّ على علمٍ بالغيب؟
كما كتب إلى المنذر بن الجارود العبدي وكان واليا له على بعض
المواضع بعد أن بلغه عنه خيانة، فكتب إليه: أمّا بعد فإن صلاح أبيك غرّني منك،
وظننتُ أنك تتبع هديه وتسلك سبيله، فإذا أنت فيما رُقِي إلي عنك (أي أخبرت عنك) لا
تدع لهواك انقيادا ولا تبقي لآخرتك عتادا.
تأمل في دلالة هذا الكتاب: غرّني وظننتُ ورُقي إليّ عنك، هل تجد
علم الغيب في شيء من ذلك؟
كما أن الحسين (ع) خرج من مكة قاصدا العراق يوم التروية (8 ذي
الحجة) بعد ان بلغه كتاب مسلم بن عقيل باجتماع القوم عليه، ولم يعلم بأن مسلما قتل
في نفس يوم خروجه، واستمر على مسيره حتى جاء كتاب يبلغه بقتل مسلم هاني بن عروة
وهو في الطريق.
وروي عن أبي جعفر الباقر ع أنّه كانت عنده امرأة تعجبه وكان لها
محبا فأصبح يوما وقد طلقها واغتمَّ لذلك، فقال له بعض مواليه: لم طلقتها؟ فقال إني
ذكرت عليّا، فتنقَّصته فكرهت أن الصق جمرةً من جمرِ جهنم بجلدي.
فلم يعلم مذهب زوجته حتى صرّحت له ببغض عليّ فطلّقها وهو لها محبّ!!
ومن أدلّة النفي ما روي عن أبي بصير عن أبي عبدالله الصادق قال:
اغتسل أبي من الجنابة، فقيل له: قد بقيت لمعةٌ من ظهرك لم يصبْها الماء، فقال له:
ما كان عليك لو سكتَّ، ثم مسح تلك اللُّمعة بيده.
فمن لا يعلم لمعة في ظهره لم يمسّها الماء كيف يعلم الغيب ويعلم
عدد القطر وما في السماء وما في الأرض؟
وروي عن الفضيل قال: ذكرتُ لأبي عبد الله السهو، فقال: وينفلتُ من
ذلك أحد؟ ربّما أقعدت الخادم خلفي يحفظ عليّ صلاتي.
بل لقد سأل الإمام الصادق (ع) رجلا من أصحابه عن بشّار الشعيري وهو
رجل من الغلاة، فقال له: تعرف مبشّر بِشر؟ -بتوهّم الاسم- قال: الشعيري، فقلتُ:
بشار؟ قال: بشار، قلت: نعم جارٌ لي.
لقد توهم اسم الرجل هل هو مبشّر أو بشر، وليس هذا ما ينقصه وحاشاه،
ولكنّ دعوى الغلاة تُنقص عقولهم كما نقصت دينهم.
ومثل ذلك ما روي عن أبي هاشم الجعفري، قال: سألت أبا جعفر محمد بن
علي الرضا عن يونس، فقال: من يونس؟ قلتُ: مولى علي بن يقطين، فقال: لعلك تريد يونس
بن عبد الرحمن؟ فقلت: لا والله، لا أدري ابن من هو، قال: بل هو ابن عبد الرحمن، ثم
قال: رحم الله يونس، رحم الله يونس، نعم العبد كان لله عزّ وجل.
وهو كما رأيت، لم يعرف المسؤول عنه حتى استفهم.
وعن أبي بصير قال: دخلت على أبي عبدالله، فقلت له: جعلت فداك إنّي
أسألك عن مسألة، ههنا أحدٌ يسمع كلامي؟ قال: فرفع أبو عبد لله سِترا بينه وبين بيت
آخر فأطلع فيه ثم قال: يا أبا محمد سلْ عما بدا لك....
فلم يعلم ما وراء السّتر حتى رفعه كي يطمئن أن لا أحدَ يسمع ما
يدور بينهما من حديث!
وعن سدير، قال: كنت أنا وأبو بصير ويحيى البزاز وداود بن كثير في
مجلس أبي عبد الله إذ خرج إلينا وهو مغضب فلما اخذ مجلسه، قال: عجبا لأقوام يزعمون
أنّا نعلم الغيب، ما يعلم الغيب إلا الله عز وجل، لقد هممتُ بضرب جاريتي فلانة
فهربتْ عنّي، فما علمتُ في أي بيوت الدار هي.
وفي خبر يذكر فيه نزاعا بينه وبين عبدالله بن الحسن بن الحسن بن
علي على أرضٍ حتى تقاسماها: ولقد قاسمتُ مع عبد الله بن الحسن حائطا بيني وبينه،
فأصابه السّهل والشرب وأصابني الجبل، فلو كنتُ أعلم الغيب لأصابني السهل والشرب
وأصابه الجبل!!
وروى عبد الحميد بن سعيد قال بعث أبو الحسن موسى بن جعفر غلاما
يشتري له بيضا فأخذ الغلام بيضة أو بيضتين فقامر بها، فلما أتى به أكله، فقال له
مولى له: إنَّ فيه من القمار، قال: فدعا بطشت فتقيأ فقاءه.
فلم يعلم بذلك حتى أخبره الغلام.
كما أنكر أهل البيت دعوى العلم الغيب، ورفضوا من قال بها رفضا
قاطعا، فروي عن أبي بصير: قال: قلت لأبي عبد الله: إنهم يقولون، قال: وما يقولون؟
قلت: يقولون تعلم قطر المطر وعدد النجوم وورق الشجر ووزن ما في البحر وعدد التراب.
فرفع يده إلى السماء، وقال: سبحان الله سبحان الله، لا والله ما يعلم هذا إلا الله.
وروى ابن أبي عمير عن ابن المغيرة، قال: كنت عند أبي الحسن أنا
ويحيى بن عبد الله بن الحسن، فقال يحيى: جُعِلت فداك، إنهم يزعمون أنّك تعلم
الغيب؟ فقال: سبحان الله سبحان الله، ضَعْ يدك على رأسي، فوالله ما بقيت في جسدي
شعرةٌ ولا في رأسي إلا قامت. قال: ثم قال: لا والله ما هي إلا وراثة عن رسول الله
(ص).
بل، ربّما سئل الإمام مسألة، فلا يعرف قصد السائل أو يفهمه على غير
ما أراد، من ذلك: روى زرارة قال: قلت للصادق: إنّ رجلا من ولد عبد الله بن سبأ
يقول بالتفويض، فقال: وما التفويض؟ قلت: إن الله تبارك وتعالى خلق محمدا وعليّاً
صلوات الله عليهما ففوّض إليهما، فخلقا ورزقا وأماتا وأحييا، فقال: كذب عدو الله.
وروى عبدالله بن سنان قال: قلت لأبي عبدالله: أخبرني عن القوّاد ما
حدّه؟ قال: لا حدّ على القوّاد، أليس إنما يُعطى الأجرَ على أن يقود؟ قلت: جعلت
فداك، إنما يجمع بين الذكر والأنثى حراما، قال: ذاك المؤلِّف بين الذكر والأنثى
حراما؟ فقلت: هو ذاك جعلت فداك، قال: يضرب ثلاثة أرباع حدِّ الزاني؛ خمسة وسبعين
سوطاً وينفى من المصر الذي هو فيه...
فهنا لم يعلم الإمام معنى اللفظ عند السائل وحمله على غير معنى أو
لم يعرفه حتى بيّن له السائل.
وهناك أدلة أخرى لم نذكرها اختصارا.
0 تعليقات