بقلم خريستو المرّ
الثلاثاء 30 تشرين ثاني /
نوفمبر ٢٠٢١
"أشكركم على ما تخبرونا به عمّا هو خطأ في الكنيسة، وعلى
مساعدتنا في عدم كنسه تحت السجادة، وعلى الصوت الذي أعطيتموه لضحايا الإساءة"
(البابا فرنسيس)
جان فانييه، لاهوتيّ كنديّ، كان معبودًا للكاثوليك حول العالم.
إنسانٌ فذّ، أسّس منظّمة Arche التي تعتني بالمعوّقين عقليّا والتي انتشرت في 80 بلدا حول
العالم. إنسانٌ كان يُنظر إليه حول العالم، من مؤمنين وملحدين، على أنّه يمثّل
أفضل ما في الإنسانيّة. سُمّيت المدارس باسمه، وتسابقت المنظّمات والجامعات لمنحه
الجوائز. توفّي جان في أيّار 2019، وفي أيّار2020 صدر تقرير عن منظّمة Arche يعلنُ بأنّ فانييه قد اعتدى لعشرات السنوات
(1970 - 2005) على عدّة نساء، ومنهنّ راهبات، في إحدى فروع المنظّمة في فرنسا حيث
سكن. وصفه التقرير بأنّه كان متلاعبًا ومسيئًا عاطفيّا وجنسيًّا، ولديه
"سيطرة نفسيّة وروحيّة كبيرة على أولئك النساء".
يقول التقرير "تضمنت العلاقات أنواعًا مختلفة من السلوك
الجنسي، مقترنةً في كثيرٍ من الأحيان بما يُسمى بالتبريرات "الصوفية
والروحية" لهذا السلوك... إنّ النشاط الجنسي كان بالإكراه أو حدث في ظل ظروف
قسريّة"، وكان يخاطب النساء قائلًا عن ممارساته معهنّ في تلك اللحظة:
"هذا ليس نحن [من نقوم بذلك]، هذه مريم ويسوع. لقد تم اختياركِ، أنت مميّزة،
وهذا سرّ" بيننا. وأيضًا "يسوع وأنا، لسنا اثنان، وإنّما واحدٌ... يسوع
هو الذي يحبّك من خلالي". لقد استخدم فانييه اللاهوت وألفاظ روحانيّة مزوّرة
للسيطرة النفسيّة والجنسيّة على ضحاياه. وتقول إحدى الناجيات "كنت مثل
المجمّدة.. جان فانيير كان محبوبًا من قبل مئات الأشخاص، مثل القدّيس الحيّ".
هكذا بعد وفاة فانييه صدر التقرير، وأدانته المنظّمة التي أسّسها،
وغيّرت المدارسُ التي سُمِّيَت باسمه أسماءَها، وسحبت منه جامعات أهدته الألقاب
ألقابَها، وأدانه لاهوتيّون مُحلّلين جوانبَ مختلفة من انحرافه. لم يقل أحدٌ أنّ
للموت حُرمة. لم يَشْكُ أحدٌ من حرج. لم يتّهم أحدٌ القيمّين عن منظّمة Arche بأنّهم يتشفّون من ميّت. لم يَشْكُ أحدٌ أنّ
التقرير فاسد لأنّه فانييه مات ولا يستطيع أن يدافع عن نفسه. لم يطرح أحدٌ أنّنا
كلّنا تحت سلطة الموت ولا يجوز الآن سوى الرحمة التي سنحتاجها كلّنا بكلّ تأكيد.
اعتبر الذين قاموا بالتحقيق، وكتبوا التقرير، ونشروه على العلن، أنّ إعلان الحقيقة
هو من موجبات العدالة، ومن حقّ الناجيات الأحياء حتّى ولو صَدم مُحبّي فانييه
وعُبّاده. اعتبروا بأنّ الوجه الـمُظلم لفانييه لا يجوز تجاوزه والسكوت عنه، فهو
وجهٌ يتجاوز وضع الخطيئة وطلب الرحمة، وجهٌ لا يتساوى فيه جميع الخطأة لأنّ ليست
جميع الخطايا متشابهة، فبعض الخطايا جرائم لا تقع بحقّ الذات فقط وإنّما بحقّ
الآخرين. إنّ الذين حقّقوا ونشروا الحقائق أرادوا أن يذكّروا الجميع، بأنّ حرمة
الموت لا تنقض حقّ الأحياء، أنّ الوقوف عند طلب الرحمة قد يكون عند الكثيرين
ملتبسًا برغبة "بكنس الأوساخ تحت السجّادة" (إذا أخذنا بتعبير البابا
فرنسيس) وبإغلاق الملفّ ومتابعة الحياة كأنّ شيئا لم يكن، أي هو ملتبسٌ بالرغبة
بنسيان الضحايا. الذين نشروا الحقيقة أرادوا أن يقولوا أنّ حقّ فانييه بالرحمة لا
يلغي حقّ الناجيات بالعدالة، وأنّ هذه لا تحدث إلّا بتحقيق شيئين: الاعتراف
العلنيّ بما قام فانييه، وإعادة الاعتبار في المجتمع والكنيسة للناجيات الذين يجب
شكرهنّ لأنّ "أولئك الذين يخاطرون [ويُخاطِرْنَ] بـرفع الصوت للتبليغ عن
الاعتداء عليهم في الكنيسة، يستحقون إعجابَنا وامتنانَنا. من خلال شجبهم للأعمال
التي تُرتكب في الكنيسة ومن قبل خُدّام الكنيسة، يقدّمون للكنيسة خدمة هائلة: ألا
وهي تسليط الضوء على الظلمات التي تسكنها، والتي نَقَلَتْها دون أن تعلم، أو دون
أن تكون لديها الرغبة في معرفتها ومواجهتها." كما أعلن مؤتمر الأساقفة
الكاثوليك في فرنسا مؤخّرًا.
الحقيقة وإعلانها ينقذان الكنيسة نفسها من الظلمات، ويحرّراها من
ارتكاباتها التي دامت عصورًا، فهي التي تعلم بتلك الارتكابات وتخفيها وتسمح
باستمرارها، وهذا أمر يدلّ على انعدام الإحساس بآلام الناجيات والناجين. ولو أنّ
الكنيسة اتّخذت في الماضي الإجراءات القانونيّة اللازمة - وهي إجراءات إنسانيّة
ولاهوتيّة في الوقت نفسه - لكانت ساهمت بنجاة ضحايا لاحقين من مُعتدين عَلِمَ بهم
المسؤولون في الكنيسة و"ستّروا" عنهم، وبذلك ساعدوهم على الاستمرار في
جرائمهم.
اليوم أيضا، أنطاكية الأرثوذكسيّة في مواجهة هذا الخيار بالذات.
بِيَدها أن تكون مانعةً لجرائم الـمُستَقبل أو مساهمةً فيها، بحسب الموقف الذي
يتّخذه مسؤولو الكنيسة... اليوم... من المعتدين فيها الذين ما زالوا على قيد
الحياة. يمكنها أن تكون مُجحفةً متابعةً لمنحى القسوة ولا-رحمة الأحياء، أو تائبةً
عن خطاياها المؤسّساتيّة البنيويّة مُنصفة ومُعتنيةً بالناجين إن رحّبت بهم
وشكرتهم على إعلاء صوتهم عوض أن تصرخ في وجوههم في المحاكم.
طلب الرحمة للأموات لا يُلغي حقّ الحياة والعدالة للأحياء. وقد قال
إنسانٌ يومًا "الحقّ يحرّركم"، وهو يحرّر نفوس الأموات، وحياة الأحياء،
ويجدّد الكنيسة ويقيمها من اهترائها ويغسلها بمعموديّة الدموع التي يمكنها أن
تسكبها عند أقدام الناجين والناجيات الأبرياء، أسيادها الحقيقيّين، إيقونات
المصلوب، سيّد البراءة.
---------
أقرأ عن جان فانييه بمناسبة طلب إحدى الطالبات في جامعتي أن أُشرف
على ورقة بحثيّة تريد كتابتها عن فانييه والمؤسّسة التي أنشأها. تستخدم الورقة
تحليلًا قائمًا على النظريّات النقديّة النسويّة والعرقيّة، واللاهوت.
0 تعليقات