آخر الأخبار

الديمقراطية الفاسدة!! باع مصر (3)

 

 


 

نصر القفاص

 

علمنى "عبد الرحمن الرافعى" كلما ذهبت إلى الغوص فيما كتب – مؤرخا – أن: "التاريخ قصة ملهمة للعقل والفكر".. وأعجبنى قول "الجبرتى" قبل أن يترك بين أيدينا "وديعته كمؤرخ" ويرحل: "إن قراءة التاريخ تجعل الإنسان أكثر عقلا" وذلك جعلنى أنتهى إلى قناعة, بأنك إذا أردت أن تفهم حقيقة شعب.. أقرأ تاريخه.. تلك مقدمة مهمة لأنفى عن نفسى ادعاء أننى مؤرخ, وهو شرف لا أقدر عليه.. الحقيقة أننى قارئ تاريخ, إنتهى إلى رؤية حول أحداثه.. رأيت البوح بها لتكرار سماعى كلمة "الوعى" من أولئك يرددونها دون فهم!!

 

ذهابى إلى التاريخ بحثا عن سر حرق المصريين للأحزاب التى شكلتها السلطة – أى سلطة – سواء فى "زمن الخديوى" أو خلال "العصر الملكى" وامتد الأمر إلى "زمن الجمهورية"!! وإذا كنت قد اختصرت – قل ابتسرت – ما حدث مع أول اجتهاد مصرى لتشكيل وتأسيس حزب يسميه البعض "التيار الوطنى الحر" ويراه مؤرخين أنه كان "الحزب الوطنى الحر" وهو اختلاف على الشكل.. أما من حيث المضمون.. فقد شهد "زمن الخديوى إسماعيل" محاولة تخليق تجربة ديمقراطية, وامتدت من بعده خلال شهور حكم ابنه "الخديوى توفيق" الأولى.. انتهت المحاولة بالإجهاض وقتل الجنين فى رحم الأمة المصرية!!

 

القاتل.. كان القوى العظمى فى حينها!!

 

ملابسات القتل كانت "تواطؤ" لا يحتمل شكا بين الدولة العثمانية, وكل من فرنسا وبريطانيا وبروسيا – ألمانيا والنمسا – وروسيا.. وما أسميه "تواطؤ" هو فى حقيقة الأمر "مؤامرة" مكتملة الأركان.. تجنبت الكلمة لأقطع الطريق على "البهلوانات" من "خدم الملكية والاستعمار" الذين تم تمكينهم من عقل الأمة المصرية لتخريبه مع سبق الإصرار والترصد!!

 

يؤكد التاريخ أن "محمد على" مؤسس مصر الحديثة, أقام نهضة ودولة قوية قامت على ساقين.. إحداهما كانت "الجيش" والثانية هى "التعليم" لذلك سنجد أن أبرز اسمين فى عصره هما: "سليمان باشا" المؤسس الأول للجيش.. و"رفاعة الطهطاوى" الذى وضع أساس نهضة التعليم والمعرفة.. إضافة إلى العشرات من قادة عسكريين وعلماء.. وذلك يفسر اعتزاز بيانات "ثورة 23 يوليو 1952" بما قدمه "محمد على" مهما كانت سلبيات فترة حكمه – وابنه إبراهيم – وتعمدها رشق كل من جاءوا بعده بالخيانة فى بياناتها الأولى!!

 

 ويفسر فى الوقت نفسه أسرار محاولات تمجيد "الخديوى إسماعيل" بعد رحيل "عبد الناصر" رغم أنه مهد الأرض لاحتلال مصر بالاستدانة.. وتمجيد "زمن الملكية" خلال فترة حكم ابنه "أحمد فؤاد" وحفيده "فاروق" الذين يحاولون جعلهم عناوين مصر الحديثة!!

 

والجريمة مستمرة منذ نحو نصف قرن, عندما تم طى صفحة "الثورة" لتمكين "رجال الثروة" بتولى "أنور السادات" حكم مصر.. ثم اختفاء صوت التاريخ والعلم والمعرفة, وتمكين الباحثين عن فرصة لاستعراض مهارات اللعب بالبيضة والحجر!!

 

إعتقادى أن "زمن محمد على" إنتهى برحيله مع ابنه "القائد إبراهيم".. كما اعتقادى بأن "ثورة 23 يوليو 1952" إنتهت برحيل "جمال عبد الناصر" وهذا ليس قولا مرسلا.. التاريخ يقول لنا أن "عباس الأول" أول من حكم مصر بعد رحيل "محمد على" وانتهى مقتولا فى قصره فى "بنها".. حكم البلاد لأنه كان الأكبر من أسرة "محمد على" وبعضنا لا يعرف أنه ابن "طوسون" أى أن "محمد على" جده وليس والده.. وكان "عباس الأول" غريبا يصف عدد من المؤرخين طباعه بأنها كانت "شاذة"!! وإن اختلفت الآراء حول الذين أرادوا قتله.. لكنهم اتفقوا على أن قاتليه كانوا "غلمانه" وهذا لا يهمنا.. فما يهمنا أنه أهمل الجيش.. وحارب التعليم بضراوة لدرجة أنه أبعد "رفاعة الطهطاوى" إلى السودان.. وأبعد معه عدد كبير من العلماء, بعد أن كلفهم بافتتاح مدرسة ابتدائية.. قتل هذا الجهل "محمد بيومى" أحد أهم علماء مصر ويسميه عدد من المؤرخين "أبو الهندسة المصرية" لأنه لم يحتمل القهر.. وإن كان "رفاعة الطهطاوى" اختلف عنه وأدى رسالته, كما لو كان يبدأ مشوار حياته.. وكما لو كان يخدم فى مصر.. والحقيقة أن مصر والسودان كانتا وحدة واحدة.. ولم يعد "الطهطاوى" من "السودان" سوى بعد رحيل "عباس الأول" ومعه كتاب "البنات والبنين" الذى طالب عبر صفحاته بتحرير المرأة وتعليمها قبل "قاسم أمين"!!

 

حكم مصر بعد ذلك "سعيد باشا" الذى اختلف قليلا مع "عباس الأول" فى اهتمام هامشى بالجيش والتعليم.. وبقى من زمنه أنه كان وراء إنشاء طريق القاهرة – السويس.. وكان وراء تأسيس خط للسكة الحديد بين القاهرة والإسكندرية.. ووقع اتفاق حفر "قناة السويس" مع صديقه "دليسبس" متجاهلا وصية "محمد على" بعدم فتح الباب الذى سيدخل منه الاستعمار.. ثم جاء "إسماعيل باشا" الذى عاش سنوات شبابه مبعدا عن "مصر" بأحد قصور الآستانة – إسطنبول – لأسباب تتعلق بخلاف مع "عباس"!!.. عاد "إسماعيل" عندما حكم "سعيد" مصر دون أمل فى أن يكون حاكما.. فقد كان شقيقه الأكبر الأمير "أحمد رفعت" يسبقه فى الأولوية.. لكنه مات فى حادث قطار خلال عودته من الإسكندرية إلى القاهرة.. بما يعنى أن الأقدار جعلته وليا للعهد.. وتولى السلطة خلال فترة حكم السلطان "عبد العزيز" للإمبراطورية العثمانية.. وكان السلطان "عبد العزيز" هو الوحيد – بعد سليم الأول – الذى زار مصر عام 1863, وفى الوقت نفسه كان الأخير.. وكان أكثر ما أسعده إلى حد الانبهار أنه ركب القطار لأول مرة فى حياته.. لأن مصر عرفت السكك الحديد, قبل أن تعرفها عاصمة الإمبراطورية.. وذلك تصويبا لما يتم ترويجه من أكاذيب.. وقبل أن تحتل بريطانيا مصر!!

 

كان "إسماعيل" مبهورا بالفن.. عاش سنواته الأولى فى "النمسا" للتعلم.. انتقل إلى "باريس" التى أخذته بجنونها.. أدى فترة تعليم عسكرى ثم قيادة فى الجيش.. لكن العمارة والموسيقى والحياة اللذيذة.. أخذوه لتتبلور شخصيته.. شب على الطوق يميل إلى الدبلوماسية, وتميز بأنه يجيد فنون ما نسميه فى عصرنا الحديث بالعلاقات العامة.. انشغل فى سنوات حكمه الأولى بالشكل.. سعى بكل ما يملك لكى يصبح "خديوى" بدلا من "والى على مصر" لأن الكلمة إذا سبقت اسمه تأخذه إلى عالم الملوك والسلاطين.. فتح خزان مصر للفوز بها.. ويروى المؤرخون أنه ودع السلطان "عبد العزيز" بعد نهاية زيارته إلى مصر, ترفقه سفينة تحمل الهدايا والتحف والمجوهرات.. ودفع 60 ألف جنيه للصدر الأعظم – رئيس الوزراء – ليفوز باللقب وتغيير نظام الحكم لكى يتوارثه أولاده.. إضافة إلى موافقته على رفع قيمة الجزية السنوية التى كانت تدفعها مصر للدولة العثمانية, من 400 ألف جنيه إلى 750 ألف جنيه سنويا.. وفاز بما أراد يوم 8 يونيو عام 1867.. شعر حينها أن هذا كان كل ما يريده من "السلطان العثمانى" فذهب إلى توطيد علاقاته بالغرب.. سافر إلى "باريس" مشاركا فى معرضها العسكري.. لتأكيد صورته الجديدة كخديوى تعاقد مع فرنسا على شراء ثلاثة بوارج حربية وآلاف البنادق الحديثة!! ولما استشعر غضب بريطانيا تعاقد معها على مائتي مدفع ضخم لتعزيز الدفاع عن الإسكندرية وأبو قير ودمياط!!

 

اتجه "الخديوى إسماعيل" إلى المشروعات التى تغير شكل مصر.. اهتم بالجسور والسكك الحديد والقناطر ومنح تراخيص للمدارس الأجنبية وأولى اهتماما خاصا بتطوير السكك الحديدية.. لكى يحقق أهدافه بسرعة كان يقترض.. ويقترض.. لتتراكم الديون على البلاد.. لم يشغله الأمر.. داعب الداخل بإعطاء إشارات خضراء للنخبة الجديدة, أن تشاركه فى عملية تحديث مصر كما يرى.. التقط رغبة الأمة فى أن يكون لها دستور ومؤسسات تشارك فى الحكم.. سمح بذلك ليفوز بدعم شعبى.. فقد كان يتأهب لافتتاح "قناة السويس" التى جعلها درة التاج.. استدان أكثر.. تجاهل "الآستانة" عند توجيه الدعوات للملوك للمشاركة فى حفل الافتتاح.. هنا شعر السلطان العثمانى بأنه يذهب إلى الانفصال التام عن الإمبراطورية.. صدر فرمان يوم 29 نوفمبر عام 1869 يقيد حقه فى توقيع اتفاقيات قروض جديدة, دون عرض على السلطان والحصول على موافقته!!

 

هنا وجد "الخديوى إسماعيل" نفسه فى مأزق.. قرر ممارسة فنون العلاقات العامة, وما اعتقد أنه "الدبلوماسية"!! قرر السفر إلى "الآستانة" لاسترضاء "السلطان" واصطحب معه "إسماعيل المفتش" وزير ماليته – شقيقه فى الرضاعة – وكذلك "نوبار باشا" حامل حقيبة الخارجية والدبلوماسية عام 1872 مع هدايا ثمينة ورشاوى ضخمة.. حققت رحلته أهدافها.. عاد ليتم إصدار فرمان بعد فترة.. يوم 10 سبتمبر 1875 يطلق يده فى الاستدانة من الخارج دون قيد أو شرط من الإمبراطورية!!

 

كان "الخديوى إسماعيل" لا يؤمن بغير قدراته ونفسه!!

 

إعتقد أنه تجاوز قدرات جده "محمد على" وتفوق على من سبقوه!!

 

لم يتصور أنه وضع نفسه فى "المصيدة" ورهن بلاده للغير.. وافق على المراقبة الثنائية – إنجليزية وفرنسية – التى تطورت إلى شراكة فى الحكم.. أراد القفز إلى الأمام والاحتماء بالشعب والنخبة الجديدة.. كان الغضب وتدهور الأحوال يتصاعد.. وكان "التيار الوطنى الحر" يقوى ساعده وتشتد قوته.. حاول الانحياز إليهم.. فوجئ بغضب الإمبراطورية والقوى العظمى.. فشلت مناوراته أمام قوة العواصف الداخلية والخارجية!!

 

أمتلك الخارج دفة سفينة مصر.. راحوا يحركونها كما شاءوا.. وفى الوسط كان التيار الوطنى يفكر فى حاضر ومستقبل البلاد.. يراجع التاريخ.. يرفض العودة إلى ما قبل ما حدث عام 1805 حين انتزع "عمر مكرم" ورفاقه إرادة مصر, وأعلنوا تنصيب "محمد على" واليا على البلاد.. استحضروا الروح الوطنية.. وقبل أن ينفجر الموقف, قرر الذين يرفضون التفريط فى مصر ولكل منهم أهدافه الاتفاق.. اتفقوا على التخلص من "حاكم مصر" بالقانون الذى اختاره.. فرضوا عليه التنازل عن السلطة لابنه "الخديوى توفيق" ليواصل الصراع مع القوى الوطنية المصرية.. أتفق الخارج على ضرورة إجهاض محاولة الداخل امتلاك إرادته.. عاشت مصر شهورا عاصفة.. الخارج يحاول إعادة الأسد – مصر – إلى القفص.. الداخل يرفض المساومة على حقه فى صناعة مستقبله.. بينما "حاكم" قرر أن يحسم أمره – الخديوى توفيق – ويراهن على الأقوى.. فى تلك اللحظة كانت بريطانيا قد راجعت دروس الماضى.. رفضت أن تكرر أخطاء "حملة فريزر" فمارست الخديعة والتواطؤ مع "فرنسا" وتصدت للمواجهة مع شعب كان يصطف خلف "أحمد عرابى" وتم استخدام ورقة "الطابور الخامس" وكان عنوانها "على خنفس".. مع "دليسبس".. واحتلت بريطانيا مصر.. لتدخل البلاد فى "سنوات المتاهة الانجليزية" بعد 365 عاما من "المتاهة العثمانية" ولنا أن نراجع المدخل الانجليزى لاحتلال مصر.. فقد يكشف سر إحراق المصريين لأحزاب السلطة!!..

 

يتبع

 

 

 

إرسال تعليق

0 تعليقات