محمود جابر
مدخل :
الردة واحدة من القضايا المتشابكة، والتى طال الكلام فيها كثيرا فى
كتب الفقه بداية من تعريفها، وتقسيمها، سواء فطرى وملى، حيث جرى الاختلاف حتى فى
هذا التقسيم، وتعدى الكلام فى الردة من أبواب الفقه إلى أبواب الكلام، وجرى طرح
اسألة من قبيل : أيُبطل الله عمل المرتد أم لا؟ ومتى يبطله؟ وكيف يمكن الجمع بين
بطلان عمل المرتد وعدالة الله سبحانه وتعالى، أو آيات من قبيل قوله تعالى: {فَمَنْ
يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه}7الزلزلة ؟ وإذا لم يبطل عمله فكيف يمكن
تفسير (وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ
يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ۚ وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ
دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا
خَالِدُون ) 217َ البقرة، وقوله تعالى ﴿ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَىٰ
أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى ۙ الشَّيْطَانُ سَوَّلَ
لَهُمْ وَأَمْلَىٰ لَهُمْ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا
نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ ۖ وَاللَّهُ يَعْلَمُ
إِسْرَارَهُمْ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ
وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ﴿٢٧﴾ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ
اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ﴿٢٨﴾ محمد؟ وهل تُقبل
التوبة من المرتد أم لا؟ وما إلى ذلك من الأبحاث المتعلقة بالقضية محل البحث، بيد
ان كثير من الكلام الذى ورد فيها والإحكام يحتاج الى إعادة بحث .
وللأسف فدافع الحب لدى بعض الفقهاء وخوفهم على الإسلام جعلهم
يخرجون من النطاق البحثى المنضبط الى نطاق اتسم بالعنف واقترب من الإكراه، مما أعطى
الأعداء فرصة ذهبية للنيل من الإسلام باعتباره دين قائم على إرهاب معتقديه ولا
يسمح لهم بإبداء أرائهم أو الكفر به وإلا فإن مصيره القتل !!
من هنا وجدنا انه من الضرورة إعادة النظر فى القضية محل البحث، لان
الإسلام دين فطرة سمحاء، قائما على احترام العقل والعلم والفطرة، وعن القناعة
الطوعية الكاملة قال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ
الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها} 2 الروم، قال تعالى: {لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ
قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ}256 البقرة، من المستبعد جداً أن يكون الدين
القائم على عدم الإكراه يحكم بالإكراه على من بدل دينه .
القرآن والردة:
لا شكّ في أنه لم يرد في القرآن ما يدلّ على وجوب أو جواز قتل
المرتد، كما لا دخل للعقل في مثل هذهِ الموارد، فتنحصر الأدلة بالروايات والإجماع،
ولا يكون في البين إجماع تعبُّدي؛ لأنّ الروايات في هذا الباب متعددة، ويعود دليل
الإجماع إلى تلك الروايات، وعليه لابدّ من البحث في روايات حدّ المرتد، وقدبلغت
عند الشيخ الكليني 23 رواية، ولكن بعد الفحص يتضح أن ما يخصّ المرتد منها لا
يتجاوز عدد أصابع اليد.
إنّ آيات القرآن الكريم وإن لم تبيّن عقوبة المرتد في الدنيا، إلاّ
أنّ البحث في ما يتعلّق بالمرتّد لا يخلو من الفائدة، إذ قد يُستنبط منها موضوع
المرتد ودوافع ارتداده ومعاقبته، وقبول توبته من عدمها، وعلاقته بالمنافق، وقد
يُستخرج منها بعض القرائن التي تنفعنا في بحث الروايات وتعارضها، ومن هنا نبدأ
بحثنا بالآيات الكريمة:
1 ـ قوله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى
مِنْ قَبْلُ وَمَنْ
يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإْيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ * وَدَّ
كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ
كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ
الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ
عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}108- 109 البقرة.
يبدو من هاتين الآيتين أنّ الحق واضح، ومع اتضاحه لأهل الكتاب ـ
والآية في معرض ذمّهم ـ إلا أنهم لا يؤمنون، بل يحاولون إرجاع المسلمين من الإيمان
إلى الكفر؛ لا لأنّهم يريدون خيرهم وصلاحهم، بل لأنهم يحسدونهم، فكان من المتوقع
بعد اتضاح الحق لهم أن يؤمنوا كما آمن المسلمون، لا أن يسعوا إلى إرجاع المسلمين
إلى الكفر حسداً منهم.
وهنا تكشف الآيات وتوضح الأساليب المتّبعة لحرف المسلمين عن
إسلامهم، وذلك من خلال دعوتهم إلى مطالبة الرسول’ بأمور مستحيلة وغير معقولة، ومن
الطبيعي أن لا يستجيب الله ورسوله لما هو مستحيل أو غير معقول، وهذا ما يتذرّع به
أهل الكتاب ليُثبتوا عدم صدق النبي في إدعاء النبوة، وحثّ الناس على الارتداد.
2 ـ قوله تعالى: {يَسْألُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ
فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ
وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ
وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ
اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ
كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالآْخِرَةِ وَأُولئِكَ
أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ}217 البقرة .
بالالتفات إلى صدر الآية وسبب نزولها المتعلّق بخطأ صدر عن بعض
المسلمين في تعرضهم لقافلة قريش التجارية، وقتلهم رجلاً في الشهر الحرام، الأمر
الذي اتخذه المشركون ذريعة للتشهير بالإسلام، يتضح أنهم كانوا يستخدمون شتى
الوسائل بغية حمل المسلمين على الارتداد ابتداءً من التعذيب إلى الإعلام الهدّام
والمخرِّب.
هنا تعمل الآية على تحذير المسلمين من مغبّة التأثر بدعاية
المشركين، وتحثّهم على الثبات على دينهم، وتخبرهم بأن كفرهم وموتهم كافرين سيبطل
عملهم وكل ما قاموا به في سبيل الله قبل هجرتهم وبعدها.
ولكن الإشارة الأهم أن الآية لا تتحدث حكم للمرتد بل تحذر المرتد من الموت على
الكفر !!
3 ـ قوله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ
إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ
لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ
لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خالِدِينَ فِيها لا
يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا
مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ
وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ}86- 90 آل عمران.
الآيات هنا كما الآيات السابقات تحذر المرتد من العذاب فى الآخر، وخاصة من شاهد
الوحى والنبى وشهد بأن النبي على حق والآخرين على ضلال، وعليه فإن الآيات لا تشمل
هذا الحكم علي المعاصر الذي لم يشاهدوا ما شهده الأولين، فلا يكون المرتد المعاصر
وأمثاله من الظالمين الذين لا يهديهم الله، بل قد نكون نحن الذين ظلمناهم بأن
تحدثنا معهم عن إسلام يخالف الفطرة مما جعلهم ينفرون من الدين، ولم نجسن مخاطبة
عقولهم وإعدادها لفهم هذه الدين بشكل صحيح.
وعليه لا يستفاد حكم القتل وما إلى ذلك من هذه الآية.
نعم، إنّ هذه الآية تدلّ على أنهم كفروا بعد ثبوت الحق لهم
بالأدلّة القطعية وازدادوا كفراً، ولم يوفقوا إلى التوبة بسبب إغرائهم بالأموال
والمناصب وكثرة الأتباع حتى يدركهم الموت، أو بلوغهم مرحلة من العناد وعدم
الانصياع للحق،فيستحقون اللعنة والعذاب لذلك.
4 ـ قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا
فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ
كافِرِينَ}100آل عمران.
5 ـ قوله تعالى: {يا أيُّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إن تُطِيعُواْ
الّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدّوكُمْ عَلَى أعْقَابِكُمْ فَتَقَلِبُواْ خَاسِرينَ}149
آل عمران.
كلا من الآيتين السابقتين لهم نظير فى الآية 109 من سورة البقرة،لا تتحدّثان عن
معنى المرتد وحكمه الدنيوي وقبول توبته، وإنّما تقولان: إنّ تعذيب المشركين لا
يؤدّي في العادة إلى ذلك، حيث إنّ المسلمين في مراحلهم الابتدائية من ناحية
المضمون الديني، فقد يتأتّى لأهل الكتاب استغفالهم بأساليبهم الخاصّة، أو قد
تستهويهم بعض خصائص الأديان التوحيدية، دون أن يدركوا أنّ في الإسلام ما هو أكمل
منها تماما.
6 ـ قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ
كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ
لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً * بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا
أَلِيماً}137- 138 النساء.
تتفق هاتان الآيتان مع الآية 90 من سورة آل عمران؛ لكون مضمونها متحداً معهما، فقد جاء فيها: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إيمَانِهمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ}، وورد هنا: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً} ، وعلى الأخص عندما تضاف إلى هاتين الآيتين الآية الثالثة من سورة المنافقون، وهي قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ}، فهذا الكذب واليمين الكاذب سببه أنهم آمنوا ثمّ كفروا فطبع على قلوبهم، الأمر الذي يثبت اشتراكهم في هذه الصفات.
ويحتمل أن يكون حكم المرتد والمنافق في الدنيا واحداً، أي كما أنّ
المنافق لا يجازى في الدنيا، فكذلك المرتد، خاصّة أن الآية التي تتحدّث عن
المنافقين تقول: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} 145
النساء.
وهناك تهديد في سورة الأحزاب في قوله تعالى: {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ
الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي
الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً}60
الأحزاب.
7 ـ قوله تعالى: {قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ
يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كَالَّذِي
اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ
إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا
لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}71 الأنعام.
8 ـ قوله تعالى: {مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}106- ذ07 النحل
هاتان الآيتان من سورة النحل، وهي مكّية، ومنهما تتضح دوافع الارتداد، فهناك من يرتد طلباً للدنيا وكسباً للأموال، وعليه لا يمكن القول بتوجيه العذاب وغضب الله على الذي يرتد لأسباب وراء هذه الدوافع، فمثلاً لو فرضنا أن عالماً من المسلمين سلك بعض المقدمات الخاطئة التي قادته إلى ترجيح دين آخر علي الإسلام، دون أن تكون له أيّ دوافع مادية أو مطامع دنيوية أو إكراه، فإنّ هذا العذاب والغضب لا يمكن أن يشمله.
9 ـ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}54 المائدة
تبيّن هذه الآية سبباً آخر للارتداد يتمثّل في الغرور والتكبر لدى بعض من يرى في دخوله الإسلام حدوث شوكة للإسلام، فيكفر لغرض الإضرار بالإسلام من هذه الجهة، فجاءت الآية لبيان خطأ هذا الوهم، إذ يُعزّ الله الإسلام بغير هؤلاء من الأمم التي تفوقهم من حيث حبهم الله وحب الله لهم.
10 ـ قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}25- 28 محمد.
الآيات تتحدث عن عذاب أخروي مستحق لمن ارتد بعد الهداية، وبقليل من الملاحظة نجد الآيات تتحدث عن المنافقين، وعلى من يتحدث عن عقوبة دنيوية للمرتد أعم من الحبس والقتل وغيرهما، فعليه أن يأتي بفارقٍ جوهري بينه وبين المنافق؛ لتوجيه الاختلاف في الحكم بينهما.
ربما أمكن القول بأن معاقبة المنافق والمرتد تدور مدار العناد،
وبما أن المنافق يتلفظ بالشهادتين فليس عندنا يقين بعناده، خلافاً للمرتد، وعليه
تثبت العقوبة على المرتد لعناده، فإذا قبلنا بهذا الفارق علينا أن نشكك بثبوت
العقوبة على المرتد إذا احتملنا عدم عناده.
الخلاصة:
مدار الأيات التى تتحدث عن عذاب أخروى تربط سبب العذاب ليس بالردة
فى حد ذاتها بل بدوافعها التى تمشل العناد والبحث عن مصلحة مادية، وعليه فكل من
كان دافع الردة لا يشمل نفعا ولا عنادا لا يشمله العاب الاخروى.
كل الأيات السابقة لم يدر فيها تصريحا ولا تلميحا بعقوبة دنيوية، من قبيل التعزير والحبس والقتل والتفريق ونحوه مما ورد فى كل كتب الفقه، التى بنت تلك الأحكام على الرواية الحديثية وليس النص القرآنى.
هناك مساحة كبيرة وواسعة يشترك فيها المرتد مع المنافق فى الوصف،
مثل الكفر بعد الإيمان... ومع هذا امسك النبى عن المنافقين ولم يصلنا حكما من
النبى على مرتد.
والايات واضحة وضوحا لا لبس فيه فى قبول توبة المرتد، فى حين أن الايات لا تقبل توبة المنافق، ولا يوفقه الله إليها، ومع هذا فالمنافق لا عقوبة عليه .
ومن الواضح ان هناك اسباب مادية ومنافع دنيوية وراء الارتداد والنفاق وسوف يعاقبون فى الآخرة بأشدّ أنواع العذاب، وعليه فإنّ الذين يرتدون لا لدوافع دنيوية، بل لمجرد الخطأ في سلوك المقدمات العلمية، لا تشملهم اللعنة والعذاب.
إنّ عذاب الآخرة إنّما يطال المرتد إذا تبيّن له أنّ الإسلام حقّ، ومع ذلك يختار الارتداد طلباً للمال والمناصب الدنيوية، من دون أن يكون للآيات أدنى تعرض للعذاب الدنيوي، كما أنها لا تتعرض لأفراد عصرنا ممن تكون لهم في العادة مجرّد شبهات علمية، وليس لديهم جحود أو إنكار، وإذا كان لديهم إنكار فهو بسبب الشبهات العالقة في أذهانهم.
ومن القضايا العالقة هو الإجارة، والاستجارة، فإذا وجبت إجارة المشرك الذي نقض
عهده ووجب قتله بعد انقضاء المهلة المحدّدة له والتي قدّرت بأربعة أشهر، وجبت
إجارة المشرك الذي لم يتعهد ولم ينقض عهده بطريق أولى؛ ليتعلم الدين ويبلغ مأمنه،
وإذا وجبت إجارة المشرك وجبت إجارة الشاب الذي لا يعرف شيئاً من الدين أو المثقف
الذي علقت في ذهنه بعض الشبهات في أصول الدين أو فروعه من طريق أولى، فلابدّ من
احتضان الإسلام لهم ليستوعبوا الدين، فإذا حقّ لكل شخص ـ سواء أكان مشركاً أم غيره
ـ أن يتعلم فلماذا لا يحقّ للمسلم، الذي عرضت له شبهة قادته إلى الكفر، أن يصرّح
بشبهته وأن يبحث بشأنها بحرية كاملة حتى يتضح له الحقّ؟!
بل ويبدو من قوله تعالى: {أفلا تعقلون} و{أفلا تتفكرون} والآيات
الناهية عن إتباع الآباء، أنها تدفع الجميع إلى التحقيق في العقيدة، ومعلوم أنّ
مقدمة التحقيق والطريقة المثلى للوصول إلى النتيجة هي الشك، وعليه فإنّ الإنكار
الذي يعدّ مقدّمة للتحقيق قد أوصى به القرآن الكريم.
الازدواج الفقهى:
اتضح من آيات القرآن الكريم أنّ المرتد هو من آمن ثمّ كفر، وهكذا
هو حال المنافق.
تتحدّث الآية 90 من سورة آل عمران عن المرتدين، والآية 137 من سورة
النساء عن المنافقين، والسؤال المطروح هو: هل يجوز لنا أن ننسب لله العادل إصدار
حكمين مختلفين بالنسبة لمجرمين صدرت عن كل واحدٍ منهما ذات الجريمة التي صدرت من
الآخر، فالمرتد حكمه الإعدام وتقسيم تركته بين الورثة وبينونة زوجته، وأما المنافق
فيحفظ دمه ويحترم ماله، بل وتحرم غيبته أيضاً؟!
بل نقول: ما دمنا لا نعرف المنافق بشخصه، وكان التجسّس حراماً، إذن لا يمكننا اتهام شخص بالنفاق من دون دليل، وفي الوقت نفسه يُقتل المرتد في عهد الخلفاء الذين جاؤوا بعد النبي ويحظى المنافقون بالتكريم والقربى، وتثبت الحجية لكلامهم، ويقال: إذا قال الصحابي أو أفتى كان ذلك منه صحيحاً، وإن الحديث القائل: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم»، يمنحهم نوعاً من العصمة! وهذا كلام عجيب للغاية! فهل يمكن لنا أن ننسب للدين مثل هذه الازدواجية الصارخة؟!
ومن جهةٍ أُخرى ألا يدفعنا هذا النمط من الفكر الديني إلى السطحية الجوفاء؟! فكل من نطق بالشهادتين ظاهراً تمتع بجميع الإمكانات دون التحقق في دخيلته الاعتقادية، ويقال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} إذ ليس لدينا معيار لقياس التقوى، فالذي ينطق بالشهادتين في الوقت الحاضر ـ ولو ظاهرياً ـ مساوٍ لذوي السوابق من المهاجرين أو الأنصار، في حين يُعدّ من تطرأ عليه في بعض المسائل الدينية شبهة، أو أنكر ضرورة دينية، أو شكّ وفقاً لبعض المذاقات في حكمٍ من الأحكام مرتداً ووجب إعدامه، وإنْ كان من ذوي السابقة في الإسلام! تخيّل حجم الهوّة السحيقة والمستوى الذي بلغته السذاجة والسطحية!
قتل المرتدّ في عصر الرسول ’، مطالعة تاريخية تحليلية
ذكر السيد سيف الله الصرامي في ص122 من كتابه (أحكام المرتد في الإسلام وحقوق الإنسان): «لقد أحصينا من خلال البحث والتحقيق في تاريخ نبي الإسلام’ عدداً من المرتدين» ثمّ ذكر أربعة عشر شخصاً ممن ثبت ارتدادهم بإجماع المؤرخين، وأضاف أن خمسة منهم قد قتلوا في معركة بدر، وأن اثنين منهم لم يثبت ارتدادهم إلا بحدسٍ من عمر، وكان ارتداد اثنين منهم ظاهرياً وتحت وطأة التعذيب الذي أنزله المشركون بهم، وواحد تنصّر في الحبشة وأقام فيها، وأمّا الأربعة الآخرون فهم الذين أهدر الرسول دماءهم فى فتح مكّة، وهؤلاء الأربعة هم الذين يتعيّن علينا دراسة حالهم، فالباقون إمّا لم يكونوا من المرتدين أو أنهم قتلوا في الحرب، وأمّا الأربعة فهم: عبدالله بن أبي سرح، وعبدالله بن خطل، ومِقْيَس بن صبابة وسارة.
1 ـ عبدالله بن سعد، أسلم وأصبح كاتباً للوحي، ثمّ ارتد إلى الشرك، وعاد إلى مكّة، وقال للمشركين: «دينكم خيرٌ من دينه، وقد كنت أكتب أحرف محمد في قرآنهِ حيث شئت، كان يقول لي: أكتب «عزيزٌ حكيمٌ» فأقول: أو «عليمٌ حكيمٌ»» فأمر النبي’ بقتله في فتح مكّة مع عبدالله بن خطل ومقيس بن صبابة وسارة، وإن وجدوا متعلقين بأستار الكعبة، ففرّ عبدالله بن سعد إلى عثمان بن عفان وكان أخاه من الرضاعة، فغيّبه عثمان حتى اطمأن الناس، ثمّ أحضره عند رسول الله’ وطلب له الأمان، فصمت رسول الله طويلاً ثمّ آمنه، فلما انصرف قال الرسول’ لأصحابه: «لقد صمتّ ليقتله أحدكم، فقال رجل من الأنصار: هلاّ أومأت إلينا؟ فقال: ما كان للنبي أن يقتل بالإشارة، إنّ الأنبياء لا يكون لهم خائنة الأعين".
أسد الغابة 3: 206؛ الكامل لابن الأثير 1: 616؛
السيرة النبوية: 45، 3، 409؛ أحكام المرتد في الإسلام وحقوق الإنسان: 126.
فلو كان حكم المرتد هو القتل، فلماذا لم يأمر رسول اللهِ بقتله في تلك الساعة؟
ولماذا لم يبادر إلى إقامة الحدّ بنفسه؟ ولماذا لم يؤمئ بيده أو عينه إلى قتله؟
وهل يكفي الاعتذار بأن الأنبياء لا يكون لهم خائنة الأعين، لتعطيل حكم الله؟! وهل
يعد الإيماء بالعين في هذا المورد خيانة؟ وعلى فرض الخيانة، ألا يكون ارتكابها أهم
في معرض التزاحم مع إقامة الحدود الإلهية؟! هل كانت جناية عبدالله هي الارتداد
فقط؟! وهي خيانة الوحي، أو الكذب على رسول الله أو إضعاف الإسلام وتفضيل دين
المشركين؟ والخلاصة: هل يمكن تعطيل الحكم الصادر في بعض الظروف!! وهل تعطيل الحكم
يعد ذنب وهل يمكن أن نتهم بالذنب فى عبد الله بن سعد؟!!
2 ـ عبدالله بن خطل، أسلم، فأرسله رسول الله’ ومعه رجل من الأنصار لجمع الزكاة،
وكان له غلام رومي قد أسلم، فقال لغلامه في أحد المنازل: اذبح شاة واصنع لنا
طعاماً، ثم ذهب إلى النوم، ولما أفاق من نومه، وجد الغلام لم يصنع الطعام، فقتله
وارتد، وكان له قينتان تغنيان بهجاء الرسول’، فاشترك في قتله رجلان هما: سعيد بن
حريث المخزومي، وأبو برزة الأسلمي أثناء فتح مكّة.
الكامل في التاريخ 1: 616، السيرة النبوية 3: 410، أحكام المرتد: 127.
واضح أنّ هذا الرجل قد قتل مسلماً عامداً، وقد أمر قينتيه بسبّ الرسول’ والتغني بذلك، ولهذا حكمه الخاص، إضافة إلى ارتداده، فإثبات إهدار دمهِ لأيّ واحد من هذه الأمور مشكل، فإذا كان غلامه حرّاً كما يلوح من السيرة النبوية، ولم يكن له ولي في البلاد الإسلامية، كان للنبي’ المطالبة بالقصاص بوصفه وليّ من لا ولي له، كما أنّ حكم ساب النبي هو القتل أيضاً، وعليه فكل واحدٍ من هذين الأمرين يعدّ علّة تامّة لقتله.
3 ـ مقيس بن صبابة أو ضبابة أو حبابة، وله قصّة مشابهة لقصة عبدالله بن خطل، فقد كان له أخٌ يدعى هشام قتله رجل من الأنصار عن طريق الخطأ، فعمد مقيس هذا إلى قتل الأنصاري، وارتد والتجأ إلى قريش وهو مشرك، ومن الواضح أنه يمكن قتل مقيس من باب القصاص.
4 ـ سارة، وهي مولاة لبني عبدالمطلب، قيل: إنها قدمت إلى المدينة وأسلمت، وهي التي
حملت كتاب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش لغرض التجسّس، فأخبر الله تعالى نبيه’
بشأنها، فأمر النبي الإمام علياً باقتفاء أثرها وأخذ الكتاب منها كي لا ينكشف سرّ
فتح مكّة.
وقال بعض: إنها كانت تؤذي النبي’ في مكّة المكرمة، ولم يذكر البعض إسلامها، ولم يذكر البعض: ارتدادها، وقال بعض: إنها قتلت في أحداث فتح مكّة، وهناك من ذهب إلى حياتها حتى خلافة عمر.
وعليه هناك شكّ في أصل إسلامها وارتدادها وقتلها وسائر أعمالها،
فلا يمكن عدّ هذا المورد من مصاديق قتل المرتد في عصر النبي’.
فلم يثبت القتل للارتداد في أي واحدٍ من هذه الموارد الأربعة.
وهناك كلام في «السيرة النبوية» أيضاً حول إهدار دم عكرمة بن أبي
جهل، حيث هرب إلى اليمن ثم أسلم، ولم يقتل، كما أهدر النبي’ دم حويرث، وقد كان
يؤذي النبي بمكّة، وعندما حمل العباس عم النبي ابنتي رسول الله’ لإرسالهما إلى
المدينة عمد حويرث هذا إلى إفزاع ناقتهما فأسقطهما من المحمل أرضاً ، ولكن لم يرد
كلام حول ارتداد هؤلاء النفر، ولم يتضح لنا جرمهم، مضافاً إلى الشك في أصل إهدار
دمائهم وتنفيذ ذلك.
ما ورد فى المرتدين زمن أمير المؤمنين:
بعد رحيل النبى صلوات الله عليه قامت حروب الردة وهذه الحروب يعرف الجميع انها
كانت حروب لبسط سلطة الخلافة الناشئة ولكن أطلق عليها هذا الاسم مجازا.
وقد وردت تقارير كثيرة حول قتل المرتدين على يد الإمام، إلاّ أن في
بعضها إشكالاً سندياً، وبعضها يثبت أنّ المقتول قد ارتكب الكثير من المظالم، وعليه
لا يكون لقتلهم علاقة بالارتداد، ولأنّ أهل السنّة كانوا يرون وجوب قتل المرتد،
فقد استعملوا هذا العنوان لتبرير قتلهم.
يتبع
روايات الردة
2 تعليقات
مقال رائع يثبت أن إعمال العقل والبحث الجدى وقراءة النصوص على نحو أعمق يراعى الأبعاد التاريخية للنص .. يثبت أن ذلك هو المنصف للدين الإسلامى فى مواجهة التطرف والإستعلاء الدينى الذى يعصف بأى جهد عقلى فى قراءة النص .. أحييكم على هذا المقال الشجاع الذى يثبت بموضوعية وعقلانية وفهم حقيقي أن قضية قتل المرتد هى محض حكم دنيوي سلطوى وليس حكما إلهيا ..
ردحذفاولا شكرا على مروركم وثانيا شكرا على هذا الثناء على مقالى واعتقد ان كثير من تلك القضايا لو تم بحثها بانصاف وعقلانية سوف نجردها مما هو تاريخى وسياسى ونتيجة ظروف سياسية القت بظلالها على التفسير الدينى تحياتى لحضرتكم
حذف