نصر القفاص
ذهبت إلى قراءة خطاب "نهرو" أمام مؤتمر
"باندونج" فى خمسينات القرن الماضي.. لأنه كان يحمل رؤيته للاستعمار
الجديد.. فقد أعلن خشيته من الحصول على الاستقلال بينما يرتب الاستعمار للعودة من
جديد من باب الاقتصاد عبر قادة عملاء.. عشنا عشرات السنوات نرى ونسمع تفاصيل ما
توقعه كبير "الهند" وقت أن كان العالم يحكمه قادة كبار.. وبعدها أنهى
كبير مصر والأمة العربية "جمال عبد الناصر" أسطورة إمبراطوريتي
"فرنسا" و"بريطانيا" فى حرب السويس, لتفرض الولايات المتحدة
الأمريكية حصارا اقتصاديا على مصر استمر حتى رحيله.. خلال سنوات الحصار تمكنت مصر
من إنجاز "السد العالى" إضافة إلى مئات المصانع العملاقة.. كان الحديد
والصلب فى القاهرة, والألمونيوم فى نجع حمادى.. ومصانع كيما فى أسوان.. ومعامل
تكرير البترول فى السويس, ثم تم نقلها إلى الإسكندرية.. وتطورت صناعة الغزل
والنسيج فى المحلة الكبرى وكفر الدوار وشبين الكوم.. والقائمة تطول وكلها كانت
صناعات ثقيلة.. وكانت مصر رائدة زراعة القطن طويل التيلة والأرز وقصب السكر فى
المنطقة كلها.
حدث كل هذا بفضل الحصار الاقتصادي.. أرجع إلى أغنية "عبد
الحلم حافظ" التى كتب كلماتها "أحمد شفيق كامل" ولحنها "كمال
الطويل" عام 1960.. وحملت عنوان "حكاية شعب".. وكانت جملة:
"والحصار الاقتصادي.. برضه ما زلش بلادى".. تلهب حماس وعزيمة الشعب..
وتستنطق فيه الإرادة والتحدى.. وقد جاء وقت يجب القول فيه أن أول دولة تعرضت
للحصار الاقتصادي بالمفهوم الأمريكي كانت مصر.. ثم سمعنا خلال السنوات الماضية عن
دول يتم وضعها تحت "الحصار الأمريكي" بينها: "إيران" التى
تتلاعب بأمريكا والذين معها.. وهناك "فنزويلا" التى هرولت الولايات
المتحدة إليها, تتسول رضاها بعد أكثر من 17 سنة من الحصار!!.. وبعد محاولة الانقلاب
على الرئيس "مادورو" والاعتراف برئيس البرلمان "خوان جوايدو"
رئيسا مؤقتا لفنزويلا.. فشلت المحاولة, واستمر الحصار على فنزويلا.. وكذلك
"روسيا" التى كان الغرب يعتقد أنه قادر على أن يفعل بها, مثل ما فعله فى
الاتحاد السوفيتى.. فإذا بها تضعه أمام "الصدمة والرعب" خلال لحظة فارقة
من تاريخ العالم.. "الصدمة" مما فعلته "روسيا".. ووراءها
"الرعب" مما يمكن أن تفعله "الصين" وكليهما أنفق سنوات
استعدادا للحظة نعيش تفاصيلها.
ما يجرى على أرض "أوكرانيا" وحولها هو "الحرب
العالمية الثالثة" بأتم معنى الكلمة.. فحروب العصر الحديث تختلف فى شكلها
ومضمونها عن حروب زمن مضى.. ميدان الحروب العسكرية يمكن أن يكون محدودا – أوكرانيا
– أما الحرب الاقتصادية فهى تؤثر فى العالم كله.. وعلى التوازى تدور "الحرب
الإعلامية" وميدانها الكرة الأرضية كلها.. ويوم قال رئيس وزراء بريطانيا عن
استخدام "سلاح سويفت" أنه "القنبلة النووية الاقتصادية" كان
يقصد المعنى.. ووصله الرد الروسى بإعلان الاستعداد لاستخدام "القنبلة النووية
العسكرية"!! ليتأكد لأصحاب العقول أن ما نشهدة هو "الحرب العالمية
الثالثة" التى يبتعد الساسة عن الإشارة إليها اعتقادا منهم أن "سلاح الإعلام"
يمكن أن يحسمها!!
الواقع يقول أن "روسيا" تواجه حصارا اقتصاديا تقدر عليه,
وتملك قدرات عسكرية جعلت أمريكا والذين معها يعلنون تراجعهم عن مواجهتها.. لكن
"الحصار الإعلامى" هو الميدان الوحيد الذى حقق فيه الغرب تفوق نسبى
سريع.. فقد ذهبت أمريكا والذين معها إلى خنق الصوت الروسى من اللحظة الأولى..
منعوا قنواتها ووكالات الأنباء الروسية من مخاطبة الرأى العام الغربى.. استخدموا
أسلحة "الفيس بوك" و"تويتر" و"يوتيوب" كأسلحة قذرة
تقذف "روسيا" والذين معها بالباطل والباطل.. ويرشقونها بأكاذيب عبر
ماكينات إعلامية عملاقة فى أمريكا وأوروبا ودول عربية تملك قدرات إعلامية كبيرة
وقوية.. فالمطلوب خلق حالة عداء تجاه "روسيا" مع بعض العداء تجاه
"الصين" حتى تحين لحظتها وفق اعتقادهم.. تركوا
"الإسلاموفوبيا" وفتحوا كتاب "الروسوفوبيا" والصينوفوبيا"
ولو كان الثمن أن تسقط عنهم أوراق التوت التى كانت تستر عورتهم.. مثل
"الديمقراطية" و"الحرية" و"حقوق الإنسان" وغيرها
مما أسموه القيم الغربية التى صدعوا بها رأس العالم لعشرات السنوات!!
نجحت أمريكا والذين معها فى استثمار غضب عدد لا بأس به من الشعوب,
تجاه حكامهم الذين كانوا يمارسون "الديكتاتورية" و"الفساد"
على سبيل المزاج بحماية أمريكية ودعم غربى!! واستمر ذلك لما يقرب من عشرين عاما..
لأن "البروفة" كانت حول "روسيا", ثم امتدت إلى الدول العربية
فيما بعد.. فيما أسموه الثورات الملونة التى أنتجت حكاما "مبتسرين", من
عينة "زيلنسكى" الذى أنتجوه ليحكم "أوكرانيا" بسلاح الإعلام..
وعندما تمادى فى سذاجته وحماقته, وأخذته نشوة أنه أحدث صيحة فى عالم الرؤساء
"المبتسرين"!! فوجئ بأنه يصطدم مع كيان كبير ضخم – روسيا – ووجد نفسه مع
شعبه المخدوع يقف فى وجه المدفع.. ولم تجد أمريكا والذين معها سوى استخدامه لآخر
لحظة.. قرروا تحويله إلى "ماكينة قذف إعلامى" وجعلوه "رئيس
يوتيوبر" ينتج أكبر عدد من شرائط الفيديو على مدى ساعات اليوم.. وخشية أن
يفقد تأثيره راحوا يقدمونه فى فقرات جديدة.. مرة يوجه خطاب للبرلمان الأوروبى,
وثانية يخاطب "الكونجرس" الأمريكى.. وثالثة متحدثا إلى "مجلس
العموم" البريطانى.. ولا مانع من أن يخاطب "بولندا"
و"إسرائيل" وغيرها من الدول التى تقبل أن تلعب دورا فى هذا الفيلم الذى
يلاقى إقبالا جماهيريا!!
تعلم أمريكا والذين معها أن ما بعد "الصدمة والرعب"
ستكون نهاية عدد لا بأس به من الحكام والرؤساء الذين أعجبتهم لعبة "الرئيس
اليوتيوبر"!! وتتابع الشعوب فى الكرة الأرضية "رقصة أمريكا
الأخيرة" والذين معها.. ويدهشنا تكرارهم ترديد جملة "نحن متحدون"
وفعلهم يؤكد أنهم ليسو كذلك.. فالحرب العسكرية على أرض "أوكرانيا" باتت
محسومة.. والحرب الاقتصادية تحتمل الكثير من الكلام.. وبقيت "حرب
الإعلام" التى تحاول إقناع الدنيا بأن "روسيا" ستنتهى, وهم يعلمون
أن هذه "كذبة كبيرة".. وتحاول إقناع الدنيا بأن "الصين"
أصابها الخوف منهم.. ويعلمون أن هذه "أم الأكاذيب".. ويحاولون إقناع
الدنيا بأن الشعوب تؤيدهم.. فإذا بسلاح "اليوتيوب" يرتد فى صدرهم, لأن
"المواطن اليوتيوبر" يواجههم بقسوة.. يهاجمهم فى عقر دارهم.. يفرض على
الصفحة الرسمية "للناتو" أن تحذف صورة امرأة أوكرانية مقاتلة, لأنها
تحمل على صدرها إحدى علامات النازية "الشمس السوداء".. بعد آلاف
التعليقات المعترضة من جمهور أوروبى.. يفرض على الخارجية الأمريكية أن تحذف
تصريحات لمساعدة وزير الخارجية الأمريكى.. حول معامل البنتاجون البيولوجية على
أراضى أوكرانيا.. وغيرها عشرات من النماذج التى أتابعها يوميا.
يراهن الغرب على أن إطالة زمن الحرب كفيل بأن يجعل
"روسيا" تتراجع.. هكذا اعتقدوا فروجوا أسطورة صمود الجيش والشعب فى
"أوكرانيا" والصورة تؤكد أن الشعب يهرول تاركا بلاده.. يعزفون على أوتار
مشاعر الإنسانية, فسقطوا فى "بير الغلط" كما نقول باللغة الدارجة.. اعتبروا
اللاجئ الأوكرانى خمس نجوم, وعاملوه كذلك بما نراه.. ونسيوا اللاجئ الفلسطيني الذى
أذلوه.. لم يلتفتوا للاجئ العراقي الذى فرضوا عليه العيش فى مخيمات.. تجاهلوا
اللاجئ السورى الذى يكيلون له الإهانة ويعاملون الأغلبية منهم بقسوة منقطعة
النظير.. صرفوا النظر عن اللاجئ الليبى الذى حطموا بلاده بطائرات
"الناتو" الذى يحدثونا عن إنه حلف دفاعى.. هذا غير اللاجئ من إثيوبيا
ومالى وغينيا وغيرها من الدول الإفريقية.. يحاولون استدرار عطف الناس تجاه ما يحدث
مع الأبرياء فى "أوكرانيا" والحقيقة أننى أتعاطف معهم.. لكننى لم ولن
أنسى أطفال "بحر البقر" ولا عمال "أبو زعبل" وأبطال مصر الذين
قتلتهم إسرائيل بدم بارد.. كما فعلت مع أطفال "دير ياسين" وأهلنا فى
"صابرا وشاتيلا" ولا أستطيع أن أنسى أطفال العراق الذين أحرقتهم أمريكا
فى ملجأ "العامرية" خلال تدمير العراق.. ولا يمكن أن أنسى ما حدث فى
"أفغانستان" و"بنما" و"نيكاراجوا"
و"كوبا" لأنها جرائمهم التى عشتها.. ولا يمكن أن تخدعنى لعبة
"الرئيس اليوتيوبر" لتخدعنا وتجعلنا لا نفهم أننا نعيش تفاصيل
"الحرب العالمية الثالثة"!!
0 تعليقات