وفاة السيدة
فهيمة محمد حماد أم جمال عبدالناصر وعمره 8 سنوات..والدموع تفوت من عينيه كلما
تذكرها حتي رحيله
سعيد الشحات
عاد الطفل ملهوفا بعد غياب دام عاما، ودخل البيت كى يرتمى فى أحضان
أمه، لكنه وجد سيدة أخرى، فزلزل المشهد كيانه، وظل طوال حياته تغالبه الدموع حين
يتذكر هذه اللحظة، الطفل هو جمال عبد الناصر، والأم هى فهيمة محمد حماد التى توفيت
يوم» 2 إبريل، مثل هذا اليوم، 1926، فتركت جرحا هائلا لدى ولدها أثر بعمق على تكوينه
الشخصى، وحسب محمد حسنين هيكل فى كتابه «عبد الناصر والعالم»: كان لم يزل فى
الثامنة عندما انهار عالمه وتقوض، ومنذ ذلك الحين أصبح ثائرا.
يذكر الكاتب الصحفى مصطفى طيبة فى دراسته: «عبد الناصر – الذات،
التجربة، التاريخ»، فى مجلة «الوحدة – المجلس القومى للثقافة العربية – الرباط
1986»: «موت أمه كانت صدمة عنيفة زعزعت كيان الطفل، واستدعته للتفكير فى وضعه
الجديد المتميز باليتم».. وتذكر السيدة وهيبة «مرضعة جمال» للكاتب الصحفى يوسف
الشريف فى كتابه «مما جرى فى بر مصر»، أن الوالد عبد الناصر حسين استدعاها إلى
الخطاطبة حتى تمارس دور الأم فى تهدئة خواطر ابنه جمال، وحاولت إقناعه مرارا بأن
مصيرنا جميعا الموت بعد الحياة، وأنها حكمة الله.. تضيف: كان يوافقنى على مضض
ويسكت، حتى رأيته فى الفضاء المجاور للمنزل يحفر الأرض بكفيه الصغيرتين تحت شجرة
باسقة، واقتربت منه وسألته، ماذا تفعل يا ولدى، وأحنى رأسه وأجهش بالبكاء، وقال فى
نبرة كسيرة: أحفر الأرض بحثا عن والدتى.. ألم تقولوا إنها دفنت فى الأرض، سأناديها
من ثقب الحفرة وستسمعنى وتحدثنى، لأنها كانت تحبنى ولا ترفض لى طلبا.
هكذا عاش الطفل جمال تجربة الموت، لكنه وحسب «طيبة»: «انطفاء أمه أدى
به إلى طرح سؤال الموت، وإلى عزلة وجودية تمكن داخلها من إعادة صوغ كثير من الرؤى
والأفكار الجاهزة التى تلقاها، بل إن قلقه سيتصاعد حين سيتزوج أبوه بعد موت أمه
بمدة قصيرة، فانخرط فى إيقاع اليتم وتولد لديه إحساس عام بالحرمان العاطفى، الأمر
الذى فرض عليه ضرورة الاعتماد على نفسه وترتيب شؤون حياته ومستقبله لوحده بحيث
اكتسب من هذه التجربة استقلالا فى النظر والحكم، وتميزا فى أساليب التدخل
والاختيار».
فى تفكيك هذه الدراما الإنسانية، نجد فيها أن والده انتقل من قريته
«بنى مر» بأسيوط إلى الإسكندرية دون أن يكون فى جيبه جنيها واحدا، وهناك التحق
بمدرسة ثم بوظيفة فى البريد، بالإضافة إلى عمل لدى تاجر فحم هو الحاج محمد حماد،
ثم يتزوج من ابنته فهيمة، وينجب منها أول أولاده جمال، ثم ينتقل بزوجته وولدهما
إلى»الخطاطبة» ليتولى رئاسة مكتب البريد فيها.
يذكر هيكل فى حلقته «الزاوية الإنسانية للتاريخ ونشأة جمال عبد
الناصر»، ضمن برنامجه «تجربة حياة» على فضائية الجزيرة «25 ديسمبر 2006»، فإن
الخطاطبة منطقة تختلط فيها الصحراء بالحقول، وفيها عاش جمال مع والده ووالدته ودخل
الكتاب فيها، ولعدم وجود مدرسة أرسله الأب عند أخيه فى الإسكندرية للالتحاق بمدرسة
«رأس التين» بالقرب من عائلة أمه، ومن هناك وفور أن تعلم فك الخط بدأ فى كتابة
خطابات لأمه فيها كلمتين أو ثلاثة مثل «أنا بشتاق لك»، فترد عليه، يعلق هيكل:
«كانت علاقته بها حميمية جدا، وأعتقد أنها أثرت فيه جدا، وماتت وهو فى سن الثامنة،
وكان لما يتكلم عنها وهو كبير وهو رئيس جمهورية تفوت دمعة من عينيه».
يستمر «جمال» فى كتابة الخطابات لأمه، لكنه لم يعد يتلق ردودا
منها، ويظل السبب مجهولا عنده.. يؤكد هيكل: «جاءت له الصدمة التى أثرت جدا فى
حياته، لأنه رجع مرة الخطاطبة وبعد غياب سنة ماكنش شايف فيها أمه، فرجع البيت
ملهوفا ودخل فلم يجدها، ولكن وجد سيدة أخرى لأنها توفت بعد ولادة ابنها الأخير «عز
العرب» بأقل من أسبوع، وأخفى الأب الخبر عن ابنه جمال، ولما وجد السيدة الثانية
علم أن أباه جاء إلى الإسكندرية دون أن يمر عليه وخطب السيدة عنايات وتزوجها، كانت
صدمة له، لأنه وجد سيدة أخرى تحل محل أمه.
يضيف هيكل: أحس بشىء بداخله ناحية زوجة أبيه، وظل على هذا الوضع
حتى كان فى الإسكندرية عام 1956 فى أجواء تأميم قناة السويس، وكان هناك استقبال
شعبى مذهل له، وأثناءه نظر إلى بلكونة لمح فيها السيدة عنايات الصحن زوجة والده
منهمكة مع الناس فى التصفيق بحماس: «ساعتها حس أنه فيه حاجة كبيرة قوى تنزل تغسل
فى قلبه أشياء كثيرة جدا»
0 تعليقات