آخر الأخبار

أشهر الزاهدين وأول الشيوعيين !

 




 

عاطف معتمد

 

ما أعجب تلك الحبكة الفنية التي اخترعها العقاد قبل نحو قرن من الزمن ليقربنا إلى شعر أبي العلاء أو يقرب أشعاره إلينا.

 

وصلت الأخبار إلى مصر في عام 1933 أن سوريا تستعد للاحتفال بذكرى ألف سنة على ميلاد أبي العلاء فإذ بمفكرنا العبقري يعيد بطل المناسبة إلى الحياة وقد ألم به غضب ونفور معترضا على الاحتفاء به.

 

في رجعته إلى الحياة يسخر أبو العلاء من الذين يضعونه تحت الضوء معتبرا أن مدحهم إساءة له، وهو الذي آثر البعد عن كل صخب وصيت ومُلك في زمانه.

 

وهنا يستهل العقاد كتابه المؤلف من 280 صفحة – وكان يباع بعشرة قروش – ليطرح سؤالا مدهشا:

 

هل كان أبو العلاء حقا زاهدا في الضوء راغبا عن المُلك؟

 

كيف يختار العتمة رجل أجمع النقاد في العصر الحديث على أنه "أكثر العقليات عبقرية في الأدب العربي"؟

 

لا يتردد العقاد عن استخلاص كثير من الأبيات المدسوسة في أشعار أبي العلاء التي توحي بأن نزعة المجد الدنيوي نزعة مكبوتة في قراره ضميره يدل عليها شعره ونثره.

 

اختار أبو العلاء – يرى العقاد – أن يكون راهبا في الحياة بعدما تبدى له أنه لن يحظى بالملك وأنه لن ينال المجد، أي أنه آثر الزهد اختيارا ولم يضطره أحد إلى ذلك.

 

هذه النتيجة التي توصل إليها العقاد يسميها النقاد المحدثون على ما يبدو "تحليل النص"، فليس هناك أي دليل على ما يفترضه العقاد سوى الأشعار وتحليل مغزاها وتأويل مرماها.

 

نفهم من تحليل العقاد أن حياة الزهد والرهبنة جاءت عند أبي العلاء لأنه كان يرى نفسه مستحقا لمكانة المُلك والمجد بين الناس، ولما تبين أن ذلك غير قابل للتحقيق في زمنه الذي انتشرت فيه الفتن ومسالك الفساد اختار بنفسه أن يحيا الحياة التي نسميها الزهد والرهبنة والبعد عن كل ملك وسلطان وصيت.

 

لا يعتقد أبو العلاء – يخبرنا العقاد من تحليل النص - أن الناس كانوا أخيارا ثم فسدوا بل يراهم مخلوقين فاسدين منذ قديم الأزل، وفي ذلك يقول:

 

🔹️وهكذا كان أهل الأرض مذ فُطروا

فلا يظن جهول أنهم فسدوا

 

ولعل بيتا يختاره العقاد يعبر عن فلسفة أبي العلاء التي يرى فيها أنه زهد في اعتلاء هضبة المجد لأن الخليق بالرجال أن يسكنوا الوهود الفسيحة:

 

🔹️وزهدني في هضبة المجد خبرتي

بأن قرارات الرجال وهود

 

لكن هل يأخذ أبو العلاء بالرهبنة كلها؟

 

يعثر العقاد على بيت شعر لأبي العلاء يعكس رؤية الرجل لأهم آفات الرهبنة وهي أن يعيش الراهب على تصدقات الآخرين وتبرعاتهم ببعض أرزاق لا يعرف المترهب مصدرها، حلالها من حرامها، كرم المتصدق أم بخله وشحه، فإذ بأبي العلاء يستدرك على الرهبنة قائلا:

 

🔹️ويعجبني فعل الذين ترهبوا

سوى أكلهم كد النفوس الشحائح

 

"رجعة أبي العلاء" كتاب جميل للغاية، صفحاته وأفكاره تفند ما يفتريه العوام من أن "العقاد "كاتب "معقد" الأسلوب والكلمة، إذ الكتاب أقرب إلى مقالات صحفية خفيفة رشيقة، تبث الحياة في ماض بعيد، غير متخل عن وقار البلاغة الفصيحة وعبرة التجربة والبحث المعمق.

 

حين ألف العقاد كتابه "رجعة أبي العلاء" في عام 1939 كانت الشيوعية في الاتحاد السوفيتي اسما جديدا غريبا وصل إلى مصر والعالم العربي محاطا بالشك والحذر. وذلك بتأثير الدعاية الإنجليزية التي كانت تخشى من المد الشيوعي لأسباب سياسية لا عقائدية، لم تكن الحرب العالمية الثانية قد بدأت ولم تكن الشيوعية قد توغلت.

 

في عهد العقاد الذي واكب الملكية لم تكن هناك تهمة ارتباط ديني واضح كما سيحدث في عهد ناصر والسادات في العهد الجمهوري حين أصبح مفهوم الشيوعية قرين الإلحاد واضطهاد الأديان التي شن الشيوعيون عليها هجمة ساحقة باعتبارها "مخدرات تستهدف عقول الشعوب".

 

ولأن كلمة "شيوعية" في عهد العقاد كانت بريئة نقية فإنه أعطى فصلا كاملا عنوان "أول المشيعين" يحتفي فيه "الرفاق" من المشيعين أو الشيوعيين بأبي العلاء المعري معتبرينه "الشيوعي العربي القديم".

 

وفقا للعقاد فقد اعترف الشيوعيون لأبي العلاء بأنه سبقهم بألف سنة في إنكار التفاوت في الأرزاق بل ذهبوا إلى أن المعري كان نافذ الرأي حين سخر من استحواذ كبار السن على المال وهم ليسوا في حاجة إليه وافتقار الشباب إليه وهم به أولى:

 

🔹️يعيش الفتى في عدمه عيش راغب

ويثري مسن للمعيشة سائم

 

لقد انتفض أبو العلاء قبل ألف سنة - يقول الشيوعيون في كتاب العقاد – مناديا بالتكافل الاجتماعي وخدمة الناس بعضهم بعضا:

🔹️الناس للناس من بدو وحاضرة

بعضٌ لبعض وإن لم يشعروا خدم

 

ووصل الشيوعيون إلى ذروة الاحتفاء بأبي العلاء في منهجه السياسي الذي أكد فيه على أن الحاكم يجب أن يكون خادما للمحكومين حين يقول في بيت من أبياته الخالدة:

🔹️إذا ما تبينا الأمور تكشفت

لنا وأمير القوم للقوم خادم

 

يقول الشيوعيون إن أشعار أبي العلاء حملت أفكارهم الأولى قبل ألف سنة ولا سيما تلك التي يشكو فيها أبو العلاء فساد الأمراء وظلم الرعية حين استباح الأمراء ثروة الشعب وهم في الحقيقة أجراء عند الناس:

 

🔹️ملّ المقام فكم أعاشر أمة

أمرت بغير صلاحها أمراؤها

🔹️ظلموا الرعية واستباحوا كدها

وعدوا مصالحها وهم أجراؤها

 

ثم وصل الرفيق الشيوعي إلى بيت القصيد وهو بيت عجيب فريد يسبق فيه المعري غيره بمئات السنين حين كشف عن أن كل مذهب وفكرة إنما هي من اختلاق الحكام لتسخير كل شيء لمصالحهم:

 

🔹️إنما هذه المذاهب أسباب

لجلب الدنيا إلى الرؤساء

 

ثم يفاجئ الرفيق الشيوعي الذي يخطب في القوم الحضور جميعهم فيقول لهم إن لفظ "الاشتراكية" الذي اخترعناه في هذه السنوات الأخيرة سبقنا إليه أبو العلاء بالحرف الواحد قبل عشرة قرون حين قال:

🔹️لو كان لي أو لغيري قيد أنملة

من البسيطة خلت الأمر مشتركا

 

وبعد أن انتهى الرفيق الشيوعي من مديح أبي العلاء وقف شاعرنا يشكرهم ويرد عليهم ويفسر لهم ما التبس عليهم بل أتى لهم بأشعار أخرى تناقض فهمهم تارة وتصل بهم إلى مفاهيم ومعارف "اشتراكية" و"شيوعية" لم يدركوها تارة أخرى.

 

🔸️🔸️🔸️

"رجعة ابي العلاء" كتاب دونه العقاد في عام 1939 معبرا عن احتفاء سوريا بألف سنة على ذكرى شاعرها الكبير، يمزج العقاد في كتابه بين الأشعار والأفكار، وهو جدير بأن يقرأ اليوم في 2022 وسنجده ما زال طازجا يصلح لأن نتلمس فيه مذاهب شتى: أدب، سياسة، فلسفة أديان...ورؤى بليغة لفهم الحياة

 

إرسال تعليق

0 تعليقات