عاطف معتمد
هذه هي المسرحية الثانية لتوفيق الحكيم التي أتناولها هنا بعد
مسرحية " نشيد الأنشاد" التي لقيت قبولكم الشهر الماضي. وإذا كان الحكيم
قد لجأ إلى العهد القديم في مسرحية "نشيد الأنشاد" فإنه لجأ هذه المرة
إلى القرآن الكريم ليصيغ الديالوج الطويل الذي دار بين أبطال قصة "أهل
الكهف".
"الكهف" سورة شهيرة من سور القرآن الكريم، تتألف من 110
آية، وهي واحدة من أشهر السور التي يحرص المسلمون على قراءتها يوم الجمعة وعلى
تعليمها لأبنائهم بعد أن ترسخ لديهم يقين بأثرها البالغ في النفس وكمصدر للتربية
والتنشئة على الأخلاق الحميدة.
من بين الآيات الـ 110 لا تزيد قصة أهل الكهف عن 17 آية، وهو ما
يعني أنها لا تصل حتى إلى 20 % من إجمالي آيات السورة.
ومع ذلك، يرى كثير من المفسرين أن السورة كيان كلي متناغم تعد فيه
قصة أهل الكهف هي التيمة الرئيسة التي تدور حولها بقية القصص الملتحقة بها.
تؤكد السورة من بدايتها إلى نهايتها على مفاهيم عبادة الله وحده
دون شريك، والصبر على الابتلاء، وأن الأعمال يجب أن تقرن بالنوايا الطيبة، وأن أمر
الدنيا كله عرض عابر أقرب إلى نزول ماء من السماء لتحيا به الأرض فترة من الزمن
قبل دورة موتها، وأن كل متاع الدنيا من مال وبنين ليس إلا زينة عابرة، وأن أصحاب
المكاشفات القلبية والعلم الراسخ لا يفسرون الأمور بالظاهر المتناقض بل بالباطن
المؤجل المدهش، وأن الكل مجموع إلى يوم الحساب أمام الحاكم العدل الذي ضرب لنا في
كتبه المقدسة بعض أمثال للاعتبار والتذكرة، وهذه الأمثلة إشارات لمن يلتقط الإرسال
ويؤمن بالرمز ذلك لأن الله لو حدثنا عن كل شيء لما كانت مياه البحر تكفي مدادا
لقلمه.
في عام 1933 نشر الحكيم هذه المسرحية معتمدا على أربعة مصادر:
- القرآن الكريم
- التراث المسيحي المسجل في كتب التراث أو الموروث الشعبي
- المصادر الآسيوية التي تورد قصة أهل الكهف في غير الديانتين
المسيحية والإسلام
- خيال الأديب المحلق ولا سيما في حوارات الأبطال التي تضع فلسفة
تفسيرية بليغة المعنى والمغزى.
قصة أهل الكهف ليست مسجلة في العهد القديم ولم ترد في أي من أناجيل
العهد الجديد وهو ما لم يوفر للحكيم مصدرا دينيا أدبيا كالذي سيلجأ إليه في
مسرحيته الثانية "نشيد الأنشاد" التي نشرها بعد هذه المسرحية بنحو 7
سنوات.
في سورة الكهف في القرآن الكريم نحن لا نعرف أي زمن وقعت فيه
القصة، هنا لدينا المذهب الذي أشرت إليه في مقالاتي السابقة عن "تحييد الزمان
والمكان والشخوص" لتصبح القصص صالحة لكل الأزمان وكل الأماكن.
في سورة الكهف في القرآن الكريم لا نعرف أية ديانة أو أية عقيدة
لأهل الكهف سوى أنهم يعبدون الله ولا يشركون به أحدا. هذا يعني أن القصة متسعة
بحكم الوعي الإنساني منذ لحظة الخليقة الأولى.
النسخة التي اعتمد عليها الحكيم هي الصياغة المسيحية التي تشير إلى
وقوع هذه الأحداث في عهد أحد الأباطرة الرومان وقت اضطهاد المسيحيين في القرون
الأولى لتلك الديانة الوليدة.
يصرح الحكيم بشكل قاطع بأن الأحداث وقعت في عهد
"دقيانوس" وبالتالي هو يجمد الزمان عند عصر ذلك الإمبراطور في منتصف
القرن الثالث الميلادي أو في حدود عام 250 بعد ميلاد السيد المسيح عليه السلام.
وبينما القصة التي وردت في سورة الكهف تستخدم كلمة
"المدينة" دون تحديد أي مدينة في العالم يضع الحكيم أحداث القصة قرب
مدينة في بيزنطة معقل المسيحية الشرقية، وهو في هذا يتبنى المصادر المسيحية
الأوروبية التي كانت ترجح موقع الأحداث بين مدينة "أفسوس" (في غرب تركيا
حاليا) ومدينة "طرسوس" (في جنوب غرب تركيا حاليا).
خلال زيارتي للهند في عام 2005 كانت هناك رحلة سياحية غالية الثمن
لم أستطع القيام بها تأخذ السياح الأثرياء إلى موقع "أهل الكهف" في وسط
الهند. وتشير الروايات الهندية إلى رواية شهيرة تشبه قصتنا الحالية.
في مسرحيته لم يغفل الحكيم الإشارة على لسان الأبطال أن القصة
معروفة منذ أزمان بعيدة سابقة على القرن الثالث الميلادي وأعطى نموذجا من معرفة
أهل اليابان بها قبل العصر المسيحي بقرون طويلة.
ويمكن القول إن فكرة هروب بعض المؤمنين بدينهم من بطش الحاكم
الظالم إلى كهوف بعيدة هي تيمة إنسانية عرفتها كل الأزمنة وكل الأمكنة.
ورغم أن قصة أهل الكهف جاءت في القرآن الكريم في 17 آية في نحو
ثلاث صفحات فقط فإن الحكيم أفرد لها 210 صفحة.
السبب الرئيس في هذا العدد الكبير من الصفحات هو خيال الحكيم الخصب
الذي سمح له بأن يجري حوارات فلسفية بين الأبطال مع الالتزام (تقريبا) بالنص
المشهور.
ولعل أفضل حوار تمكن منه الحكيم هو بين اثنين من العاشقين قطع
بينهما الزمن (الرجل الذي فر إلى الكهف والأميرة المسيحية التي أخفت عن أبيها
الإمبراطور الوثني إيمانها) وشغل هذا الحوار مساحة كبيرة من المسرحية وكان مشهدها
الختامي، ولعل قراءة هذه الحوارات في عام 1933 كان شيقا تماما لكن ربما شعر معها
قارئ عام 2022 ببعض الملل والإطناب والتكرار.
الجرأة الكبرى في حوارات الحكيم تكمن في الحبكة الفنية للمشهد
الأكثر شهرة في معضلة أهل الكهف.
فبعد أن أدرك العاكفون في الكهف أنهم غابوا عن الزمن 300 سنة
حاولوا الاندماج في الحياة الجديدة التي استقبلتهم بترحاب بعد زوال الملك الظالم.
حاول كل منهم أن يعود إلى حياته السابقة: الابن أو الحبيبة أو البيت، لكنهم وجدوا
كل ذلك قد تبدد واختفى وشعروا أنهم غرباء عن العالم الذي تركوه.
شكلت الغربة حالة من الجنون. كان المشهد، بخيال الحكيم، حالة من
المقارنة بين استقبال العائدين من الكهف باعتبارهم قديسين عادوا للحياة بعد طول
انتظار وبين شعورهم هم أنفسهم بالغربة والفقد والتعاسة والصدمة من تغير كل شيء
حولهم. ومن ثم عاد القديسون إلى كهفهم لأنهم وجدوا أنفسهم غرباء لا يمكنهم الاتساق
مع الزمن الجديد، وفي كهفهم ماتوا !
الرسالة الخفية بين سطور الحكيم وخياله الخصب أن عظمة ما قدمه
الفارون بدينهم من الاضطهاد كانت في هروبهم واحتفاظهم بعقيدتهم ضد الفساد، وهنا
تنتهي الأهمية ولا فضيلة في رجوعهم بعد انتصار الدين.
عودة الهاربين بعد انتصار الدين وبعد انقشاع الظلم جعلتهم بلا
ضرورة، غرباء عن عالمهم وقد تجاوزهم الزمن.
وكأن الحكيم يريد أن يقول إن مغامرة التضحية بالنفس من أجل المبدأ
هي أعظم نتيجة وأن العودة في زمن آخر بعد انتصار المبدأ وزوال الخطر لن تثمر
لصاحبها أي انتصار للنفس بل ستؤلمها غربة وتيها.
ورغم أن الأحداث لا مكان لها ولا زمان إلا أن الحكيم في عام 1933
لم يفته أن يستحضر مصر الوطن الذي يبحث لنفسه عن قدم في المستقبل وقد أحاط به
الماضي من كل حدب وصوب.
يقول الحكيم على لسان أحد أصحاب الكهف الذي أفزعه أن الزمن فاته
وأنه لا مكان له في الحياة الجديدة:
"لا فائدة من نزال الزمن، لقد أرادت مصر من قبل محاربة الزمن
بالشباب، فلم يكن في مصر تمثال واحد يمثل الهرم والشيخوخة، كل صورة في مصر هي
للشباب من آلهة ورجال وحيوان، ومع ذلك كل شيء شاب، الزمن قتل مصر ولكنها ما تزال
شابة ولن تزال، ولن يزال الزمن ينزل بها الموت كلما شاء وكلما كتب عليها أن
تموت".
مسرحية "أهل الكهف" قطعة أدبية يختلف القراء حولها:
أغلبية تراها عملا إبداعيا نادرا وأقلية تراها استلهاما ساذجا من التراث الديني.
"أهل الكهف" عمل لن يقرأ فقط في عام 2022 بل سيظل مهما
وحاضرا لعقود قادمة.
0 تعليقات