حمدى عبد العزيز
12 مايو 2020
فى يوم الثانى عشر من مايو 1984 أى منذ أكثر من ثلاثين عاما ..
في صباح هذا اليوم كان عبد المجيد الدويل قد انتهي قد فرغ من تناول
نصيبه من ساندويتشات الفول والطعمية التي كانت أمامنا نحن الأربعة .. (هو ، وثروت
سرور ، ومجدي شرابية ، وأنا) قبل أن ينزل من مقر الحزب إلي عيادة الدكتور سينوت
بمدينة دمنهور حيث كان من المقرر أن يراه قبل أن يعاود إلي مدينته الدلنجات حيث
كان يخوض معركة انتخابات مجلس الشعب علي رأس قائمة حزب التجمع وقتها ..
وكانت غالبية قوي وتنظيمات اليسار المصري العلنية والسرية المنظمة
والكثير من عناصر اليسار ومثقفيه الغير منظمين قد قرروا خوض هذه المعركة من خلال
قائمة حزب التجمع ..
وكانت لجنة حزب التجمع في البحيرة قد شكلت غرفة إدارة يومية لإدارة
كل مايتعلق بالانتخابات في دوائرها الثلاث (شمال - وسط - جنوب) برئاسة مجدي شرابيه
وعضويتي أنا وثروت سرور ، بحيث نكون مسئولون أمام الحزب عن كل الأمور التنظيمية
والسياسية بدءاً من تلقي الترشيحات وإعداد القوائم وإدارة الاتصالات السياسية
والإدارية والحزبية المتعلقة بذلك وانتهاءً بإدارة ومتابعة أعمال لجان المراكز
والمواقع ، ولجان الصناديق يوم الانتخابات، أي أن هذه اللجنة كانت عملياً هي
الإدارة اليومية لكل أعمال الحزب في هذه الفترة التي شكلت ثلاث شهور من العمل
اليومي المتواصل ليل نهار ، ولذلك قد كان أول أجراء حزبي هو شراء ثلاث أسرة سفاري
من النوعية التي تطوي نهاراً وتفرد ليلاً ، تلك التي تستخدم في مخيمات الكشافة ،
وذلك لاستخدامنا أنا ومجدي شرابية والدكتور سينوت حنا لأننا لم نكن نقيم في دمنهور
، حيث مقر الحزب وكنت أنا بأمر من الحزب قد حصلت علي إجازة من عملي لمدة ثلاث شهور
وكان مجدي شرابية متفرغاً بطبيعة الحال كإداري في الحزب وكل من ثروت سرور والدكتور
سينوت حنا يلحقا بنا يومياً بعد الانتهاء من عملهما .. وكان يومنا يبدأ في التاسعة
صباحاً باستقبال المرشحين علي القوائم ، وأعضاء لجان الحزب في مناطق تقسيمات
الدوائر المشار إليها لاستقبال تقارير العمل في هذه المواقع ومتطلباتها ، وطلبات
المرشحين وملاحظاتهم وكافة المقترحات والملاحظات والاحتياجات التي ترد إلينا ثم
نبدأ في تنظيمها وترتيبها بعد تلقيها عبر جلسات عمل بيننا أنا ومجدي شرابية
والدكتور سينوت وثروت سرور ..
كان عبد المجيد الدويل الذي حضر إلينا من الدلنجات صباح هذا اليوم
يمازح طوب الأرض إذا لم يجد من يمازحه ...
، نظر يومها لأثواب القماش التي أحضرناها لكي تكتب عليها شعارات
الدعاية لقائمة الحزب ومرشحيه في دوائر محافظة البحيرة الثلاث ، والتفت إلينا
قائلاً (والله البتوع دول ينفعوا كفن عال .. ماتديني توب من دول يااد يامجدي) ..
تلقينا مزحته كما نتلقي مزاحه دائماً بالضحك والتعليق ومايلزم
قافية المزاح وانصرف حيث علمنا أنه خرج من عيادة الدكتور سينوت إلي الدلنجات ..
ودار دولاب عملنا في هذا اليوم كمايدور حتي أتي غروب الشمس فكان أن
دخل علينا المناضل الراحل محمود غزاله وهو إبن خالة عبد المجيد الدويل في نفس
الوقت قادماً من الدلنجات غير مرتب الملابس أشعث الشعر ، غير عابئ بعلامات
الإندهاش التي ظهرت علي وجوهنا من هيئته الغريبة ..
وبمجرد أن تخطي عتبة باب صالة الحزب الرئيسية فتح فمه بكلمات باكية
متقطعة كصبي تيتم لتوه ..
- (البركه فيكم
يازملا في عبد المجيد الدويل .. مات من ساعتين .. مافيش حاجه حس بشوية تعب ، راح
لدكتوره ، قاله شوية إرهاق ولازم ترتاح .. وفعلاً روح نام وارتاح .. ارتاح للأبد
يازملا .. العوض علي الله ..)
ألقي محمود علينا قنبلة من الوجم والدهشة ، والصمت الذي يسبق عواصف
الحزن ، ومضي منصرفا إلي الدلنجات دون أن ينتظر من أحدنا رداً ، أو حتي كلمة
استفسار جديدة ..
نظرنا أنا ومجدي شرابية إلي أحدنا الآخر مشدوهين ثم انفجرنا في
بكاء وتعانق مرير ..
- عبد المجيد مات يامجدي؟
-
عبد المجيد مات ياحمدي
وكل من يربت علي ظهر الآخر وهو لايصدق أن عبد المجيد الدويل كان
لايمزح ، وأنه حضر إلينا ليفطر معنا إفطاره الأخير ، ويمزح معنا هذه المزحة التي أدركنا
فيما بعد سخفها وسخف أن تناولناها نحن كمزحة منه ..
يومها رحل أحد أهم أساتذتي وأصدقائي ورفاقي فى الحياة وفي النضال
السياسى، وهو المناضل الراحل الفلاح الفذ .. عبد المجيد الدويل ذلك الإنسان الرائع
الذى لايمكن ان يسقط بأى حال من الأحوال من الذاكرة .
فهو ذلك الفلاح المصرى البسيط الذى لم يكن يحمل أية مؤهلات دراسية
ولم يكن يمتلك أرضا زراعية حين بدأ راعيا للأغنام عند أحد أقرباءه وهو صبى صغير ..
فكان يرعى الغنم وفى يده كتاب يقرأه يقترضه من تلك الكتب التى تكتظ
بها مكتبة مالك الأغنام الذى كان يقرضه الكتب باعتباره أحد أقربائه الأولي بالدعم
، بعد ان تكفل بمحو أميته بناء على الحاح هذا الصبى الذى كان يرعى كل شئون قريبه
المقتدر والذى كان يعمل قاضيا فمستشارا لدولة الكويت تاركاً له غنمه ومكتبته
المكتظة بالكتب المتنوعة بدءاً بالفلسفة والتاريخ مروراً بالسياسة والاقتصاد
إنتهاءً بالقانون ..
وهكذا علم عبد المجيد نفسه بنفسه وثقفها ورباها تربية على أرقى
مايكون ..
كان يقول لى ان سنوات التكوين الأولى قد أرتبطت بما توفر له بيئة
راعى الغنم من قدرة على التأمل ورغبة فى البحث عن إجابات لإسئلة الوجود والحياة
وهو فى خلاء الأراضي العشبية ، وسفوح مايسمونه فى الدلنجات بالجبل .. وهى اراض
جافة لاتمر بها ترع أو مصارف زراعية ، ولاتنبت سوي العشب الموسمي الذي تتغذى عليه
قطعان الأغنام التى كان يرعاها الصبي عبد المجيد لحساب قريبه المستشار ...
كان يتأبط عصاته تحت ذراع وتحت الزراع الآخر كان كتابه الذي أعده
للقراءة ، وماأن يجد العشب الصالح لمرعى الأغنام ، ويجد ظلال الشجرة التي سيجلس
تحتها حتى يبدأ القراءة بنهم شديد ..
كان عبد المجيد الدويل يقيم في قرية (زهور الأمراء ) التابعة لمركز
الدلنجات وكان أسمها المتداول عند أغلب العامة في الدلنجات هو (قبور الأمراء) قبل
أن يتحول اسمها الى (زهور الأمراء ) بعد أن لمع أسم أحد أبنائها (المشير عبد
الحليم أبو غزالة) الذي شغل منصب وزير الدفاع طوال حقبة الثمانينيات ..
تعلق عبد المجيد بصوت عبد الناصر وتابع احداث المرحلة الناصرية
وعرف طريق فاعليات منظمة الشباب والاتحاد الاشتراكى .. فكانت القيادات السياسية
بالدلنجات وسائر محافظة البحيرة تندهش لقدرة هذا الفلاح البسيط على مناقشة الأمور السياسية
ومباراته للمثقفين وأصحاب الفكر فى المناقشات وطرح الأسئلة الجوهرية حول الواقع ..
وكان ان طور ثقافته تطويرا منطقيا نتيجة لتلك التجربة فذهب الى الاقتناع
بانه لاتوجد اشتراكية بدون اشتراكيين ولايوجد اشتراكيين بدون نظرية اشتراكية
فاعتنق الماركسية اللينينية وعرف العمل السرى فقد شارك فى تأسيس الحزب الشيوعى
المصرى ( رحل وهو عضو المكتب السياسى للحزب الشيوعى المصرى ) ..
وكان قد شارك أيضا فى تأسيس حزب التجمع مع خالد محيى الدين ضمن من
سارعوا بالمشاركة فى تأسيس التجمع من محافظة البحيرة مثل سينوت حنا ومحمد المصرى
وسمير بسيونى وعبد المجيد احمد ومجدى شرابية ومحمد هبة الله والقيادى العمالى محمد
متولى الشعراوى وفؤاد العتال وتيسير عثمان وسيد ابو زيد ، وسعد قنديل، وعليوعبد
الحفيظ ، وفاروق الحديني ، ومحمد الشامى ، وحمدي عقده ، وفاروق صقر ، وأحمد قمره ،
ومحمد المغازي ، وعبد العزيز سلامه ، وزهدي الشامي الذي شغل موقع أول أمين لشباب
التجمع بالبحيرة ، وغيرهم من مناضلى ورموز اليسار فى البحيرة ..
وانتخب عبد المجيد الدويل عضوا بأول أمانة عامة للحزب ...
ثم قام بتأسيس أول إتحاد للفلاحين فى مصر بالمشاركة مع شاهنده مقلد
والمرحوم عريان نصيف ومحمد عراقى ومحمد رجب وغيرهم من القيادات الفلاحية التى تصدت
للنضال ضد الهجمة الشرسة التى كانت قوى الثورة المضادة بقيادة السادات قد شنتها
على الفلاحين والعمال لانتزاع المكاسب التى تحققت لهم فى الفترة الناصرية ...
هذا الفلاح الرائع .. كان استاذى ، وكنت اشعر بالفخر لأنه اتخذ منى
صديقا ، وبعد ان ضمتنا رفاقية العمل السياسى السرى فى عهد السادات وأوائل حكم
مبارك ...
علمنى الكثير على المستوى النضالى .. فقد كان يشدد على ان المناضل
الثورى الحقيقى يجب ان يكون بعيدا عن المظهرية والتفاخر بنضاله ...لدرجة انه كان
يسخر من الرفاق الذين يتحدثون عن فترات اعتقالهم فهو كان يعتبر ان المناضل الحق
يبذل التضحية ولايتحدث عنها باعتبار ان التضحية لايجب ان يكون لها ثمن حتى لو كان
هذا الثمن هو لحظات من الإعجاب للمستمع لحكاية الرفيق عن سجنه ...
كان ينهر الرفيق ويقول - تعقيبا على مايراه تفاخرا بفترة الحبس -
ان هذا الزميل لم يكن فى الحقيقة سوى مهمل فى واجبات الأمان وان المهارة الحقيقية
هى ألا تعطى الفرصة للسلطة لكى تلقى القبض عليك فنفتقد جهودك ونغرق فى مهام متابعة
الزملاء المحبوسين ...
كان يقول ذلك بمرح مقبول ولم يكن أحد يغضب منه .. لأنهم يعرفون انه
كان على استعداد كامل للتضحية بحياته من أجل أى رفيق له ... كان ينتقد الزملاء بحب
حقيقى ويمتدحهم فور انتهاء النقد مباشرة ...
كان يكره استخدام المصطلحات وإعطاء التنظير مساحة على حساب النفاذ
الى الواقع ...
وكان فوق ذلك إنسانا رائعا وراقيا بمعنى الكلمة .. كان فى أشد
الأيام وأحلكها هو الوحيد القادر على وضع الابتسامة على وجوهنا عندما كان يسخر من
الواقع المؤلم ويحوله الى نكات ...
كنت أعامله كأبى لاحظ ذلك وقال لى ذات يوم ( .. ماينفعش كده .. مش
عاوزك تبقى مؤدب معايا للدرجادى ... اعتبرني أخوك الكبير ... سيبك من الأدب
البرجوازى اللى انت فيه ده )
تقاربنا جدا أصبحت أقول له يا أبو نادر كماطلب منى ان أناديه أما أنا
فكان ينادينى ب ( يا اد ياحمدى ) وأحيانا ( ياسى يوسف ) طبقا لاسمى الحركى وقتها -
وبنوع من الفكاهة التى كانت محببة الى قلبى .... وأحيانا ( ياااد يابن عبد العزيز
) ...
كان يستدعينى الى بلدته حين يحصل على شريط كاسيت جديد لفيروز ..
لنجلس فى ( المقعد ) وهو عبارة حجرة واحدة مقامة فوق الزاوية المواجهة للبراح على
سطح بيته فى قريته التابعة لمركز الدلنجات بالبحيرة ..
كان إذا لم ينادينى ب ( ياااد ياحمدى ) أو أحد الألقاب التى ذكرتها
قبلا كنت وقتها أعرف انه غير راض عنى .. ولا يهدألى بال حتى يرضى عنى ..
أتذكر يوم رحيله كيف كان سينوت حنا الرجل الوقور الصلب يبكى
كالأطفال ، ومجدى شرابية يخبط كفا على كف وينتحب وينعى خسارتنا ..
.. تيسير عثمان وصل الى الدلنجات فى حالة انهيار تام ..
،المرحومين سعد قنديل وعلى عبد الحفيظ كانا كالصبيين اليتيمين
يجهران بالبكاء ويمسحان دموعهما بأكمام جلبابهما وعبد المجيد احمد المناضل العمالى
البارز والهادئ دائما والمتعقل كان يومها طفلا غلبه البكاء ..
... كان عمود خيمتنا الذى وقع فجأة ...
فوقعنا جميعاً فى بئر سحيق من الحزن والمرارة والإحساس الشديد
بالفقد ..
كانت جنازته نموذجاً الجنازات المهيبة ، في مقدار الحزن وكثافة
المودعين لجسده الذي تعب فقرر أن يستريح ليمضي إلي القبر ملفوفاً بعلم مصر (بمعرفة
أهل الدلنجات)
يومها كنا ندرك قيمة عبد المجيد الدويل في مركز الدلنجات ومدي
جماهيريته وشعبيته هناك ، لدرجة أننا قد وضعنا كل آمال حصولنا علي مقعد في البحيرة
عليه ، وكانت كل التوقعات تشير إلي ذلك .. لكننا لم نتوقع أن تزحف كامل عائلات قري
الدلنجات ، وكافة شبابها ، لدرجة حضور كافة المسئولين الحكوميين والإداريين
إحتراماً لمشاعر الجماهير هناك ..
خالد محيى الدين عندما علم بالوفاة حضر الى قبره ووقف باكيا ، وقرأ
له الفاتحة ... ثم التفت إلينا بتأثر بالغ .. وحكي كيف طلب جوركي أن توضع على
النعش نيابة عنه باقة ورد كتب عليها (وداعاً يا صديقي)
إلتفت خالد محي الدين للرفاق عند قبر عبد الجيد وروي لهم عبارة
جوركي التي صاحبت باقة وروده
ثم نظر إلي حيث يرقد عبد المجيد الدويل وكرر له وحده
(وداعاً ياصديقي ..)
رحمه الله .. وحفظ أولاده .. ومحبيه .. ورفاقه الذين على قيد
الحياة ..
-----------------------------
0 تعليقات