آخر الأخبار

خرابيش فلسفة: مسرحية الفلسفة القديمة ... مشهد الختام (1)

 

 



 

د. وسام الدين محمد

الثاني من ذي القعدة 1442 هـ

الأول من يوليو 2021م

 

 

 

خاض العديد من الباحثين في تاريخ الفلسفة القديمة، وقد خالف بعضهم بعضًا فيما انتهوا إليه من نتائج، فربما تجد باحث ينعت فلسفة ما بأنها مادية صرفه، وآخر يؤكد على أنها مثالية محضة، فهل نحن حقًا فهمنا الفلسفة القديمة على وجه الدقة التي تسمح لنا بأن نحكم عليها وعلى أعلامها وأفكارهم بيقين؟ إن بحث هذه المسألة يبدو خير ختام لتاريخ الفلسفة القديمة، ولكن بحثها يستوجب الإجابة على عدد من الأسئلة التي تدور حول البيئة التي نشئت فيه الفلسفة القديمة وسبل بلوغها لنا.

 

مشكلة اللغة

 

نستخدم كثيرًا مصطلح اللغة الميتة لوصف تلك اللغات التي لم يعد هناك من يستخدمها. في الحقيقة فإن اللغات التي ماتت بالفعل محدودة العدد، بينما كثير مما يوصف بأنه لغات ميته لم يمت بقدر ما تفكك، وأعيد تشكيله وبناءه، فأهمل منه الصعب وما لم يعد يدل على شيء، وأحلت ألفاظ مكان أخرى، وبسطت تراكيبه، واستعار من اللغات الأخرى ما استعار، أو ربما اندمج في لغة أو لغات، فنتج في النهاية لغة جديدة انحدرت من اللغة التي اعتبرناها ميتة. فالفرنسية اليوم قد انحدرت من اللاتينية القديمة، التي تحورت وفقدت معالمها واندمجت مع لغات الفرانك والبورجون والنورمان لتنتج الفرنسية، بينما اندمج ما بقي من اللاتينية مع لغات اللومبارد والتوسكاني والرومانش لينتج عن هذا الخليط الإيطالية. وباستثناء اللغة العربية، التي حفظها القرآن الكريم، فإنه لا توجد في القرون الخمسة عشر الأخيرة لغة إلا وقد تولدت من لغات أخرى سابقة عليها واختفت اليوم.

 

ويمثل تطور اللغات المشكلة الرئيسة عند دراسة الفلسفة القديمة بالذات، فنحن إذ نقرأ محاورات أفلاطون مثلًا، فإننا نقرأ نص كتب بلغة انقطعت علاقتنا بها اليوم من ناحية، ومن ناحية أخرى، بفرض أن النص الذي بلغنا هو نص أفلاطون حقًا، فإن هذا النص ابن بيئته التي تغيرت واختلفت عن بيئته اليوم. فاللغة القديمة التي دونت بها الفلسفة القديمة، اليونانية والآسيوية، قد جرت عليها سنن اللغات، وتغيرت وتبدلت، فاللغة اليونانية التي كتب بها أفلاطون ما القرن الخامس قبل الميلاد، ليست نفسها تلك اليونانية التي استخدمت في الإسكندرية في القرن الأول من الميلاد، بل أزعم أن السكندريين في هذه الفترة ما كانوا ليفهموا يونانية عصر أفلاطون إلا بعناء شديد.

 

إن الدافع الرئيس وراء تطور أي لغة، هو عجزها عن نقل أفكار من يتكلم بها بدقة ووضوح، فاللغات القديمة في عصورها الأولى أشبه ما تكون بلغة طفل حديث الكلام، لا تزال مبهمة، وقد يفهم منها غير مراد قائلها، وقد أثر ذلك في فهم الفلسفة القديمة، فبينما الفهم يحتاج تحديد المفاهيم تحديدًا دقيقًا، نجد اللغات القديمة عاجزة عن ذلك. مثال ذلك فعل (دوكسا)، في اليونانية القديمة، والذي يعني (كشف ما هو مجهول)، كما يعني (إبداء الشكل السطحي)، ويعني أيضًا (يفكر)، هذا اللفظ نفسه استخدمه افلاطون في محاورة جورجياس ليشير به إلى المظهر الخادع للأشياء، وفي معرض تناوله لنظريته عن المثل استخدم دوكسا إشارة إلى الجهل الذي يمنع من المعرفة، في حين نجد أن تلميذه أرسطو يستخدم مصطلح دوكسا بصورة ايجابية إشارة إلى الممارسة العملية الممهدة للمعرفة.

 

وفي العصر الحديث، أعيد بناء العديد من اللغات القديمة بغية قراءه ما خلفته الحضارات التي تكلمت هذه اللغات، ولعل ما قام به الفرنسي شامبليون من جهود في فكر رموز حجر رشيد مثال على المنهج الذي اتبعه الباحثين في إعادة بناء لغة قديمة ميتة، إذا قارن ما بين النص الهيروغليفي والنص اليوناني فوق الحجر، ليخمن المعاني والأصوات، ولكن تبقى اللغات المعاد بناءها محض ظن، وهناك مثال آخر يؤكد هذا، فقد قام اللغوي الآيرلندي روبرت تشارلز في القرن التاسع عشر بإعادة بناء اللغة الجعزية بترجمة مجموعة من المخطوطات الدينية الإثيوبية التي كتبت باللغة الجعزية، وهي لغة حبشية استخدمت في الكتابات الدينية، بمقارنتها بنصوص مكتوبة بالآرامية، وقد ظلت ترجمته لهذه النصوص مقبولة من العلماء، حتى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، إذا ثبت أن تشارلز أساء فهم كثير من النصوص التي ترجمها.

 

نخلص مما سبق، أن النصوص التي كتبت باللغات القديمة، الميتة أو التي دَرست، يشوب معانيها كثيرًا من الظن، وهو ما ينطبق على النصوص الفلسفية المختلفة، وهذا السبب نفسه هو ما يجعل هذه النصوص يعاد ترجمتها مرارًا وتكرارًا، إذا يحاول الباحثين دائمًا الوصول بها إلى حالتها الأولى كما وردت عن صاحبها، ولكن هيهات لمثل الأمر أن يتحقق.

 

لكم تحياتي

 

إرسال تعليق

0 تعليقات