د. وسام محمد عبده
ثاني أيام عيد الأضحية المبارك 1443هـ
قبل اختراع الانترنت
وما تبع ذلك من شيوع شبكات الاتصال الاجتماعي، كان المجتمع الثقافي العربي منقسم
إلى طبقات ثلاث:
الأولى الطبقة المرضي
عنها – تلك الطبقة التي نعتها الفيلسوف اليساري جرامشي بالمثقفين العضويين – وهي
التي تفتح لها على الغارب أبواب مؤسسات الاتصال الجماهيري المملوكة من الدولة
وتمنح بركات ((أبانا)) القابع في الظلام، والحق يقال أن في هذا الزمان، زمان خيانة
المثقفين الجميل، كان هؤلاء المثقفين العضويين يملكون أدوات الإنتاج الفكري حتى
ولو كان إنتاجًا فكريًا لم يرد به وجه الحق وموجه ومستخدم، وعلى أي حال كان هؤلاء
يقرون بأنهم مثقفي النخبة، وبالتالي فإنهم – من احدى وجهات النظر – لم يخونوا
أنفسهم بل كانوا متماهين مع ما يمثلوه.
الطبقة الثانية،
المثقفون المجدون، وهؤلاء كان فريق كبير منهم موهوب وحر الضمير والقلم، وظل يطرق
الأبواب يحاول أن يوصل كلمته إلى الجماهير، فتفتح مرة، وتغلق مرات، ومنهم كان ((أبانا))
يختار من يرى أنه على استعداد أن يبيع روحه ليرتقي به إلى طبقة المرضي عنهم، ومنهم
من كان يركله ((أبانا)) حتى عن هذا الطبقة إن شم منه رائحة استقلال وكرامة، فيسقط
إلى الطبقة الثالثة طبقة الثقافة المضادة. أما هؤلاء الذين ظلوا بين بين، ففي أغلب
الأحوال بقي إنتاجهم الثقافي رهنًا بحكم الجمهور والزمان.
الطبقة الثالثة، أهل
الثقافة المضادة، وهم الذين اكتشفوا أن ((أبانا)) ليس إلا دجال، جنته جحيم وجحيمه
جنة، رضاه مذله وغضبته شهادة بالكرامة لمن غضب عليه، وكان إبداعهم حرًا مستقلًا،
عبروا عن ضمير البسطاء والمستضعفين، ومن مضى منهم بقي إبداعه، حتى لو أننا اختلفنا
في تقدير إبداعه، فحسبه أن لم يخن وكان صوت حر زاعق في برية الخاضعين.
أما جمهور الثقافة...
كانت الثقافة في هذا
الزمن مكلفة، وكان جمهورها في هذا الوقت من المريدين والدراويش الحقيقيين، هؤلاء
الذين كانوا على استعداد أن يرضوا بوجبة في اليوم نظير أن يشتروا بثمن وجبتين كتاب
جيد أو يحضروا عرضًا مسرحيًا ذكيًا. لم تكن هذه الكلفة المادية أداة فرز اجتماعي
واقتصادي، بل كانت أداة امتحان للمؤمن الحقيق.
ثم جاء زمان الأنترنت.
للحق، صنع الأنترنت
ثورة في عالم الثقافة، وأصبح لأي مبدع في أي مجال فرصة لعرض إبداعه مباشرة على
الجمهور، دون وجود وسيط أو رقيب، كما أصبح لأي من كان فرصة للوصول إلى مواد ثقافية
متنوعة دون قيد أو شرط. كان هذا الأمر ظاهره رحمة، وباطنه عذاب، فسرعان ما احتشد
على الانترنت أخلاط متضاربة، الأصيل والمزيف، المبدع والمعتوه، وأستوى من يطلب
الإصلاح مع خريج عنبر مجانين الشهرة والعظمة. أما الجمهور، فقد أصبح قطاع كبير منه
يتناول مادة الثقافة لأسباب لا تمت بصلة للثقافة، بعض المصابين بفوران هرموني سوف
تجدهم في حضرة أي إمراء يهنئون ويبايعون لا لشيء إلا أنها امرأة (من المضحكات
المبكيات، رأيت أحدهم أعرف عنه أنه لا يعرف أي لغة أجنبية يعلق على تغريدة لسيدة
باللغة الفرنسية كاتبًا رأي يستحق الاحترام، ولما سألته هل تعرف اللغة الفرنسية؟
رد بمنتهى اللزوجة: لا لكن لازم أحي الموززة، ولو حكيت ما شهدت في هذا الباب
لاحتجت مجلدات أضع لها عنوان حوليات سيمبات زمان الانترنت)، البعض الآخر ضربه هبل
العظمة، فهو حاضر في كل عرس يعزي وفي كل جنازة يبارك ويهنئ، لقد منحنا الأنترنت
عصر جديدًا للثقافة، لا تلوثه خيانات المثقفين، ولكن تسوده رذالة مدعي الثقافة.
ورذالة مثقفي
الأنترنت لها معالم واضحة وثابتة، وكأنهم قد تعاقدوا عليها، فالمثقف الرذيل تجده
يتنقل على الأنترنت من موقع إلى آخر حاملًا جعبة من القوالب المحفوظة من عينة
الحداثة والليبرالية يطرشها علي مستمعيه بسبب وغير سبب، ولو سألته ما تعريفه لأي
من هذا القوالب لن يرد، وإن رد، كان رده شتم وعنجهية وفي النهاية تدرك أنه لا يعرف
ما يتكلم عنه. مثقف الأنترنت الرذيل، مثقف منزوع السلاح لا خطر منه، لا يملك
منهجية لإنتاج الأفكار واختبارها، هو ببغاء يكرر ما يلقى على مسامعه دون أن يخضعه
للنقد، لأنه ببساطة لا يملك هذه الملكة ولا يستخدمها. ولأن مثقفي عصر الرذالة مصابين
بالشيزوفرانيا، فهم يدعمون الأمر وضده، ما دام في مصلحتهم. كما أنهم فرعونيين
بامتياز، ليس بمعنى إنهم يحبون الحضارة المصرية القديمة، ولكن بمعنى أن كل منهم
فرعون يزعم إنه ما يرينا إلا ما يرى وما يهدينا إلا سبيل الرشاد، فإن لم تسلم له
فتح عليك رشاش الشتم والسب، ولكل فرعون منهم شخص أو فكرة أتخذها صنمه فهو لا يرضى
أن ينقد صنمه شخص عن باطل أو عن حق، وفي كل الأحوال عصا الشتم والسب مرفوعة لمن
عصيه.
لا تزال الطبقات
الثلاث الموروثة من عصر خيانات المثقفين موجودة وفاعلة، ولكن أصبح عندنا طبقة
رابعة مهيمنة، طبقة المثقف الدعي الرذيل، وهذا العصر حقًا عصر المثقف الدعي الرذيل.
0 تعليقات