آخر الأخبار

من القبيلة إلى القبلة




من القبيلة إلى القبلة 1/1







محمود جابر

انشغل المسلمون ردحا من الزمان بشخوص الذين اشتركوا فى الهجرة من مكة إلى المدينة، سواء مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو وحدهم منفردين ...
وجرى فى هذا الخصوص استقطابات عديدة، ولعل هذه المعركة ما زالت حامية الوطيس حتى الآن !!
والاستقطاب والعصبية وزعم البعض بأنه يدافع عن الدين، ومن هنا فقد البعض البوصلة ودخل فى تيه عجيب غريب لم تستطع الأمة أن تكتشف الاتجاه المعرفى فى عملية التحول فى الاجتماع الإنساني، وإعادة اكتشاف منظومة علاقات جديدة ومبتكرة لم تكن موجودة قبل الإسلام، ولا حتى عرفتها البشرية، لم نستطع إلا بشكل هامشي قراءة المنهج العلمي لعملية دولة المدينة وكيف نقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جمهور أو شعب المدينة ومن حولها من المؤمنين والمسلمين واليهود وحلفاءه وغيرهم من (القبيلة) إلى (القبلة) ...
القبيلة كانت تعنى ولاءات متعددة، وحكم وفق الهوى، وصراع بدون منطق وبدون عقل، وكبر الكبير على الصغير، ووثوب الغنى على ظهور من هم دونه ...
النبي صلى الله عليه وآله جعل المدينة " دولة" بكل ما تعنى الكلمة من معنى مباشر أو غير مباشر، هذه الدولة تتمتع بولاء أهلها وسكانها، وكان لهذه الدولة ولاة وأمراء ، وجرى فيها عملية تنظيمية للشئون الاجتماعية والاقتصادية والجنائية والحربية، هى السلطة الجديدة قامت باسم المجتمع الذين يدين لها بالولاء بمقاتلة أعدائها، بل هددت معاقل القوى الكبرى التي تربصت بها، واعتبرت نفسها بديلا يقف على النقيض من كل ما كان سائدا قبلها ...
هذه الحقيقة هى حقيقة تنظيمية واجتماعية واقتصادية، إضفاء الخيال المقدس عليها جعلنا لا نفكر فيها بشيء من العلمية والمنهج العلمي وجعلها تجربة مفارقة عن الاجتماع الإسلامي الذي تلا بعدها، فلم تتماس العديد من التجارب الإسلامية بتجربة المدينة، ولم يعتبرها المسلمون نموذجا استرشاديا يجب محاكاته أو على الأقل التعلم منه .

المؤاخاة :
ومما لا شك فيه أن بعض الإجراءات التي ابتكرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى ما كان منها ظرفيا ومؤقتا، قد أحدث تغييرا فى المجتمع العربي القديم، وأثر من ثم فى مواقفه السياسية والاجتماعية، لذا فقد مثل نظام " المؤاخاة" المؤقت، الذي عقده النبي صلى الله عليه وآله بين المهاجرين والأنصار فى المجتمع الجديد بالمدينة ضربة فى الصميم الأساسي الذي تقوم عليه الروابط التقليدية، والقائم على لحمة الدم والقبيلة، ومن ثم حل " تآلف" القبلة محل تآلف القبيلة، تآلف القبلة بين المتآخين فى المجتمع الجديد حل محل " الأحلاف" التي كانت تسود العلاقة بين القبائل، بعضها ضد بعض. بل نجد في إحدى وثائق العهد النبوي موقفا صارما من هذه الأحلاف، ودعوة إلى الامتثال لأوامر " الدولة المركزية" الجديدة، إذ نرى رسول الله صلى الله عليه وآله يأمر عامله على بنى الحارث بن كعب أن وجد بين الناس هيج، أن ينتهي عن الدعاء إلى القبائل والعشائر، وليكن دعواهم إلى الله وحده لا شريك له، ومن دعا إلى القبائل والعشائر فليُقتفوا بالسيف، حتى يكون دعواهم إلى الله وحده لا شريك له..
وهذا يعكس دون شك الرغبة في إحلال السلطة المركزية كشخصية معنوية اعتبارية، محل التحاكم إلى النعرات القبلية " الجاهلية " . لان الدولة الفتية تشكل بديلا يجب أن يلجأ إليه الجميع فى كل القضايا والنزاعات التى تدور بينهم، وهى الحكم فى كل ما (شجر" بينهم)، وهذا هو المقصد من التأكيد على وجوب الرجوع إلى الله وإلى الرسول أو من يقيمه الرسول فى أي قضية أو معركة .

مركزية الدولة :

توحيد الأمة أو الشعب يتطلب أن يكون هناك سلطة واحدة عليا، لها الكلمة الفصل وهى من تأمر وتنهى، وهى من تقرر خوض الحرب، أو الدعوة إلى السلام، وهى من تقرر من نحارب، ومتى نحارب ولماذا نحارب .. ولابد أن يكون ولاء الجميع لهذه الدولة ولاء كليا جامعا غير منقوص، وهذا الولاء يترجم فى شخص المنظر والحاكم والمخطط والمؤسس وهو رسول الله صلى الله عليه وآله، باعتباره هو المرجعية فى الخصومة والتحاكم والتنازع .
ويجدر بنا أن نشير فى هذا الخصوص إلى أهمية وجود دولة قوية قادرة على أنفذ إرادتها على كل أقاليمها وعمالها والتابعين لها وان يكون لدى هذه الدولة القدرة على إرهاب أعدائها والمتربصين بها وهزيمتهم إن اقتضى الأمر للمواجهة العسكرية أو أي مواجهة وهذا الأمر يتطلب دولة مركزية قوية حتى مع وجود الأقاليم المستقلة أو ما سماه دستور المدينة " الربعات " - مفرد ربعة - أي محل أو حي أو مربع أو جهة .
فتقسيم الدولة إلى أقاليم قصد منه تسهيل وتيسير العمل وليس تقسيم الدولة بين سكانها كغنيمة، فالدولة المركزية هى القوة الوحيدة التى لها الكلمة الفصل فى السلم والحرب والفصل بين الخصوم وتحديد السياسات العامة .


التنمية وإصلاح شئون الناس :


الدولة القوية ووفقا للنموذج الذي نعيد تفسيره أو قراءته وهى " دولة المدينة" بدأ النبي عملية التخطيط لهذه الدولة الجديدة بثورة اجتماعية شاملة، أحدثت خلخلة في النظام الاجتماعي القديم، وهو نظام الرق، فكان التخطيط قائما منذ اللحظة الأولى من مكة بهدم هذا النمط الاجتماعي الاقتصادي، وإعلان الحرب علي، وقد جعل تحرير الرقاب كفارة للمواطن من بعض صغائر الذنوب، والأخطاء التي تتكرر بشكل يومي فى حياة البعض، وجعل للرقيق حق " المكاتبة " لاسترداد حريته، وجعل من مصارف بيت المال - وزارة المالية - تحرير العبيد، ولو أن المسلمين تابعوا هذا المنهج للنموذج الاسترشادي؛ اعتقد أن قضية بقاء العبيد كجزء من الاجتماع العربي الإسلامي كانت ستنتهي في خلال أقل من قرن من الزمان على الأكثر، إلى غير رجعة.


- الهجرة " من القبيلة الى القبلة"


الهجرة كانت واجبا عينيا لا يجوز التخلف عنه، وهذا المصطلح " أصبح محملا بأبعاد سياسية واضحة، فرغم ارتباط سكان الحواضر والبوادي، على السواء، بروابط الدم المتحكمة وعلائق اقتصادية سائدة، تربطهم بالقبيلة أو العشيرة ، إلا أن المسلم بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله أصبح ملزما بـ " الهجرة" إلى المجتمع الجديد أو البديل، وملتزما أيضا بالدفاع عنه هذا الكيان البديل حتى ضد عشيرته أو قبيلته، كما أصبح اعتناق الإسلام لا يعنى شيئا بالنسبة لمن قعد عن الهجرة وتعجل بها .
ولعل فى هذا ما يلقى الضوء على ذلك التقابل الذي تسجله بعض الأحاديث بين مفهومي " المهاجر " و " الأعرابي" ، أو " الهجرة " و " التعرب"، حيث اعتبرها النبي من الكبائر قال صلى الله عليه وآله " التعرب بعد الهجرة ".
والمفهومان لا يُدركان إلا فى مجالهما السياسي: فلا تعنى الهجرة أكثر من الالتزام العملي بمنطوق العقيدة الجديدة، إذ يتطلب الأمر الالتحاق بالمركز الذى يشهد تشكيل المجتمع الجديد، قصد الإسهام فى الدفاع عنه ضد كل القوى المحيط، داخليا وخارجيا. من هنا ندرك الاهتمام النص القرآني والحديثى بالهجرة فى النصوص التأسيسية، مخاطبة كل من آثر السلامة وفضل الاستقرار على المخاطرة ولالتحاق بـ " الدولة الجديدة".
والأعراب هناك كمصطلح كانوا الأكثر حفاظا على العادات القبلية ووشائج الدم والعصبية، وأشد رفضا للخضوع إلى السلطة المركزية الجديدة مفضلين سلطة لعشيرة على السلطة الواحدة، حتى لا يقدموا ما يجب عليهم من التزام مالي وعسكري ونحوه ، من هنا نفهم علة النصوص الطافحة بالنقد لهذه الحالة، إلى درجة نزع الإيمان عنها لأنها مفارقة للنموذج البديل .
فلإيمان لا يترجم فى الظروف الحرجة لا بالالتزام العملي للدفاع عن الكيان، وهذا لا يحصل إلا بالمبادرات والولاء الكامل، ولا يثبت هذا إلا بالهجرة وما يقتضيها .
ونظرا لدقة الظرفية السياسية والاجتماعية فقد عُد من " تعرب" من جديد، بعد هجرته، كالمرتد سواء بسوء!
اعتبارا للتأثير السياسي والعسكري والأمني الذي يمكن أن يحدثه هذا " التعرب" وقد أولى النبي اهتماما بالغا للهجرة إلى الدرجة التي جعلت المسلمين يتوارثون بالهجرة والمؤاخاة ، فى المقابل فإن الأعرابي [ المسلم ] لا يرث من أخيه المهاجر شيء.
من هنا ندرك قول النبي بعد فتح مكة وفى خطبة الوداع يقول " لا هجرة بعد الفتح" لان الهجرة كانت تعنى قيام دولة تحتاج من يناصرها فى مواجهة أعدائها والولاء كل الولاء لمن يهاجر ويخضع للسلطة، وبما أن الخطر قد زال فلا حاجة لإثبات هذا الولاء من جديد .


وللحديث بقية ...



إرسال تعليق

0 تعليقات