مازال يعيش المسلمون على وهم أن الماضي خير من الحاضر والمستقبل، وأن نهضة الأمة تتوقف عند الأخذ من السلف الصالح، بالأحاديث المنسوبة إليهم ثم رفعها إلى النبي، وهي أحاديث كثير منها يخالف النص القرآني والسلوك النبوي، ويستندون فيها لحديث يخالف الفطرة ويخالف منهج النبوة، ففي صحيحي البخاري ومسلم، حديث منسوب إلى النبي يقول فيه :"خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذي يلونهم"، أي أن الثلاثمائة عام منذ بداية الدعوة الإسلامية هي الفترة، التي يجب على المسلمين إتباعها، معتبرين أن القرن هو مائة عام، وأن خير القرون القرن الأول ثم ضعفت الأمة قليلا في القرن الثاني ثم في القرن الثالث، ومن ثمّ يتدهور الزمن بالمسلمين، وهو أمر ينافي التطور البشري وحدوث تقلبات اجتماعية، تشهد لأمة من الأمم بفترات ازدهار يعقبها فترات تدهور ثم ازدهار، وهكذا، ومن غير الطبيعي أن يظل شعب من الشعوب تتدهور حالته الإيمانية فضلا عن السياسية والاقتصادية، طالما ابتعدت عن بؤرة الإيمان والدعوة، والتاريخ الإسلامي نفسه يشهد على خلاف ذلك، فقد ازدهرت الحضارة الإسلامية بعد القرون الثلاثة، شهدت انتصارات وانكسارات، أخذت بأسباب الحضارة العقلية فتفوقت، ثم تدهور بها الحال فتمزقت، ثم ظهرت حركات التحرر في العصر الحديث، ثم انتكست للأفكار الوهابية الرجعية، ونبت فيها داعش وأخواتها، فنشاهدها اليوم، تحاول تقديس الماضي، لأنه مجرد ماضي، ثم تضفي القداسة عليه، وتعتبر إحياء الخلافة هو النموذج الأوحد لماضي النهضة والتفوق، وهو السبيل الوحيد للنهضة المعاصرة، وجميعها تؤخر وتضر ولا تنفع في شئ، وكله بسبب حديث غير صحيح، يصدح به الخطباء على المنابر وفي الفضائيات، وينشروه في الكتيبات يغزون به العقول ويهلكون به الحرث والنسل.
الملاحظ أنه في القرن الأول الهجري شهدت أمة المسلمين أخطر الحروب الأهلية، قُتل فيها مئات الآلاف، في الحروب التي زعموا أنها ضد المرتدين، وحروبي "الجمل وصفين" الأهليتين، ولقد تم هدم الكعبة المشرفة مرتين في العصر الأموي، وتم قتل وصلب الصحابي "عبد الله بن الزبير" داخل الحرم المكي، وقام الأمويون بعملية إفناء وإهلاك النسل النبوي في مذبحة كربلاء، وغزو بلاد خلق الله باسم الفتوحات، بما فيها السبي والرق والقتل، فالقرن الأول الهجري لم يكن أفضل القرون، باستثناء الفترة النبوية في المدينة المنورة لمدة عشر سنوات، هي فترة وجود الرسول قائدا للأمة والدولة تحت ظلال الوحي الإلهي، وما حدث بعده ينفي أي فضل للمسلمين.
كما أن حديث فضل القرون الثلاثة، يختلف مع حديث آخر نراه يتفق مع الفضل الإلهي القرآني لكل الأمم، خاصة الأمة الإسلامية، وهو حديث موجود في سنن في الترمذي، يقول : "مثل أمّتي مثل المطر لا يُدرى أوّله خير أم آخره"، إذن الفضل لا يعود للقرب أو البعد من الفترة السلفية، كما يروي شيوخ المسلمين، والأمة مثل المطر فعلا، قد يكون الآخر خير من الأول، والآخرون أفضل من السابقين، وهو ما حدث كثيرا في تاريخ المسلمين الممتد.. هذا فضلا عن أن القرن ليس مائة عام كما راج، لأن القرن في بعض معانيه اللغوية، هو أهل عصر واحد، والقرن هو الجيل أيضا، وفي القرآن الكريم جاء اسم "قرن" و"قرون" بمعنى الأمة أو الجماعة، ففي سورة الأنعام|6 "الم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم" فالقرن هنا هم أمة سابقة، وليس مائة عام، وهو ما تكرر كثيرا، في سورة مريم|74 "وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا"، وأيضا في سورة مريم|98 "وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من احد أو تسمع لهم ركزا"، وفي سورة المؤمنون|31 " ثم أنشانا من بعدهم قرنا آخرين"، وفي سورة ص|3 " كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص"، وفي سورة ق|36 " وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم اشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص"، وسورة يونس|13 " ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين"، وسورة هود|11 "فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين" وسورة الإسراء|17 "وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا"، وسورة طه|128 " أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات لأولي النهى"، وفي كل تلك الآيات نجد أن القرن هم أمة سابقة، وليس فيها ما يدل على أنها مائة عام أو أقل أو أكثر، وبالتالي فإن حديث "خير القرون" غير صحيح، ولكن المسلمين يعيشون على رائحته، ينظرون للماضي المقدس، في الوقت الذي يحرص فيه القرآن الكريم على حاضر الأمة ومستقبلها، قال تعالى في سورة العنكبوت|20 :"قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدا الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير"، وهي كما نرى دعوة صريحة للاستكشاف المستقبلي في كل عصر وزمن، تمهد الطريق للمستقبل، وغيرها من الآيات القرآنية، التي تدعو للتأمل في الملكوت الأرضي، واستشراف المستقبل دائما، وتحتاج دائما الاجتهاد في الآيات الفقهية الشخصية، والعلمية الدعوية، بحيث يقوم العلماء بتحرير الخطاب الديني بما علق فيه من تفاهات فقهية، أثّرت على عقل الأمة، وجعلته عاجزا عن فهم التطور العلمي الرائع، الذي يقوم به الغرب، الذي نستهلك منتجاته بدون خجل، في ازدواجية إيمانية، وفنقلة بلاغية إعلامية، لا أكير.
عندما تأملنا حديث "خيرون القرون" وجدنا ربما أنه وُضع في العصر العباسي الثاني، الذي بدأ بالخليفة "المتوكل على الله" عام 232 هـ|847 م، وقد تم وضعه حتى يدخل الخليفة المتوكل في "خير القرون"، حيث يصرّح السلفيون الوهابيون أن الخلفاء ثلاثة، أي أفضل الخلفاء ثلاثة، أبو بكر الصدّيق في حروب الردّة، وعمر بن عبد العزيز في رد المظالم، والمتوكل العباسي في إحياء السنة، وهو قول فيه مبالغة، لأن المتوكل بدأ عصره بمذابح دامية للمعتزلة والشيعة، واضطهد كل المسلمين ما عدا الحنابلة أتباع الإمام "أحمد بن حنبل"، وكانت نهاية المتوكل القتل على يد ابنه، والذي صار خليفة من بعده، هو "المنتصر بالله"، والحقيقة أن العصر العباسي الثاني بداية من المتوكل المتعصب، كان مثالا لاضمحلال حضارة وانكماش دولة، فقد كثرت الفتن والصراعات بعد غلبة العنصر التركي في الجيش والقصر منذ عصر الخليفة "المعتصم"، كما شاع تدخل النساء وحاشية القصر في الشئون الإدارية، وقامت ثورة الزنج وثورات العلويين وصراعات الأتراك، وسادت الفوضى والاضطرابات، ثم ضعفت السلطة المركزية للخلافة بضعف الخليفة، فبدأت موجة استقلال الإمارات البعيدة عن السلطة المركزية، وتحولت إلي دويلات مستقلة، فقامت في مصر الدولة الطولونية، ثم من بعدها الإخشيدية، وقامت في المغرب الخلافة الفاطمية، واستولت علي مصر من الإخشيديين، وفي الشرق قامت الدولة الطاهرية في خراسان، ثم ورثتها الدولة الصفارية، وقامت الدولة الزيدية العلوية في طبرستان كما قامت الدولة السامانية وعاصمتها بخاري، أي فشلت الخلافة وانشقت بالفعل، وساد الاضطراب، وكانت النتيجة انهيار الدولة كلها، وبداية الحروب الصليبية، التي دامت مائتي عام(1096 – 1291)، وسقوط بغداد في يد المغول عام 1258 م، انتصر المسلمون في النهاية على التتار والصليبيين، ولكنه انتصار بطئ، كما قال المؤرخ الأمريكي "ويل ديورانت" في موسوعته "قصة الحضارة"، حيث أدى النصر البطئ إلى استنزاف مقدرات الأمة علميا وعمليا، وساد الجهل وانتشرت الخرافات، وتم إغلاق باب الاجتهاد منذ عصر السلطان المملوكي "الظاهر بيبرس"، وكان من الطبيعي العودة للماضي، للفخر أولا والعودة لمنهجه ثانيا، فانتشرت أحاديث كثيرة تقدس السلف، وتجعل قرنه وقرنين بعده أفضل القرون، وهو أمر مريب، عندما لا يحقق شيوخنا التراث بعقل مفتوح وقلب إيماني غير مزيف، وعندها فقط، نعتبر بداية تحرير الخطاب الديني حقيقة واقعة، اللهم قد بلغّنا اللهم فاشهد..
0 تعليقات