كرة القدم
د. محمد ابراهيم بسيونى
كرة القدم رياضة جماعية تُلعب بين فريقين يتكون كل منهما من أحد
عشر لاعباً بكرة مُكوَّرة. يلعب كرة القدم 250 مليون لاعب في أكثر من مائتي دولة
حول العالم، فلذلك تكون الرياضة الأكثر شعبية وانتشاراً في العالم. تُلعب كرة
القدم في ملعب مستطيل الشكل مع مرميين في جانبيه. الهدف من اللعبة هو إحراز
الأهداف بركل الكرة داخل المرمى.
زادت شعبية كرة القدم وأصبحت مبارياتها
احتفالا فى النصف الثاني من القرن العشرين بسبب التليفزيون والتغطية الإعلامية
والمحيط المثير الذي يحيط باللعبة. أصبحت تبسيطا للمسرح الاجتماعي وتناقضاته، وغدا
المستطيل الأخضر ميدانا مصغّرا تنعكس فيه صورة المجتمع الحقيقية من مراوغة
القانون، التحايل، العداء، الدهاء، العنف، الصراع، حبّ الانتماء، وشيء من الإبداع.
وهكذا يشبع المتفرّج لا شعوريا حاجته إلى الشفافية والوضوح، إذ تتبسّط أمامه رمزيا
تعقيدات المجتمع التي تتجاوزه في الواقع. تخلق الكرة، بهذا المعنى، وضوحا مؤقتا
يسعد المتفرّج، فهي مثل الأسطورة تلغي تعقيدات الأفعال الإنسانية وتسبغ عليها
بساطة كلية، وتنفي كلّ ديالكتيكية، وكلّ محاولة للذهاب إلى أبعد ممّا هو مباشر
وملموس. مقارنة بمجال النشاط اليوميّ المبرمج والمقنّن والروتينيّ في غالب
الأحيان، وبعده عن الإثارة والعواطف، ومقارنة بضبابية المجالات السياسية
والاقتصادية، وخصوصية قطاع الثقافة والفنّ وتعاليه. تلعب كرة القدم دور الأسطورة
بالنسبة لجماهير العصر الحاضر، إذ تعوّض للمتفرّجين ذلك الوضوح الذي يفتقدونه في
مجالات الحياة الأخرى، وتصبح بمثابة نور يبزغ في عتمة الواقع، وربّما ذاك هو سرّ
جمعها لعدد أسطوريّ من الأفراد وتحويلهم لفترة معيّنة إلى كتل جماهيرية لم يسبق أن
حدث مثلها في تاريخ البشرية.
فحتى الأديان لم تستطع أن تفعل حيالها
شيئا لأنها أصبحت أكبر الأديان على الإطلاق. لم يردّ الشبّان على فتوى الشيخ
القرضاوي بتحريمها سوى بمزيد من التعلّق. لقد أخذت وظيفة المسرح فغدت شكلا من
أشكال المسرح المعاصر، لكنّه مسرح للطبقات الدنيا في المجتمع. فإن كان الدين
ميتافيزيقا الفقراء، فكرة القدم هي أوبرا الفقراء. يقول عالم الاجتماع فيناي في
كتابه "الرياضة في المجتمع الطبقي" أن كرة القدم"تثبت في الأعماق
مبدأ الواقع لمجتمع يستغلّ نظامه الاقتصادي الضاري الأرواح والأجساد ويغري الناس
بمبدأ الرأسمالية ومنطقها. ولا يكتفي هذا الجنون الاجتماعيّ بزرع بذرة الوعي
الكاذب بل يخلق نمط الإنسان الذي يقوم بحماية الحكام المتسلّطين". ألا يجسّد
حكم المباراة السّلطة المستبدّة في الملعب؟؟.
السلطة المطلقة غير القابلة للنقاش والتي
لا تعترف بأخطائها ولو قدّم لها البرهان الدامغ. ألا يمكن أن تكون الكرة في بعض
الأحيان وسيلة لصرف الجماهير عن حاجاتها الحيوية؟؟. ألا يكون الاهتمام بنادي الكرة
في المدينة أو القرية تعويضا لعدم تمكن الأكثرية من الاهتمام بما يجري في سراديب
السلطة المحلية؟؟. أليس اهتماما بمسموح تعويضا لممنوع؟؟. ألا يجد الناس في الكرة
ما يحلمون أن يجدوه في حياتهم العامة، حرية التعبير، الانحياز العلني لجهة معينة
ثقافية أو سياسية أو دينية. انتخاب رئيس النادي ديمقراطيا، التظاهر في الشارع،
تعددية النوادي، تكافؤ فرص إظهار المواهب، حلم أيّ طفل مهما كان فقيرا أن يصبح
"زيدان" أو "بيكام" أو"ميسي" او "محمد
صلاح"..؟؟. في الكرة مثلا لا يمكن توريث الأبناء ولا يمكن أيضا تغيير قواعد
اللعبة كما نشاء، لكن كلّنا في الكرة همٌّ. ألم ينفق الشاه ملايين الدولارات
لتتأهّل إيران إلى نهائيات كأس العالم؟؟ ألم يفعل صدام حسين المستحيل ليتأهّل
الفريق العراقيّ إلى المونديال في عزّ لهيب الحرب العراقية- الإيرانية؟؟. ألا يكون
التعلّق بكرة القدم هروبا من الواقع؟؟. ألا يكون حنينا إلى اللامعقول والأسطورة؟؟.
لماذا تهتم الأنظمة بلعبة كرة القدم
فى كتاب العبودية الاختيارية للكاتب
الفرنسي إتيان دولا بواسيه تحدث فيه عن الأجيال التى نشأت في أنظمة استبدادية وكيف
ساهم ذلك فى توائمهم مع الفساد والذى نتج عنه ما يعرف بالمواطن المستقر الذى يتحكم
فيه ثلاث عوامل منها كرة القدم فيقول: أما في كرة القدم، فيجد المواطن المستقر
تعويضا له عن أشياء حرم منها في حياته اليومية. إن كرة القدم تنسيه همومه وتحقق له
العدالة التي فقدها خلال ٩٠ دقيقة تخضع هذه اللعبة لقواعد واضحة عادلة تحقق على
الجميع فلماذا تهتم الأنظمة بهذه اللعبة دون غيرها من الأنشطة المفيدة التي تساهم
فى بناء المجتمع؟؟
عندما استضافت إيطاليا كأس العالم عام
١٩٣٤ قال موسوليني ”لم أتصور ان ولاء الايطاليين لهذه اللعبة يفوق ولاءهم لإيطاليا
وأحزابها الوطنية، سنفعل ما بوسعنا لاستضافة البطولة القادمة"، وبالفعل
استضافت ايطاليا البطولة التالية عام ١٩٣٨. وبعد فوز انجلترا بكأس العالم ١٩٦٦ كتب
وزير الاقتصاد روبرت كروسمان : “هذا النصر سيخفف الضغوط على الجنيه الإسترليني
ويحد من عمليات المتاجرة ضده”.. أما رئيس الوزراء هارولد ويلسون فقد نسب الفوز
لصالح حزبه، فقال “لم تكن انجلترا ستفوز بكأس العالم لو بقيت في ظل حكومة العمال”.
وفى عام ١٩٧٠ تألق منتخب البرازيل حيث اجتمعت فيه كوكبة من النجوم مثل بيليه
وريفالينو وتستاو. وحين فاز الفريق بالكأس بكى اللاعب توستاو لحد انه اغمى عليه
فظن الجميع أنها دموع الفرح غير انه اعترف لاحقا بأنها دموع الندم لأنهم بذلك
الفوز ألهوا الشعب وسمحوا للعسكر بتعزيز سلطتهم غير الشرعية الذى حدث فى البلاد.
وفي الأرجنتين حين استولى الجنرالات على
الحكم فعلوا المستحيل لضمان استضافة كأس العالم عام ١٩٧٨ دفعوا من الرشاوى ما وضع
الفريق الأرجنتيني منذ البداية في مجموعة ضعيفة تبعدها عن مواجهة البرازيل. وفي
الأدوار النهائية بدا مؤكدا ان البرازيل ستتأهل للمباراة الختامية بعد تغلبها على
بولندا بنتيجة ٣/صفر كون هذه النتيجة تعني أن على الأرجنتين التغلب على فريق بيرو
القوي بفارق أربعة لصفر كي تتأهل للمباراة النهائية. وفي موقعة تخاذل فيها منتخب
البيرو فازت الأرجنتين ٦ صفر فأقصت بذلك البرازيل وفازت بالكأس على حساب هولندا.
ثم اتضح بعد ذلك ان البنك المركزي الأرجنتيني اشترى تلك المباراة من حكومة البيرو
نظير شطب ٥٠٠ مليون دولار كديون مستحقة عليها، إضافة إلى التهديدات التى وصلت
للاعبي المنتخب الأرجنتيني بالقتل في حال خسروا أمام هولندا.
وفي إحدى البطولات القارية طلبت حكومة
السلفادور من حكومة الهندوراس السماح لها بالفوز بالبطولة، بغرض إلهاء الشعب عن
المشاكل الداخلية بالبلاد، لكن حكومة هندوراس رفضت الطلب وفازت على السلفادور مما
أدى لنشوب معركة حقيقية غزت فيها جيوش السلفادور هندوراس، كطريقة أخرى لإلهاء
الشعب عن تلك المشاكل التى تعانى منها البلاد.
وفي بطولة ١٩٥٠ وصلت البرازيل والأروجواي
للمباراة النهائية وفي الليلة السابقة للمباراة حضر من الاروجواي مسؤول حكومي كبير
طلب الانفراد باللاعبين وفي ذلك الاجتماع شكرهم على الجهد المبذول للوصول للمباراة
النهائية ولكن حذرهم من ان الفوز علي البرازيل سيعرض علاقات البلدين للخطر ويضر
بمصالح الاورجواى. ولكن رغم هذا التحذير ورغم ان جميع النقاد رشحوا البرازيل انتفض
لاعبو الاوروجواي لكرامتهم وفازوا على البرازيل في عقر دارها أمام مئات المتفرجين.
فإذا كانت كرة القدم لها دور كبير فى
نهضة الشعوب فلماذا لا نرى دول العالم المتقدم الذى صعد القمر واخترع التكنولوجيا
وامتد نفوذه فى الشرق والغرب لا يَصْب كل اهتمام حكوماته ورؤسائه بها مثلما تفعل
البلاد العربية بل ينظر إليها كأي نشاط أخر ولا تستحق أن يُنفق عليه ملايين الدولارات
كما تفعل البلاد النامية التى تستنشق الجوع والفقر كل يوم. الإجابة بكل بساطة،
لأنهم يعلمون أنه ليس باللعب تتقدم الشعوب.
وإنما
بالعلم والصحة والصناعة والزراعة وامتلاك السلاح والغذاء والدواء يتقدم شعوبهم
ويبقوا بالمقدمة.
-----
عميد طب المنيا السابق
0 تعليقات