ليلة المذبحة على يد ميليشيا الإخوان
" التدخل الريع"
فجر التاسع والعشرين من رمضان، وبينما كان المعتصمون
السلميون بمحيط ساحة القيادة العامة بالخرطوم ينادون ويهتفون لدولة مدنية، تخرجهم
من جحيم الحكم العسكري/ الإخوانى الذي فُرض عليهم نحو ثلاثين عاماً عجافاً، كانت مليشيا
الجنجويد بقيادة الفريق أول حميدتي يخططان لأمر آخر.
مع تسلل ضوء الفجر إلى خيام المعتصمين، تسلل آلاف
الجنود المنسوبين إلى مليشيا الجنجويد القبلية، التي كان أنشأها الرئيس المعزول
عمر البشير للقضاء على الثورة في دارفور عام 2003، وجندها لارتكاب فظائع يصعب على
الجيش الحكومي النظامي ارتكابها. حينها، شرعت الميليشيات تقتل وتنهب وتحرق القرى
وتغتصب النساء وتسبي الأطفال. وقد منح البشير قائدها محمد حمدان دقلو رتبة فريق
أول رغم إنه لم يلتحق بالكلية العسكرية، بل لم يتلق تعليمياً نظامياً البتة، فقد
كان تاجراً للإبل والحمير، ثم أنضم إلى المليشيا وذاع صيته بناءً على قدرته على
القتل دونما هوادة وفعاليته في تجنيد أبناء القبائل إلى مليشياته التي تحكم قبضتها
على الخرطوم الآن، فيما لا حول ولا قوة للقوات المسلحة السودانية.
القتل غيلة وغدراً..
في فجر “ليلة القدر” التي سمّاها السودانيون “ليلة الغدر”، تسللت إلى ساحة الاعتصام، مليشيا الجنجويد التي أطلق عليها مؤخراً اسم (قوات الدعم السريع) بزيها الرسمي، فيما ارتدي بعض منسوبيها زي الشرطة، بدعم ومساندة ميدانية من مفارز من قوات الأمن التابعة للرئيس المعزول عمر البشير، وبعض المليشيات الإخوانية وكتائب الظل التابعة للحزب الحاكم السابق، ومليشيا رجل الدين المتطرف “عبد الحي يوسف” بحسب مصادر أمنية واستخبارية متطابقة وشهود عيان، فقتلت المعتصمين غيلة وغدراً أمام القيادة العامة لـ(جيشهم الوطني) الذي غض الطرف عن ما حدث من قتل وحرق وضرب وتنكيل وشتائم واغتصاب (حالتان موثقتان).
قشة البرهان التي قصمت ظهر الثورة
كانت المفاوضات جارية على قدمين وساقين بين قوى إعلان
الحرية والتغيير والمجلس العسكري الانتقالي، واتفق الجانبان على 90 بالمائة من
القضايا التي كانا مختلفين عليها، وتبقى القليل جداً، ليصلا إلى تشكيل حكومة مدنية
انتقالية بتمثيل عسكري محدود، لكن وبطريقة دراماتيكية أعلن رئيس المجلس العسكري
الانتقالي الفريق أول عبد الفتاح البرهان في 15 أيار (مايو) تعليق المفاوضات
لثلاثة أيام، بحجة إن تحالف الحرية والتغيير لا يزال يصعد الأمور ويغلق المعتصمون
الذين يأتمرون بأمره الطرق والسكة حديد. أضاف البرهان: إن عناصر مسلحة تسللت داخل
ساحة الاعتصام وحوله، وتستهدف القوات المسلحة والشباب المعتصمين على حد سواء،
وبالتالي فإن الثورة الشعبية “فقدت سلميتها”، وكانت هذه هي العبارة المفتاحية على
نية المجلس العسكري فض الاعتصام، إذ باشر تدريب آلاف الجنود من مليشيا الدعم
السريع وقوات جهاز الأمن والمخابرات التي تدين بالولاء للرئيس المعزول البشير، على
كيفية فض الاعتصام في منطقتين شمال وجنوب الخرطوم.
أكلت الثورة يوم أكلت “كولومبيا”
إلاّ أن العسكري الانتقالي عاد إلى التفاوض مع
“الحرية والتغيير” بعد انقضاء الأيام الثلاثة، وأعلن الطرفان أكثر من مرة عن
اقترابهما من التوصل إلى اتفاق نهائي، ثم وبذات الطريقة، أعلن المجلس أن هنالك من
أطلق عليهم تعبير “متفلتون”، يقطعون الطريق ويبيعون الخمور والمخدرات بشكل علني،
يقيمون بشكل دائم في منطقة اسمها “كولومبيا” بالقرب من ساحة الاعتصام، وإن على
قيادة المعتصمين التخلي عنهم والسماح للقوات الأمنية بالقبض عليهم، لأنهم يشكلون
خطراً عن أمن المواطنين ويهددون السلم الاجتماعي.
وظل نائب رئيس المجلس العسكري وقائد مليشيا الجنجويد
يتخذ من ” كولومبيا” ذريعة للدعوة إلى فض الاعتصام، فيما الجميع يعلم إن هذه
المساحة الضيقة التي تشغل دغلاً من أشجار متناثرة فوق سهل طيني شرق جسر النيل
الأزرق بالقرب من محيط قيادة الجيش حيثُ يعتصم الثوار. وهذه المساحة كان سمح بها
نظام الرئيس المعزول عمر البشير وغض عنها الطرف لسنوات طويلة، حيثُ أن معظم
قاطنيها هم أفراد الجيش من معوقي الحروب الأهلية التي شنها البشير على معارضيه في
كافة أنحاء البلاد، وقد أحيلوا إلى التقاعد المُبكر ولم يجدوا مصدراً للرزق غير
العمل في بيع الخمور والمخدرات. وبعد نجاح الانتفاضة، بدأ العسكري الانتقالي في
إلصاق ظواهر الانفلات (الكولومبي) بالمعتصمين، ما كشف عن نواياه على فض الاعتصام.
لكن قوى إعلان الحرية والتغيير أعلنت أن لا علاقة لها بـ(كولومبيا) وعلى المجلس أن
يتصرف إزائها وفق ما يرى كونه يمثل سلطة الأمر الواقع، فلم يكن أمامه بداً سوى
اقتحامها وقتل واعتقال بعض قاطنيها.
مشاركة الخارج
إلى ذلك، لم تنته حجج ومبررات المجلس العسكري
الانتقالي – جناح حميدتى، وظلت وتيرة التصريحات العدائية ضد المعتصمين ترتفع يوماً
بعد آخر، بل ساعة بساعة، خاصة من قبل نائب رئيسه (حميدتي) الذي زار السعودية
والتقى عاهلها وولي عهده، كما التقى سراً برجلٍ سوداني/ سعودي يدعى الفريق ” طه
عثمان الحسين”، وقد شغل على مدى سنوات طويلة منصب مدير مكاتب الرئيس المخلوع عمر
البشير، ثم اختلف معه وغادر إلى السعودية ليحظى بمنصب مستشار في الديوان الملكي.
وما إن عاد (حميدتي) إلى الخرطوم حتى أعلن صراحة وفي أكثر من مناسبة عن أن تسليم
السلطة إلى مدنيين لن يتم في هذه المرحلة، وطفق يروج بمساندة إعلامية من صحافيين
وكتاب إسلامويين يدينون بالولاء للنظام السابق على رأسهم “الطيب مصطفى” خال
المعزول عمر البشير.
والتحق البرهان بنائبه، بعد ثلاث زيارات لمصر
والإمارات والسعودية، وبدأت المرحلة الأخيرة في تنفيذ خطة مذبحة التاسع والعشرون
من رمضان في ليلة القدر، وقد أكد مراقبون إن اختيار هذا التوقيت قد تم بعناية
فائقة، حيثُ قل عدد المعتصمين نسبياً، حيث غادر بعضهم إلى المدن الأخرى لقضاء
العيد بين ذويهم، فكان هذا هو الوقت المناسب لفض الاعتصام.
قوات الجنجويد لاحقت المعتصمين وأجهزت على الكثير ممن
هربوا محاولين النجاة بأنفسهم رمياً بالرصاص أو قطعاً للرؤوس بالسواطير، أو بالضرب
المبرح حتى الموت، وإن بعض جنود الجيش كانوا يجهشون بالبكاء وهم يقفون مكتوفي
الأيدي
أكاذيب الكباشي
لاحظ كثير من المعتصمين وصول أرتال من السيارات تقل
جنوداً من مليشيا الجنجويد والشرطة تباعاً إلى محيط ساحة الاعتصام في تلك الليلة،
وأحاطوا بها من كل الاتجاهات، ولما انتشر خبر وصول هذه القوة الكبيرة المدججة
بمختلف أنواع الأسلحة إلى محيط الاعتصام وانتشرت الدعوات التي تحث المواطنين إلى
العودة إلى الساحة في أسرع وقت ممكن، سارع المجلس العسكري الانتقالي على لسانه
ناطقة الرسمي الفريق شمس الدين الكباشي وفي ساعة متأخرة من ليلة المذبحة إلى نفي
ما اعتبرها شائعات مغرضة. وقال في بيان بثه التلفزيون الحكومي إن مهمة هذه القوات
هي حماية المعتصمين من أي احتمالات للهجوم عليهم من قبل جهات أخرى تم رصدها من قبلهم.
إلاّ إنه وبعد فض الاعتصام بالقوة وحدوث المذبحة عاد
الكباشي، ليقول: إن قوة مشتركة من القوات المسلحة والدعم السريع وجهاز الأمن
والمخابرات وقوات الشرطة وبإشراف وكلاء النيابة، قامت بتنفيذ عملية مشتركة ومطاردة
عدد من المتفلتين، ومعتادي الإجرام، في بعض المواقع المتاخمة لشارع النيل
(كولومبيا) وتم القبض على بعضهم». وأضاف: «أثناء تنفيذ الحملة احتمت مجموعات كبيرة
منهم بميدان الاعتصام مما دفع القادة الميدانيين وحسب تقديرات الموقف بملاحقتهم؛
مما أدي إلى وقوع خسائر وإصابات».
تفاصيل الموت
أسفرت مذبحة القيادة إلى عن مقتل نحو 108 شخصاً
وإصابة أكثر من 200 آخرين، بحسب لجنة الأطباء المركزية، بجانب حالات كثيرة من
الضرب بالسياط ونهب الممتلكات و الاغتصاب وإشاعة حالة من الرعب والذعر بين
المواطنين العزل، كما أعلنت لجنة الأطباء المركزية، أنه تم انتشال 40 جثة من
النيل..
وكانت مراسلة القناة الرابعة ل”بي بي سي”، نقلت عن مصدر أمني رفيع (ضابط منشق عن جهاز الأمن والمخابرات)، أن القوات التي شاركت في المذبحة تتكون من: قوات الدعم السريع (الجنجويد) بقيادة نائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي، وجهاز الأمن والمخابرات الوطني، ومليشيات أخرى تابعة لنظام الرئيس المعزول عمر البشير مثل : “الشرطة الشعبية، الأمن الشعبي، الدفاع الشعبي، الأمن الطلابي، ومليشيا الشيخ عبد الحي يوسف الإخوانية.
وأضافت المراسلة (يسرا الباقر) إن مصدرها أخبرها بأن بعض الضحايا تعرضوا للضرب حتى الموت، فيما أطلق على آخرين الرصاص عدة مرات، و قطعت رؤوس البعض بـ”السواطير” ثم أغرقت جثثهم في النيل، كما أن بعض أفراد القوات المهاجمة اغتصبوا طبيبتين كانتا حينها تمارسان عملهما في العيادة الملحقة بساحة الاعتصام، و أن بعض الخيام أُحرقت و بداخلها أشخاص تفحمت جثثهم، وقد نقلها المهاجمون بسيارات الإسعاف إلى جسر النيل الأزرق وألقيت داخل لجته من أعلى الجسر.
بعد المذبحة
شهود عيان وصحافيون ومراقبون وناجون من المذبحة قالوا
في إفادات متطابقة خصوا بها (درج): إن قوات الجنجويد لاحقت المعتصمين وأجهزت على
الكثير ممن هربوا محاولين النجاة بأنفسهم رمياً بالرصاص أو قطعاً للرؤوس
بالسواطير، أو بالضرب المبرح حتى الموت، وإن بعض جنود الجيش كانوا يجهشون بالبكاء
وهم يقفون مكتوفي الأيدي لا يستطيعون حماية المواطنين ولا أنفسهم حيثُ صودرت منهم
أسلحتهم وفق أوامر عليا صدرت قبل أربعة أيام من المذبحة.
0 تعليقات