يوسف
إدريس المتمرد على قواعد الصنعة
د. محمد ابراهيم
بسيوني
رحل الدكتور
يوسف إدريس عن عالمنا في أغسطس ١٩٩١، بعدما لقب بأمير القصة القصيرة، باقترابه
العبقري من الشخصية القروية والريفية المصرية. ولد في 19 مايو عام 1927م في قرية
البيروم بمحافظة الشرقية لأسرة متوسطة من المزارعين تضم عددا من المتعلمين
الأزهريين، تعلم في المدارس الحكومية والتحق بعد دراسته الثانوية بكلية الطب في
جامعة القاهرة التي تخرج منها عام 1951. حصل على دبلوم الأمراض النفسية ودبلوم
الصحة العامة، عمل في المستشفيات الحكومية وكان مفتشاً صحياً في الدرب الأحمر وهو
حي شعبي في القاهرة. بدأ ينشر قصصه القصيرة في الصحف منذ عام 1950، وشارك في تحرير
أول مجلة يصدرها الجيش بعد قيام ثورة يوليو وهي مجلة التحرير التي صدرت في سبتمبر
1952.
شرح الدكتور
يوسف إدريس لماذا اختار القصة القصيرة بالقول: "اخترتها لأني أستطيع بالقصة
القصيرة أن أصغّر بحرا ًفي قطرة، وأن أمرر جملا ًمن ثقب إبرة، أستطيع عمل معجزات
بالقصة القصيرة، إنني كالحاوي الذي يملك حبلا ًطوله نصف متر، ولكنه يستطيع أن يحيط
به الكون الذي يريد. القصة القصيرة طريقتي في التفكير ووسيلتي لفهم نفسي، والإطار
الذي أرى العالم من خلاله، إنه الإطار الذي وجدني ولم أجده". وقال أيضا
ً"إن القصة القصيرة هي أصعب شكل أدبي وأسهل شكل أدبي في وقت واحد، إنه شكل
سهل لا بد أن يمارسه كل شخص ولو في جانبه الشفوي ولكنه فن صعب، يحتاج إلى قدرة
للأخذ بتلابيب لحظة نفسية خاطفة، والتعبير عنها في كلمات. لقد اخترع بيكاسو ذات مرة
طريقة لرسم لوحة فوسفورية تختفي بعد دقيقة. هذه الدقيقة هي القصة القصيرة هي
اقتناصي لحظة كشف خارقة".
أحدثت إصداره
لمجموعته القصصية الأولى "أرخص الليالي" في أغسطس ١٩٥٤ دويًا كبيرًا في
الوسط الأدبي، مما دعا عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين للقول: "أجد فيه من
المتعة والقوة ودقة الحس ورقة الذوق وصدق الملاحظة وبراعة الأداء مثل ما وجدت في
كتابه الأول "أرخص ليالي" على تعمق للحياة وفقه لدقائقها وتسجيل صارم
لما يحدث فيها وجعلته يشعر بأنه ولد نجما منذ اللحظة الأولى".
كان الدكتور
يوسف إدريس يعشق هواية تدمير التابوهات، وزلزلة المألوف، ويعتبر نفسه فوق أي سلطات
سواء سياسية أو علمية تكون معلّبة القوالب الأيديولوجية الجاهزة، فتمرد على قواعد
صنعته الفنية نفسها، وعلى قواعد ونحو وصرف اللغة العربية فقد خاصم سيبويه ولم يعقد
صلحا ًمعه حتى يوم وفاته، ودخل كلية الآداب ولم يطق دروسها سوى ثلاثة أيام. فكتب
في جريدة الجمهورية بتاريخ 13 مايو 1960: "اللغة أي لغة لا تهبط على أبنائها
من عالم الغيب ولا تتفجر لهم من باطن الأرض، ولكنهم هم الذين يخلقونها ويطوّرونها
ويبدّلون فيها ويغيّرون، والقواميس والمعاجم التي وضعت للغتنا أثبتت ألفاظها لا
على أساس أصلها وفصلها، ولكن على أساس أن العرب استعملوها لأداء هذا المعنى أو
ذاك، أي أن اللغة العربية هي فقط اللغة التي يستعملها الشعب العربي بصرف النظر عن
منشأ مفرداتها وعن التطور الذي يصيبها. ولو كانت اللغة العربية هي فقط اللغة التي
وردت على ألسنة أجدادنا الأقدمين، لكان معنى هذا أننا نتكلم اليوم لغة أخرى".
أعلن الدكتور
يوسف إدريس عن نظريته في المسرح سنة 1964 فكانت بمثابة الثورة التي صدمت وغيّرت
وبدلت، والتي نستطيع أن نقول دون أدنى مبالغة إن مقالاته الثلاثة "نحو مسرح
مصري"، قد منحت تعبيرا جديدا ًوهو (التمسرح) والذي يفرقه عن (الفرجة)،
فالتمسرح مشاركة جماعية حرم منها الشعب المصري كثيراً.
كانت علاقة يوسف
إدريس مع السينما متوترة، فمن ضمن قصصه القصيرة التي تعدت الثمنمائة قصة، لم تقدم
له السينما سوى عشرة أفلام، وكانت بعض الأفلام على مستوى روعة القصة مثل
"الحرام"، و"لا وقت للحب". كان يوسف إدريس يتعرض لوحشية هذا
العالم ويعري المجتمع المصري صراحة.
تعرض الدكتور
يوسف إدريس للاستبعاد عن أي منصب، لذي هجر كتابة القصة القصيرة، فظل صامتا ًمنذ
سنة 1971 وحتى سنة 1981 عن كتابة القصة القصيرة حتى خرج علينا بقصة "نيويورك
80"، حيث علا صريخه ليصير نحيباً. ففي حوار ما بين العاهرة الأميركية والكاتب
العربي تقول له العاهرة: قلت إنك كاتب وقطعا ًتعمل في مؤسسة أو تعيش في مجتمع
يعولك ويدفع لك أجرك، هل تقول الحقيقة أم تقول أشياء وتخفي أشياء؟ أليس كل هذا
مومسة؟، السياسي الذي يعرف أنه يبيع بلده أو يغمض عينيه عن مصالحها ماذا تسميه؟،
القاضي، التاجر، الزوجة التي لا تطيق رؤية زوجها وتتأوه حبا ًحين يلمسها، ماذا
تسمّي هذا كلّه؟، ماذا تسمي المثقفين والكتاب الذين يعرفون الحقيقة ويخافون الجهر
بها أليس كل هذا مومسة؟، كلكم بغايا وبأجر فاحش مدفوع، ولكن أنا الوحيدة المصلوبة
بينكم، أنا الوحيدة التي بخطيئة، وأنتم فقط قذاف الأحجار".
عميد طب المنيا
السابق
0 تعليقات