آخر الأخبار

الجهم بين الدين والسياسة


الجهم بين الدين والسياسة







محمود جابر

قصص الإثارة والأساطير؛ هى تلك القصص التى من شأنها أن تدخلك إلى عالم أسطوري غير حقيقى مفارق للواقع ومتناقض معه، ومع هذا يريد صانع القصة أن يجعل من أحجيته عالما يستبدل عقلك الناقد بعقل أبله وخيال مجنون.

قد أصدق أن قوما ما يزالون يترددون فى الترضى على معاوية ويزيد أم لا، يمكن أن يصدقوا أن حكام بنى أمية كانوا يدافعون عن الدين والعقيدة ويقتلون المخالفين المنكرين لثوابت الدين القويم، لكن الذي لا أفهمه أن القوم الذين لا يشكون لحظة فى خروج هؤلاء عن جادة الدين وعن الطريق القويم وإنهم – بنى أمية – قعدوا أرصادا وحربا لمن عبد الله حقا، وكره الظلم واقعا، ولم يتركوا صحابيا، ولا إماما،  أو عابدا، أو مصلحا... إلا وقتلوه أو طردوه أو أشاعوا فى أهل الأرض بأنه كافر وملعون ..

فهؤلاء القوم هم من لعنوا أمير المؤمنين فوق منابرهم وفى مساجدهم، وهم من دسوا السم للأمام الحسن بن على حفيد النبى، ثم قتلوا آخاه الحسين فى مجزرة دموية راح فيها قرابة المائة من آل محمد وأحفاده .. وهم من قتلوا الصحابي حجر بن عدى، وهم من أبعدو أبا ذر الصحابي العابد الزاهد المجاهد، وهم من قتلوا عمار بن ياسر بن أول شهيدة فى الإسلام ...
ثم يصدق علماء هؤلاء أن بنو أمية قتلوا الجعد بن درهم لأنه يقول بأن الله لم يكلم موسى (!!)، وهى نفس القصة التي قالوها عن الجهم بن صفوان حينما قتله سالم بن أحوز المازنى بزعم أن الجهم ينكر أن الله كلم موسى ...
وهذا البحث يعيد القراءة فى سيرة الجهم بن صفوان وفرقة الجهمية، والذى قتل على يد بنى أمية؛ زاعمين – حسب وصف الأعم الأغلب سنة وشيعة (!!)- أن قتله كان دفعا عن الدين!!.
والقصة بداية كما يحكيها الطبرى فى تاريخه فى الجزء الأول، وابن كثير فى الجزء العاشر أن الجهم بن صفوان كان صاحب جيش الحارث بن سريج – صاحب الراية السوداء فى خراسان- ومسئول المفاوضات، والحارث هذا قد ثار على حكم بنى أمية سنة 116هـ/734م، وسيطر على شرق خراسان ..


ولما حاول سالم بن أحوز المازني قائد نصر بن سيار فى خراسان مفاوضة الحارث بن سريج- أوفد مقاتل بن سليمان لعرض الصلح عليه، وكان جهم بن صفوان يمثل الحارث بن سريج فى هذه المفاوضات.
وقد أخفقت ثورة الحارث بن سريج فى ثورته، وقتل جهم على يد سالم بن أحوز سنة 128 هـ/ 745 م .

وهذه هى قصة مقتله ....

وحتى يتم إخراج عملية القتل فى صورة أسطورية، لان الصورة الحقيقة تحتاج لعرض أسباب الخروج على حكام ظلمه، وولاة بغاة والحكاية والرواية سوف تفتح عيون الناس وتطلق ألسنتهم وتشجع قلوبهم من هنا جرى اختراع أسطورة الجهمية وقبلها أسطورة جهم المعطل الخارجي ...
وقبل أن ننتقل إلى مناقشة مقولة الجهمية وصدقها بقى لنا وقفه واحدة قبل الانتقال ..
كان الخصم اللدود لجهم رجل يدعى مقاتل بن سليمان وهو من أصحاب الحديث وله تفسير معروف ومقبول (!!)، مقاتل بن سليمان كان مشبها ومجسما – أى يقول بان الله لحما ودم وجسما (( أعاذنا الله من قوله))،علما أن التجسيم لا يقل خطورة عن التعطيل، بل قد يزيد ضلالة وبدعة، فالمعطل يعبد عدما، والمجسم بعبد صنما على حد تعبير أصحاب العقائد، والغريب أنه تمت معاقبة الجهم بن صفوان بالقتل بينما مقاتل بقي مكرما معززا، ومن هنا يأتي التساؤل هل كان قتل الجهم لأفكاره وعقائده كما زعم كثير من العلماء وحكام بنى أمية ، أم أن قتله كان سياسيا محضا كما سبق؟!!

أقوال الجهم والجهمية :

ينسب إلى الجهم بن صفوان بأنه قال أن الإيمان معرفة ولا يلزم مع الإيمان عمل، كما انه لا يضر معه معصية، وأن العبد مجبر فى أفعاله وليس مختارا، فلإنسان ليس له إرادة فى فعله فهو – الإنسان – مثله مثل ريشة فى مهب الريح، وان أى حديث حول إرادة الإنسان من قبيل المجاز كقولك " تحركت الشجرة ". ومن الأقوال التى تنسب إليه هو نفى الأسماء والصفات عن الله عز وجل بالكلية فلا يجوز وصف الله تعالى بالعلم والحكمة ونحوه...

بدون جدل نقول أن الكلام الذي ينسب إلى الجهم بن صفوان كلاما قبيحا وأحيانا يخرج من الملة، بيد أن هذا الادعاء على الجهم بهذه الأقوال جرى بدون بحث أو نقد أو تمحيص علمى ومعرفى،  وكل هذا الكلام حكاه خصومه وليس لدينا دليل على ان الجهم قال به ....وهنا يمكن أن نذكر الآتي :

1-   جميع المصادر التي ذكرت أقوال الجهم هي مصادر خصومه فأقدم المصادر التي ذكرت أقوال الجهم وفقا للدكتور علي سامي النشار هي كتاب مقاتل بن سليمان في التفسير و كتاب الاستقامة والرد على أهل الأهواء لخشيش بن أصرم المتوفى 255هـ ، ويأتي بعدها كتاب التنبيه والرد على أهل الأهواء لأبي الحسين أحمد بن عبدالرحمن الملطي المتوفى 277هـ، وقد استند الملطي في عرض آراء الجهم على كتابي مقاتل وخشيش , وهي كما ترى مصادر خصوم للجهم وبالذات كتاب مقاتل بن سليمان الذي عاصر الجهم والتقى به وكانا يصليان معا في بلخ ومقاتل بن سليمان كما لا يخفى كانت خصومته للجهم كبيرة وحادة فمقاتل كان يقترب في آراءه في الأسماء والصفات من التشبيه والتجسيم وقد ألف كل منهما كتابا في الرد على الآخر الا أن كتاب الجهم مفقود.
والأهم أن مقاتل كان صديقا للأمير ومنازلته للجهم لم تكن دفاعا عن الدين بقدر ما كانت تقربا للأمير ...

وفي ذلك يقول علامة الشام السلفي جمال الدين القاسمي الدمشقي في كتابه ( تاريخ الجهمية والمعتزلة ) ما يلي : " وبالجملة فلا بد من السند في قبول ما يعزى إلى تلك الفرقة فإما عن أسفارها أو عن إمام ثقة أثر عنها وأما رمي فرقة برأي ما بدعوى أنه قيل عنها ذلك أو يقال فمما لا يقام له وزن في الصحة والاعتماد فلا يتعانى في رده أو مناقشته".

2- تميز علماء الحديث بمنهج حاد في التعامل مع المخالف والمبالغة في إلقاء التهم والنعوت عليه ومثال ذلك وصف أهل الحديث الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان وهي أوصاف ونعوت لا تقل عما وصف به الجهم فقد وصف الإمام أبو حنيفة بأنه استتيب من الكفر مرتين وبأنه كاد الدين وأهله وبأنه كان يستهزئ بحديث النبي وغيرها من التهم التي تضمنها كتاب عبدالله بن أحمد بن حنبل
3- مما يمكن أن يدحض نسبة القول بأنه لا يضر مع الإيمان عمل والجبر الخالص الى الجهم بن صفوان أنه قضى حياته مقاتلا لحكام بني أميه بسبب ظلمهم وكان داعية الحارث بن سريج قائد الثورة على بني أمية وقد وصف ابن كثير الحارث بن سريج بأنه كان داعية الى الكتاب والسنة فكيف يمكن أن يكون هذا موقف الجهم العملي مع اعتقاد أنه لا يضر مع الإيمان عمل والقول بالجبر الخالص

4- هناك من أهل العلم من شكك في نسبة هذه الأقوال إلى الجهم منهم التاج السبكي حيث يقول:" وأما جهم فلا ندري ما هو مذهبه ومع ذلك فنحن على قطع بأنه رجل مبتدع ومع ذلك لا اعتقد أنه ينتهي إلى القول بأن من عاند الله ورسوله وأظهر الكفر وتعبد به يكون مؤمنا لكونه عرف الله بقلبه فلعل الناقل عنه حمل اللفظ مالا يطيقه أو جازف الناقل عنه".

5- ثمة مبالغة في نقل بعض أقوال الجهم وتصويرها حيث يقول الدكتور علي النشار في كتابه نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام:" إن الشهرستاني بعد أن نقل عنه قول الجهم القول بنفي الأسماء والصفات : ( لكنه استدرك فقال أن جهما يقرر أن الله ) لا يجوز أن يوصف بصفة يوصف بها خلقه لأن ذلك يقتضي تشبيها فنفى كونه حيا عالما وأثبت كونه قادرا فاعلا خالقا لأنه لا يوصف شيء من خلقه بالقدرة والفعل والخلق".

إذا الجهم لا ينفي الأسماء والصفات بالكلية، و أن أقوال الجهم بهذا الخصوص مرادها التنزيه المطلق لله عز وجل خاصة بعد احتكاكه بمقاتل بن سليمان وأن الجهم خشي من تسرب عقيدة تعدد الأقانيم المسيحية الى الفكر الإسلامي بالقول بصفات قديمة لله عز وجل هي غير الذات.

وفيما يتعلق بنسبة قول الجبر الخالص إلى الجهم ينقل الدكتور النشار عن الأشعري في ( مقالات الإسلاميين ) بعد أن حكى قول الجهم بالجبر الخالص يقول الأشعري أن الجهم يقول:" إلا أنه خلق للإنسان قوة كان بها الفعل, وخلق له إرادة للفعل واختيارا له منفردا له بذلك كما خلق له طولا كان به طويلا ولونا كان به متلونا"، ويذهب الدكتور النشار إلى أن هذا القول هو نفسه نظرية الكسب عند الشاعرة...
6- لقد عاصر الجهم حتما ثلاثة من أئمة آل البيت ع وهم الإمام السجاد والإمام الباقر والإمام الصادق ولم تعرف كتب الحديث أو التأريخ ما يشير إلى نسبه هذا الكلام إلى الجهم بن صفوان، أو ذم الأئمة الثالثة له او الرد عليه أقصد (( الجهم))، بل على العكس فإن هشام بن الحكم بمنزلته وقدرته وعلمه كان تلميذا فى يوما ما لجهم بن صفوان قبل أن يغادر جهم الكوفة منفيا من قبل حكام بنى أمية !!


الجهم في الفكر الإسلامي :

يرجع الفضل للجهم فى شق طريق للمعرفة الدينية لم يكن معبد قبله وهو منهج التأويل الذى كان أحد انجازاته فى الحديث عن المجاز فى النص المقدس، ويقول الدكتور علي سامي النشار في كتابه ( نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام ) : " إن منهج الجهم الذي أدخله في الحياة العقلية الإسلامية هو التأويل ".

ويرى الدكتور النشار أن ما دفع الجهم إلى انتهاج منهج التأويل هو موقف الديانات الأخرى والمانوية والفارسية في محاربة الإسلام من خلال نصوص الأحاديث التي تخالف العقل وهو المنهج الذي تبناه المعتزلة فيما بعد في محاججة أعداء الإسلام.

المجاز والتأويل كان سببا لنشأة مدرسة الرأي والكلام في الإسلام والتي تبنت المنهج العقلي في إثبات عقائد الإسلام ومحاججة المخالفين ومحاكمة أحاديث الآحاد إلى العقل ومثل هذه المدرسة المعتزلة والأشاعرة.

كما يعتبر أثر الجهم فى آراء إمام أهل السنة أبو محمد عبدالله بن سعيد بن كلاب المعاصر لـ احمد بن حنبل وأهمها نفيه قيام الأفعال الاختيارية بذات الله عز وجل كالكلام ونفي الحرف والصوت فيما يتعلق بكلام الله عز وجل وكذلك تبني المنهج العقلي في إثبات العقائد الدينية.

ومن اثر الجهم ذهاب أبو الحسن الأشعري إلى تأويل الصفات الخبرية لله عز وجل ( الوجه واليدان وغيرها ) وتأويل صفات الأفعال ( الاستواء والنزول وغيرها ) ومما أضافه الأشعري القول بأن القرآن هو كلام الله الأزلي النفسي القديم.

وبعد أبي الحسن الأشعري جاء تلاميذه ليصيغوا الفكر الأشعري في صورة أكثر وضوحا تتبنى المنهج العقلي في إثبات العقائد الدينية ومحاكمة نصوص الآحاد التي توهم في تصورهم مشابهة الخالق للمخلوق وكذلك منهج التأويل العقلي لجميع النصوص ماعدا الصفات السبع عند الأشاعرة بل ويرى بعض الباحثين أن إثبات الأشاعرة للصفات السبع لا يعدو أن يكون شكليا كما يرى هؤلاء الباحثين أن أثبات الأشاعرة لروية الله عز وجل وهي العقيدة الفاصلة بين أهل السنة والمعتزلة قد جرده الأشاعرة من مضمونه وقالوا ان الله عز وجل يرى لا في جهة وبحاسة سادسة وأيضا قول الأشاعرة بنفي الجهة عن الله عز وجل أو ما يسميه الحنابلة ( العلو ) هذه المسألة كانت من أهم القضايا الخلافية بين الأشاعرة والحنابلة ولا زالت.

كل ما سبق من آراء مستحدثة إسلاميا ليست في الحقيقة إلا بتأثير بشكل أو بآخر من أفكار الجهم بن صفوان وفكره حتى أن الشائع عند أهل الحديث وصف الأشاعرة بـ ( الجهمية الإناث ) وفي ذلك يقول العلامة القاسمي : " إن المتأخرين المنسوبين للأشعري يرجع كثير من مسائلهم إلى مذهب الجهمية كما يدريه المتبحر في فن الكلام والموازن بين أقوال هؤلاء وأقوال السلف ".

فى النهاية نقول أن أثر أقول الجهم وقبولها عند علماء المسلمين لا تتفق مع كل هذا التشنيع والادعاء الذي طاله، بل العكس هو الصحيح، فالجهم كان بارعا وعالما ومدافعا عن الإسلام والاعتقاد ولكن جريمته التى جعلتهم منبوذا ومتهما هو الخروج على بنى أمية وهى التهمة التى لم يلتفت إليها أحد حتى علماء الشيعة للأسف، الذين انساقوا وراء علماء بنى أمية ومن بعدهم بنو العباس وما أشاعه ابن تيمية على الجهم كل ذلك كان كلاما مصدقا وموثوقا لدى من يحب ابن تيميه ومن يبغضه فالجيمع اتفقوا على اتهام الجهم وصدق بنى أمية ...



إرسال تعليق

0 تعليقات