آخر الأخبار

دور المرجعية في الحياة الإسلامية العراق نموذجاً




دور المرجعية في الحياة الإسلامية العراق نموذجاً








الزركاني البدري 


موقعية المرجعية في الإسلام :


قبل الحديث عن العنوان لابد أن نتحدث عن موقع المرجعية في قلوب وعقول الأمة، إذ يعتقد المسلمون الذين تلقوا تعاليم الإسلام عن طريق أهل بيته المعصومين (صلوات الله عليهم) أجمعين إن الذي يمثل قمة الهرم في قيادة الدولة الإسلامية هو رسول الله (ص) ومن بعده الأئمة المعصومون الاثنا عشر الذين عينهم رسول الله (ص) بأسمائهم جيلاً واحداً بعد الآخر.
وقد سنحت الفرصة لممارسة هذا الدور لرسول الله (ص) في المدينة المنورة ولأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) مدة خمس سنين بعد مقتل الخليفة الثالث ولولده الحسن بن علي سنة واحدة بعده، أما الأئمة المعصومون الآخرون (سلام الله عليهم) فلم تتوفر لهم هذه الفرصة .
وهم – بحسب ما تتمتع به قيادتهم من خصائص-لا يكرهون الناس على اتباعهم بالقوة بل يقنعون الأمة بمشروعهم فإذا اقتنعت الأمة بقيادتهم مارسوها، وإلا مارسوا دورهم الإيجابي المبني على الحوار و الإقناع (1).
نجاح كل قائد يريد أن يتصدى لإصلاح الأمة.

تهذيب النفس والسيطرة عليها:


1. تهذيبه لنفسه وسيطرته على غرائزها، وانتصاره على ذاته بحيث أصبح هو يملك زمام نفسه، وليست هي التي تملكه وكان معروفاً بنكران الذات، وطالما كان يكرر أنه يدوس ذاته بقدميه، ونجح بدرجة كبيرة في الجهاد الأكبر مما سهل عليه النجاح في ساحة العمل الاجتماعي وهو الجهاد الأصغر، ومن كلماته (قدس سره): إن النجاح في الجهاد الأصغر لا قيمة له إذا لم يقترن بالانتصار في الجهاد الأكبر، وهو معنى قرآني ذكرته كثيراً في كلماتي، وفي الحقيقة فإن أي شخص يراد تأهيله لتحمل المسؤولية لا بد له من المرور بهذه المرحلة حتى يصل إلى درجة الإمساك بزمام نفسه، وقد خاض (قدس سره) هذه التجربة العملية على يد أكثر من شخص، وذكر لي في رسائله التي قاربت المائتي صفحة(2) نكتاً من هذه التربية.
وكان يحب الموعظة لأن فيها إحياءً للقلوب كما أوصى أمير المؤمنين (ع) ولده الحسن (ع): (يا بني أحيِ قلبك بالموعظة وأمته بالزهادة)(3)فكان يحث على مطالعة كتب الموعظة كإرشاد القلوب ومجموعة ورام وعموم جوامع الأحاديث الشريفة كتحف العقول والخصال، ولقد كانت هذه سيرته منذ منتصف السبعينيات تقريباً، وحدثني انه كان ملازما لأستاذه وابن عمه الشهيد الصدر الأول الذي كان يحترم هذا المسلك ويدافع عنه، بل التزمه في أيامه الأخيرة كما هو واضح من محاضرته الأخيرة عن حب الدنيا ضمن محاضرات السنن التأريخية في القرآن الكريم، وكان (قدس سره) يود أن يأخذ من كل شيء عظة وعبرة تأسياً برسول الله(ص) فمثلاً: حيث يدخل إلى الحمام ويرى الماء الحار يقول (ص): (نعم البيت الحمام يذهب الدرن ويذكر النار)(4)، وقد فصلنا شيئاً من الكلام في محاضرات (الأسوة الحسنة).
الارتباط بالله تعالى:


2.ارتباطه بالله تعالى وإدامه ذكره وجعله الهدف الوحيد الذي يسعى من أجله، وقد انتقد في أحدى خطب الجمعة ما يفعله أئمتها من الاكتفاء بسطر واحد أو أقل من الحمد والثناء على الله تبارك وتعالى ثم الخوض في موضوع الخطبة، أما هو (قدس سره) فكان ينقل مقطعاً من دعاء أو آيات قرآنية أو خطبة لأحد الأئمة (ع) تعمق الصلة بالله تعالى وتعرف بصفاته الحسنى، وتبين حاجتنا وفقرنا إليه تبارك وتعالى، وكان مراقباً لله سبحانه، ومراعياً له في السر والعلن.
ومما أدبني به ما رواه عن أحد العلماء: أنه دخل عليه شخص فرآه بزيه الكامل وهو جالس وحده في البيت فسأله عن ذلك، قال: لأني بحضرة الله تبارك وتعالى، وكان آخر لا يمدد رجليه حتى لو كان وحده لنفس السبب، ومما حكاه (قدس سره) لي عن سيرته: أنه مرة صلى ركعتين استغفاراً لأنه قال لشخص التقى به وكان غائباً عنه مدة: مشتاقين، وهي كلمة متعارفة، ويمكن أن تبرر إلا أنه خشي أن يكون كاذباً بهذه الدعوى.
وهذا – أعني العمل لله تبارك وتعالى – إحدى مميزات حركته عن قادة وعلماء آخرين عاشوا للإسلام، وأشربت قلوبهم حب الإسلام وهو عمل عظيم إلا أنه ليس كمن يعيش لله تبارك وتعالى، وبينهما فرق أوضحته في محاضرة سابقة، وهذا التعلق بالله تبارك وتعالى والإخلاص له ومحبته تجعل الشخص يفيض نوراً على الآخرين، ويلقي الله محبته وهيبته وتأثيره في قلوب الناس، وفي الرواية عن علي (ع) انه قال: (من أراد عزاً بلا عشيرة، وهيبة من غير سلطان، وغنى من غير مال، وطاعة من غير بذل، فليتحول من ذل معصية الله إلى عز طاعته، فإنه يجد ذلك كله)(5)، وفي الحديث القدسي: (ما تقرب إلى عبدي بمثل أداء فرائضي وإنه ليتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت رجله التي يمشي بها ويده التي يبطش بها ولسانه الذي ينطق به وقلبه الذي يعقل به إن سألني أعطيته وإن دعاني أجبته)(6) فيكون دليلاً للخلق إلى الله تعالى.

معايشته للقرآن الكريم:


3. معايشته مع القرآن وتفاعله مع مضامينه، ففي وقت مبكر من حياته كان له دفتر يسجل فيه ما ينقدح في ذهنه من نفحات أثناء تلاوته للقرآن، ويثبت فيه الآيات التي توحي له بخلق قرآني أو موقف إزاء حال معينة أو سلوك عليه أن يطبقه، وفي مرحلة أخرى أخبرني أن له نسخة من المصحف ثبت على هوامش صفحاته القراءات المتعددة للكلمات القرآنية، وقال (قدس سره): إنه كان يستفيد من هذه القراءات معاني لا توحيها الكلمات المرسومة، وأحياناً تحل له معضلة فقهية لا ينسجم حلها مع القراءة الموجودة لكنها تنسجم تماماً مع قراءات أخرى، وختم حياته (قدس سره) وهو يلقي محاضرات (منة المنان في الدفاع عن القرآن)، ويمكن مراجعة كتاب (شكوى القرآن) لتطلع على بركات الحياة في ظل القرآن ودوره في صنع القادة والمصلحين.

دراسة سيرة الأئمة (ع) بدقة:

4. دراسة سيرة الأئمة (ع) بدقة وعمق وشمولية لمعرفة أدوارهم التي أدوها والمسؤوليات التي قاموا بها، وكيف كانوا يتخذون المواقف المناسبة اتجاه مختلف القضايا، ومن حكمة الله تعالى وعظيم مننه على الأمة جعل أدوارهم تجربة للأمة وظروفهم مختلفة ومدة إمامتهم طويلة (مائتين وخمسين عاماً) لتنضج تجربة الأمة وتحصل على كل ما تريده من سيرتهم المباركة، فعرف (قدس سره) متى ينكمش ومتى يتحرك، وماذا عليه أن يفعل، وكيف يتعامل مع الآخرين أفراداً أو طوائف أو سلطات، فبينما يكتب لي في منتصف الثمانينيات وكنت شاباً متحمساً للعمل الإسلامي فيقول: إننا في ظروف لعلها أشد من ظرف الإمام الحسن (ع)، وحاجته إلى الصمت والتقية تجده في سنته الأخيرة يقود تحركاً جماهيرياً مليونياً في وجه نفس السلطات العاتية.

الجد والاجتهاد في تحصيل العلوم:

5. الجد والاجتهاد في تحصيل العلوم، لأن العلم من الركائز الأساسية في بناء شخصية القائد المصلح حتى بلغ أسنى درجاته ونال ملكة الاجتهاد. كان يقول إنني اشتغل حوالي ثمان عشرة ساعة في اليوم بالدراسة والتدريس والكتابة والتأليف، وقال مرة(قدس سره): إنه أثناء اشتغاله بتأليف موسوعة الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) كان ربما يكتب أربعين صفحة في اليوم الواحد وهو إنجاز ضخم يعرفه من مارس عملية التأليف والكتابة، وحتى حينما يذهب إلى بغداد لكي تزور زوجته أهلها فإنه لا يضيع الوقت بل يقضيه بالكتابة والتأليف، وقد أجمع زملاؤه وأقرانه على جده حيث بدأ بدراسة العلوم الدينية وانتمى إلى كلية الفقه سنة 1957 وهو في الرابعة عشر من العمر بعد امتحان أجراه له عميدها المرحوم الشيخ محمد رضا المظفر وكان متفوقاً على أقرانه.

عدم الانفصال عن الواقع:
6. عدم انفصاله عن واقعهِ وما يجري فيه ومواكبته له، فتراه مثقفاً بثقافة العصر ويتابع تطوراته العلمية والسياسية والاجتماعية، ففي الثمانينيات نصحني بقراءة مجلة (علوم) العراقية التي كانت تعني بأحدث أخبار العلم وانجازاته، وكان يهمه منها أكثر باب العلوم الباراسايكولوجية لأنها أولاً تنسجم مع توجهاته النفسية وتعلقه بما وراء المادة، ولأن فيها حسب تعبيره لطمة للمادية الغربية التي تؤمن بالمادة والمحسوسات فقط.
وكان يستمع إلى الإذاعة ويطلع على ما يدور في العالم حتى حصلت عنده رؤية رصينة للأحداث. ومن بحوثه التي كتبها وأهداها لي – وهي محفوظة لدي- بحث بعشرات الصفحات بعنوان (فلسفة الأحداث في العالم المعاصر والدروس والعبر المستفادة منه)(7)، وقد علقت عليه وأضفت إليه مثله فرغب إليَّ في أن أضمهما في كتاب.
وكان مهتماً بأخبار الجمهورية الإسلامية في إيران وخطابات قائدها العظيم السيد الخميني(قدس سره)، ويستمع مباشرة باللغة الفارسية، وقال (قدس سره) في ذلك: لأنه تجري على لسانه نكات عرفانية وأخلاقية لا تعرضها الترجمة التي يبثها القسم العربي لأنه يهتم بالمقاطع السياسية والمتعلقة بالعمل الاجتماعي.
وبعد تحرير الجمهورية الإسلامية لأراضيها من القوات العراقية في معركة (المحمرة) في آيار 1982 وانتقال العمليات الحربية إلى الأراضي العراقية في تموز 1982 سارت الحرب سنين عجاف رتيبة ثقيلة باهظة التكاليف بشرياً واقتصادياً، فكان من وجهة نظره (قدس سره): أنه لا جدوى من استمرارها لأنه استنزاف لطاقات بلدين شيعيين (وهو توجه السيد الخامنئي رئيس الجمهورية آنذاك)، وعارضه الرأي القائل بضرورة استمرارها حتى القضاء على المعتدي ومحاسبته وكان (قدس سره) يتخذ الموقف الأول بينما كنت مع الثاني وأردد ما كان يقوله الساسة الإيرانيون الآخرون كالرفسنجاني والأردبيلي وتبناه السيد الخميني (قدس سره): أن السلم المفروض أسوأ من الحرب المفروضة، فطلب مني أن نفتح حواراً عبر المراسلة طبعاً- لأنه كان تحت الإقامة الجبرية – لمناقشة الرأيين فكتبت بحثاً بعنوان (نظرات في الحرب والثورة) وقد أتلفته حين داهمتنا القوات الصدامية عقب الانتفاضة الشعبانية المباركة.

نزوله الى المجتمع ومخاطبته لجميع الناس:

7. نزوله إلى المجتمع ومخاطبته لجميع الناس بما يناسبهم وعدم الابتعاد عنهم فقد كان، إلى حين تصديه للمرجعية يذهب بنفسه إلى السوق ليوفر الحاجات المنزلية، وكان يحب أن يطلع على آلام المجتمع وآماله وهمومه من دون أن يتخذ حاجباً أو (سكرتيراً).
نقل أحدهم: أنه قلد السيد الصدر (قدس سره) بسبب الطماطة، قيل له: وكيف؟
قال: لأني سألت عدداً من المراجع وأنا أبحث عمن أقلده كم هو سعر الطماطة في السوق، فكان جوابهم جميعاً هو الزجر وان هذا ليس من اختصاصنا، إلا السيد الصدر فقد أجاب بالتفاصيل عن سعر الجيدة منها والرديئة فعلمت – والكلام له – إن هذا هو الرجل الذي يصلح لقيادة الأمة، وسواء صح هذا أو لم يصح لكن المهم أنه يعبر عن آلية للإيمان بالقيادة وصلاحيتها كما نقل عن ابن سينا وهو الفيلسوف العظيم: اللهم إيماناً كإيمان العجائز، أي أن هذه الوسائل الساذجة للإيمان بالحقائق قد تكون اثبت في القلب والنفس من طرق الاستدلال العقلية المتضخمة بالإشكالات والشبهات.
وقد رأينا في صلاة الجمعة كيف يتحدث بلغة المجتمع فيفهمه المجتمع ويشاركهم الحر والبرد ويعيش في أوساطهم بلا تمييز عنهم، ويشمل بخطاباته كل شرائح المجتمع فخاطب الحوزة والعشائر والمسؤولين السياسيين والديانات الأخرى حتى الغجر بحيث أحس الجميع انه منهم فيتأثرون به ولا يشعرون بالغربة والانفصال.


(1) خلاصة كتبها سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) بناءً على طلب أحد الفضلاء المدعو لحضور مؤتمر في عمان يعقد خلال الأيام المقبلة، موضوعه هذا العنوان وكتبه سماحته بتاريخ 21/شوال/1428 المصادف 2/11/2007.
(2) نشرت في كتاب (قناديل العارفين).
(3) نهج البلاغة: الكتاب: 31.
(4) شعب الإيمان للبيهقي: ج6 ص160.
(5) امالي الطوسي: ص524.
(6) كنز العمال: ج1 ص230.
 (7) طبع في كتاب (الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) كما أعرفه).





إرسال تعليق

0 تعليقات