فخ التبعية المصري قديم أم جديد
د. محمد إبراهيم بسيوني
سياسة الانفتاح هي سياسة
تبنتها الحكومة المصرية إبان حكم الرئيس محمد أنور السادات بعد حرب أكتوبر، وتم
بموجب تلك السياسة تغيير التوجه المالي للدولة من الاشتراكية إلى الرأسمالية
والاقتصاد الحر. ارتبطت تلك الفترة في مصر بنمو رؤوس الأموال الصغيرة التي كانت موجودة
في ظل النظام الاشتراكي وتحولها لرؤوس أموال كبيرة وظهور طبقة ثرية في مصر كانت قد
اختفت فيما بعد الثورة عام 1952. نتيجة لبدء ازدهار النظام الرأسمالي في مصر غيرت
العديد من المحلات التجارية نشاطها وظهرت بمصر مراكز التسوق الخاصة والعديد من
الأنشطة الاقتصادية التي كان يحظرها النظام الاشتراكي.
اقترنت تلك الفترة سياسيًا
بالاتجاه إلى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية كشريك رئيسي لمصر والاتجاه إلى
إضعاف العلاقات مع الاتحاد السوفيتي والقوى الاشتراكية الأخرى. خلال تلك المرحلة
انتقلت البلاد مرة أخرى إلى التعددية الحزبية التي كانت قد اختفت بعد ثورة يوليو
1952 ويرى الكثيرون بأن تلك التعددية ما هي إلا تعددية شكلية حيث أن الأحزاب لا
تزال ضعيفة واهية وأن البلاد كانت لتزال خاضعة لنظام الحزب الوحد بسبب هيمنة الحزب
الوطني الديمقراطي على الحكم. اقترنت تلك المرحلة أيضا ببدء نمو النفوذ السياسي
للجماعات الإسلامية في مصر على حساب التيار الاشتراكي خاصة بعد الإفراج عن
الجماعات الإسلامية. ضعفت العلاقات المصرية الإيرانية خلال تلك الفترة بشكل ملحوظ
بسبب استقبال مصر لمحمد رضا بهلوي شاه إيران بعد قيام الثورة الإسلامية الإيرانية
وما لبث أن قطعت العلاقات تماما بعد اغتيال محمد أنور السادات.
عاش الشعب المصري االتقشف وشظف العيش إبان معارك ما بين 1967 و1973 والتي قادت البلاد إلي الأداء المذهل بمعارك الاستنزاف والعبور العظيم وعقبها جري تخريب ممنهج للشخصية المصرية بتشجيع النمط الاستهلاكي مع خلق تفاوت هائل بإمكانات المصريين أصاب إلإحتياجات الأساسية للمواطن العادي من السلع الأساسية والصحة والتعليم وهو ما أضعف الانتماء والحس الوطني إلي موضع الخطر. ماذا تتوقع من شاب لا يجد سريرا ينام عليه أو من أب لا يستطيع تدبير غرفه تستر بناته عندما يطالع البذخ المعيب بإعلانات الفلل والقصور؟؟ ماذا تتوقع من أب ينام أطفاله جوعي بينما هو يشاهد برامج الطبخ؟؟ لقد جري تسويق النمط الاستهلاكي اللزق بحقبة الرئيس السادات لطمر الأداء المبهر لجيش وشعب مصر والذي حقق نقله تاريخيه بين 1967 و1973. من نصر أكتوبر المجيد وقبله معارك الاستنزاف، الإصرار والتحدي والتي صنعتها أرواح ودماء وعرق جهود المقاتلين ،ثم استولي عليها المقاولين ومن حينها صار الوطن للأغنياء منا وبقي الفقر للشعب جميعه.
لم يكن يتوقع الرئيس السادات
أن تقابل قراراته بوابل من الاعتراضات والتظاهرات، ولم يكن يعلم أيضًا أنه سيخلق
وحش رأسمالي عرف وقتها بمراكز القوى الاقتصادية أو "القطط السمان".
جعل نصر أكتوبر من الرئيس
السادات العبقري الاستراتيجي الذي حقق النصر، كما جعل منه بطل العبور، ووضعه في
وضع سياسي مماثل لما كان عليه جمال عبدالناصر في أعقاب حرب السويس 1956، فقد بدأ
بعد الحرب في إعادة توجيه الاقتصاد المصري، وكان يأمل في جذب العملة الأجنبية،
وتمكين المساعدات الأجنبية الخاصة بالتنمية من خلق فرص جديدة للعمل، فيما عرف
بسياسة الانفتاح.
أقر الرئيس السادات حزمة من
القوانين الاقتصادية "القانون 118 لسنة 1975 للاستيراد والتصدير، وقانون
النقد الأجنبي رقم 97 لسنة 1976، والقانون رقم 43 لسنة 1974 وتعديلاته الخاص بفتح
باب الاقتصاد المصري لرأس المال العربي والأجنبي في شكل استثمار مباشر في كل
المجالات تقريبًا" بالإضافة إلى نظام الاستيراد دون تحويل عملة وإنهاء العمل
باتفاقات التجارة والدفع، والتي أدت إلى الانتقال لممارسة التجارة الخارجية على
أساس المعاملات الحرة وأصبح بذلك تخطيط التجارة الخارجية مستحيلًا، وجعل تجارة مصر
الخارجية عرضه لقوى السوق وتقلباتها الحادة.
أدت تلك السياسات إلى زعزعة
الاستقرار الاجتماعي للمواطن المصري، وزعزعة سيطرة القطاع العام على القطاعات الإستراتجية
للاقتصاد القومي وإضعافه، وتجزئة الاقتصاد المصري، وظهور مراكز قوى اقتصادية
جديدة، ونموًا هشًا في الاقتصاد المصري؛ لأنه نمو خدمي بالدرجة الأولى لم تكن
الأولوية فيه للقطاعات السلعية؛ كالزراعة والصناعة، وإنما للقطاعات غير السلعية؛
كالتجارة والتوزيع والمال والإسكان الفاخر والنقل الخاص وسياحة الأغنياء.
غليان الشارع المصري وانتفاضة
الخبز
كان من مردود تلك السياسات
والإجراءات، انتفاضة المواطن المصري معترضًا على عدم الحصول على عائد ذلك النمو
وسوء الأحوال المعيشية ورفع الدعم.
فقد كان شعب مصر يحلم بالرخاء
الاقتصادي الذي وعد به أنور السادات، بعد حرب 73 وتحوله من الاشتراكية للرأسمالية وتقربه
من الولايات المتحدة الأمريكية، إلّا أنه في يوم 17 يناير 1977، أعلن نائب رئيس
الوزراء للشؤون المالية والاقتصادية، الدكتور عبدالمنعم القيسوني، في بيان له أمام
مجلس الشعب مجموعة من القرارات الاقتصادية؛ منها رفع الدعم عن مجموعة من السلع
الأساسية، وبذلك رفع أسعار الخبز والسكر والشاي والأرز والزيت والبنزين و25 سلعة
أخرى من السلع الهامة في حياة المواطن البسيط.
بدأت الانتفاضة بعدد من
التجمعات العمالية الكبيرة في منطقة حلوان بالقاهرة، وتحديدًا داخل شركة مصر حلوان
للغزل والنسيج والمصانع الحربية، وفي مصانع الغزل والنسيج بشبرا الخيمة، وعمال
شركة الترسانة البحرية في منطقة المكس بالإسكندرية، وبدأ العمّال يتجمعون ويعلنون
رفضهم للقرارات الاقتصادية، وخرجوا إلى الشوارع في مظاهرات حاشدة تهتف ضد الجوع
والفقر، وبسقوط الحكومة والنظام.
استمرت الانتفاضة يومي 18 و19
يناير وفي 19 يناير؛ حيث خرجت الصحف الثلاثة الكبرى في مصر تتحدث عن مخطط شيوعي
لإحداث بلبلة واضطرابات في مصر وقلب نظام الحكم، وقامت الشرطة وقتذاك بإلقاء القبض
على الكثير من النشطاء وزاد العنف في ذلك اليوم، ثم أعلن في نشرة أخبار الثانية
والنصف عن إلغاء القرارات الاقتصادية، ونزل الجيش المصري لقمع المظاهرات، وأعلنت
حالة الطوارئ وحظر التجول من السادسة مساءّ حتى السادسة صباحًا.
ومع استمرار السياسات
الاقتصادية المتبعة في تعميق الانقسامات الاجتماعية في مصر، وظهور ما عرف
بـ"القطط السمان" وهم الأثرياء الجدد الذين حققوا ثرواتهم من خلال
مشروعات الاستيراد الخاص، أو من خلال العمل كمقاولين من الباطن لدى الحكومة، أو
استبدال العملة، أو من خلال تمثيلهم لمصالح أمريكية، وبحلول نهاية 1975 كشف
تقريرًا أعده مجلس الشعب عن وجود 500 مليونير بالفعل في مصر.
تبنى نواب المعسكر الاشتراكي
آنذاك في مجلس 1976 الاعتراض على ما أنتجته تلك السياسات؛ فبدأ نواب التحالف
العربي الاشتراكي في شن هجوم علي الحكومة والرئيس السادات من خلال الاستجوابات
وطلبات الإحاطة والتنديد بمراكز القوى الاقتصادية التي أنتجتها تلك السياسات وتضرر
المواطن البسيط، فقد وقف النائب محمود القاضي، والمستشار ممتاز نصار، وأبو العز
الحريري مع عدد من نواب المجلس في تلك الدورة ضد الرئيس أنور السادات، وضد سياسات
الانفتاح، وضد تصالحه مع إسرائيل، وضد كامب ديفيد، فلم يعجب الأمر الرئيس السادات،
وأصدر قرارًا بحل مجلس 76 لإسقاط هؤلاء النواب.
لقد كانت النتيجة النهائية
لسياسة "الانفتاح الاقتصادي" وقوع الاقتصاد المصري في فخ التبعية؛ فلم
يعد محلًا للجدل أن مصر في عهد الانفتاح صارت تابعة تبعية كاملة للمركز الرأسمالي
العالمي.
0 تعليقات