القوات
الجزائرية تصل إلى القاهرة
لمشاركة القوات المصرية في حربها ..
سامح جميل
"أنتم ذاهبون إلى مساندة إخوانكم في حربهم ضد
الصهاينة.. فإما النصر أو الاستشهاد.. من مات فهو شهيد ومن رجع حيا فهو مجاهد »..
كلمات ليست كالكلمات.. قالها الرئيس الراحل هواري بومدين وهو يشحذ همم أفراد الجيش
الجزائري، الذين اختيروا للمشاركة في الحرب ضد العدو الإسرائيلي في 1967، فقد
زلزلت كيانهم، ولكنا في المقابل زادتهم إيمانا وحماسا بأداء الواجب الذي ينتظرهم
في ساحة الوغى، وكان من بينهم الرقيب رميشي مبارك، الذي روى قصصا مؤثرة عن ملاحم
بطولية، صنعها رفقة زملائه في ساحة المعركة، مرعبين العدو الصهيوني الذي كبّدوه
خسائرَ فادحة في العدد والعدة.
« الشروق » التقت الرقيب رميشي مبارك، وهو حاليا
المنسق الجهوي بوهران لمنظمة قدماء محاربي الشرق الأوسط، التي ما تزال تنتظر
الاعتماد من وزارة الداخلية، حيث استرجعنا معه ذكريات عاشها رفقة زملائه في الجيش
الوطني الشعبي، الذين شاركوا في حرب 1967، فمنهم من قضى نحبه في ساحة المعركة وهو
يقاتل الجيش الصهيوني، ومنهم من جُرح وما يزال يحمل عاهة مستديمة.. يقول عمي مبارك
البالغ من العمر 68 سنة، أنه التحق بصفوف الجيش الوطني الشعبي في 1964، وبعد ثلاث
سنوات، أي في 1967 قرع العدو الصهيوني طبول الحرب ضد العرب، حيث احتلّ كل فلسطين
وشبه جزيرة سيناء بمصر والجولان، في ما عرف بحرب الستة أيام، وأمام هذا المشهد لم
يكن في وسع الجزائر سوى تلبية نداء العروبة، بمساعدة الشقيقة مصر على دحض العدو
الغاشم، وبالفعل استدعينا من طرف قيادة الجيش يقول المتحدث، كنت مجندا ضمن سلاح
المشاة في الفيلق 24 بمدينة مليانة في ولاية عين الدفلى، وعينت رئيسا لفرقة لمّا
بدأت المعركة في جزيرة سيناء مع العدو الإسرائيلي.
النصر أو الاستشهاد
في جوان 1967 نُفل أفراد الجيش الذين اختيروا
للمشاركة في الحرب ضد الصهاينة، إلى زرالدة في الجزائر العاصمة، حيث ألقى الرئيس
الراحل هواري بومدين، خطابه الشهير أمامهم، « قال عبارات مؤثرة ما تزال محفورة في
ذاكرتي » يقول الرقيب مبارك رميشي « ولم تُمح على الرغم من مرور سنوات من ذلك
الخطاب »… بومدين خاطب رجالا آنذاك، كثير منهم شارك في ثورة التحرير، ثم التحقوا
بالجيش الوطني الشعبي بعد الاستقلال، لذلك انهمرت العبرات من عيونهم وهم يسمعون
الرئيس يخاطبهم قائلا: « … أنتم ذاهبون إلى مصر من أجل مساندة إخوانكم في حربهم ضد
الصهاينة… إما النصر أو الاستشهاد… من مات فهو شهيد ومن رجع سالماً فهو مجاهد… »،
هذا الخطاب ما يزال يذكره عمي مبارك ووصف حاله رفقة رفاقه وهم يسمعونه: « ..
اقشعرت أبداننا وارتجفت أوصالنا، نحن الشبان الذين سنشارك في الحرب لأول مرة، ولكن
سرعان ما زال ذلك الخوف، لما وجدنا أولئك الذين يكبروننا سنا وخبرة، وسبق لهم أن
عايشوا أجواء عصيبة في حرب التحرير ضد الاستعمار الفرنسي، لقد حاولوا طمأنتنا
وزادوا من عزيمتنا، فصرنا أكثر استعدادا لمواجهة العدو الصهيوني ».
رقيب أول يبكي بحرقة
وواصل الرقيب رميشي مبارك حديثه عن تلك اللحظات
المؤثرة، لما نقلوا من الجزائر العاصمة إلى مطار بوفاريك العسكري، كانوا حوالي 200
من أفراد الجيش الوطني، ركبوا الطائرة.. « فيها وقفت على مشهد لم أصادفه في حياتي،
لعسكري برتبة رقيب أول كان يبكي بحرقة، في حين كنت أنا مستغربا من هذا التصرف لأن
صاحبه مجاهد شارك في ثورة التحرير، ولديه خبرة كبيرة في الحرب ومع ذلك كان يذرف
الدموع، لكنه سرعان ما أزال دهشتني، قائلا: « …أنت لم تعش أجواء الحرب… لم تفقد
رفاقك وأعز الناس إليك… أنا خارج من حرب حرّرت فيها وطني واستدعيت لأخرى تلبية
لنداء إخواني… أنا لم أشبع وطني وأولادي… ». هنا شعرت بما يختلج في صدر هذا
المجاهد، وأدركت أن الحرب لا ترحم أحداً، واصلنا رحلتنا الجوية وهذا الموقف لا
يغيب عن فكري أو وجداني، إلى أن حطت الطائرة في مطار العاصمة الليبية طرابلس في
حدود الخامسة صباحاً، من أجل تزويدها بالوقود، وأذكر حينها أنّنا أخذنا قسطا من
الراحة، ومنحونا كأس شاي وحلوى تمثلت في بريوشة، كنا نظن أننا سنقلع بعدها مباشرة،
إلا أن قيادة الجيش الوطني أبلغتنا بأن المجال الجوي مراقب من طرف الطائرات
الإسرائيلية، لذلك تأخر إقلاع الطائرة التي تقلنا إلى غاية التاسعة مساءً.
ولما وصلنا مطار القاهرة الدولي، سمعنا في نشرة
إخبارية عبر الإذاعة المصرية، أن العدو الصهيوني احتل جزيرة سيناء وسيطر على قناة
السويس، لنُنقل بعدها على متن حافلات مدنية إلى مكان خارج القاهرة، حيث نُصِّبت
لنا خيمٌ أقمنا فيها أياماً، ثم تم إرسال المدرعات ومختلف الآليات العسكرية من
الجزائر لتدعيم الجيش المصري، الذي فقد كثيرا من إمكانياته العسكرية اللوجستية،
بفعل الغارات الجوية الإسرائيلية على المطارات والثكنات، وما زاد في قلقنا هو
توصُّل الاستخبارات الصهيونية إلى مكان تواجد فيلق الجيش الجزائري بدقة، ما دفع
بقائده آنذاك الرائد زرقيني إلى تغيير مكان الإقامة، قبل أن نركب في القطار ليلا
متوجهين نحو أطراف شبه جزيرة سيناء، حيث كانت الحرب حامية الوطيس، وفي طريقنا
تصادفنا بجنود مصريين كانوا أسرى لدى الجيش الإسرائيلي، وأطلق سراحُهم وهم بين
جريح ومصدوم.
مصريون يهتفون بحياة الجزائر وبومدين
مشهد الجنود المصريين وهم في تلك الوضعية السيئة،
أثّر في نفسية أفراد الجيش الجزائري، فقد كانوا شعثا غُبراً، وقد جرّدوا من
سلاحهم، مذهولين ومدمرين نفسيا، وبينهم جرحى في وضعية صحية خطيرة، لقد هالني هذا
المنظر -يقول الجندي رميشي مبارك- وأنا شاب في مقتبل العمر، لا دراية ولا خبرة لي
بالحرب، الحقيقة كنت مصدوما، كما الشأن بالنسبة لكثير من رفقائي، الذين يشاركون في
الحرب لأول مرة، وأمام ما رأيناه وما سمعناه، عقدنا نحن أفراد الفيلق الجزائري،
العزم على الانتقام من العدو الصهيوني، واستعادة كرامة العرب، التي أجهز عليها
الصهاينة بدعم من القوى الغربية… رائحة الموت كانت تعمّ أرجاء المكان والحزن على
اغتصاب الأرض العربية زلزل كيان الكل، إلا أن ما خفّف وطأة هذا البلاء على قلوبنا،
ذلك الاستقبال الحارّ الذي حفّنا به سكان سيناء، الذين راحوا يقبّلون المدرّعات
والآليات العسكرية للجيش الجزائري، ويردّدون « تحيا الجزائر… يحيا بومدين… »، في
حين أطلقت النسوة العنان لحناجرهن، التي صدحت بزغاريد ذكّرت الجزائريين، لماّ كان
يستشهد أحد المجاهدين، يُشيّع إلى مثواه بزغاريد النسوة، كان اعترافاً بالجميل من
طرف المصريين وتحيّة عرفان لبلد المليون ونصف المليون شهيد، الذي لم يتولّ يوم الزّحف
وهب لنصرة إخوانه.
إسقاط طائرة إسرائيلية
الهتاف بحياة الجزائر ورئيسها بومدين، لم تزد رميشي
مبارك ورفقائه إلا حماسا، وانقسموا إلى 5 فرق، وفي محيط قناة السويس دخلوا في
معركة طاحنة مع الجيش الصهيوني، دارت رحاها من الفجر وإلى غاية الثالثة مساءً،
استخدمت فيها المدفعية الثقيلة من جانب أفراد الجيش الجزائري، الذين تمكنوا من
إسقاط طائرة إسرائيلية تهاوت في البحر، ليتدخل بعدها « كومندوس » مصري قام بأسر
قائدها، كما تكبّدت القوات البرية للعدو خسائرَ بشرية ومادية، ولكن في المقابل
دخلت طائرات العدو في قصف مكثّف، استشهد فيه جنديٌ جزائري، يدعى سيغني الطيب الذي
سقط شهيدا أمام أعين عمي مبارك، بالإضافة إلى أربعة جرحى، هذه الحادثة خلفت حزنا
عميقا لدى الجنود الجزائريين الذين ذرفوا الدموع على رفيقهم، الذي ترك الأهل
والأحباب في الجزائر، وضحى بنفسه من أجل تحرير أرض عربية طاهرة دنّستها أقدام
الصهاينة، وأمام حالة الحزن التي اعترت أفراد الجيش الجزائري، حاولت المحافظة
السياسية للجيش أن تقوي عزيمتهم وتشحذ همتهم من جديد، من خلال الاجتماع بهم
وتذكيرهم بالمهمة النبيلة التي جاؤوا من أجلها إلى مصر، ووُضع شريط للقرآن الكريم
تلا فيه المقرئ آيات من الذّكر الحكيم كانت سكَناً، وطمأنينة لأفراد الجيش
الجزائري، الذين رضوا بقضاء الله وقدره، وقرّروا الثأر لزميلهم من العدو
الإسرائيلي، الذي أرعبته بسالة الجزائريين في القتال.
عمّي مبارك ورفاقه في الفيلق 24 تركوا بصماتهم في أرض
الكنانة، وقاتلوا بكل ما أوتوا من عزم، وقوة في سبيل تحريرها من الصهاينة، ولمّا
عادوا إلى أرض الوطن، وبالضبط إلى وهران، نزلوا بمطار السانيا واستقبلوا استقبال
الأبطال من طرف الشعب والسلطات العليا في البلاد، لينقلوا بعدها إلى ثكنة عسكرية
في سيدي بلعباس، وهناك تنقل الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد، الذي كان قائدا
للناحية العسكرية الثانية، لتفقد أحوالهم وإسداء الشكر لهم على ما قدموه من
تضحيات..!!
0 تعليقات