توطين مفهوم الأرض والبقعة المباركة
رحلة فى مفهوم الهوية العراقية
ستار النعماني
ربما علينا الاعتراف بان المشهد التاريخي بتضاريسه
الوعرة نجد من الصعب ان تخرج منه بصورة أكثر شمولية وفهم لترابط الأحداث وهذا مما
حدى بكثير من المؤرخين والكتاب لتدوين الحدث وفق ما فرضته عليهم دوافعهم وأهوائهم
او فهمهم للنص التاريخي فقد يتجاوز البعض إطار المعنى الحقيقي للنص بسبب التركة
الثقيلة من المفاهيم التي لا تتوافق وطبيعة ما يعنيه النص التاريخي .
أن الفهم الموحد لكثير من المفاهيم ظل متوارثا لكثير
من المجتمعات دون أن يكون هناك أي حركة تغيرية على صعيد المجتمع نفسه نعم هناك
الكثير من التوجهات التي طرحت الأفكار الجديدة لكنها وللأسف لم تتمكن من جعل هذه الأفكار
ثقافة وسلوك للمجتمع بشكل عام بل اقتصر الأمر على قلة وجدت نفسها تسبح عكس التيار
لكن هذا لايعني أن كل الأفكار القديمة هي أفكار خاطئة بل على العكس ويسري هذا الأمر
إلى التاريخ والى المنهجية المتبعة في كتابة وتدوين التاريخ فان الكثير من التاريخ
لو تم إعادة صياغته بمفاهيم أكثر تطورا وأكثر دقة لوصف الأحداث لكانت النتيجة
ايجابية .
إن جهل الإنسان
بتاريخه سيفقده القدرة على استشراف مستقبلة وربما أن هناك من يتصور بان هناك إفراط
في تناول أو دراسة الماضي وان ما يهم هو الحاضر والمستقبل نعم صحيح لكن لا يمكن
لأي شعب أن يرسم معالم المستقبل دون أن يكون هناك تاريخ يمثل قاعدة رصينة للانطلاق
وعلى تعبير محمد حسنين هيكل أن حركة التاريخ لا تتقدم من فراغ و تترك وراءها ثغرات
يطل منها هباء آو خواء ويقول أيضا أن التاريخ ليس علم الماضي وحده وإنما عن طريق
استقراء قوانينه علم الحاضر والمستقبل أيضا أي انه علم ما كان وما هو كائن وما سوف
يكون .
ديانات العراق ، تاريخ العراق، شخصيات العراق ، حضارة
العراق، التكوين الاجتماعي للعراق، جوانب الفكر والثقافة في العراق ، هوية العراق
وجوانب وموضوعات كثيرة تناولها الباحثون والكتاب وكل شخص تناول الموضوع بحسب ما
يمتلكه من أدوات معرفية فكانت هناك الكثير من الآراء والفرضيات والنظريات والحقائق
والنتائج واليوم سنحاول إن نعرض بعض النتائج التي توصل إليها باحث عراقي هو الشيخ
عبد الهادي الزيدي وكتابه الموسوم ( خفايا وأسرار من تاريخ العراق) بجزئه الثاني
يمهد الزيدي لبحثه بموضوع المعاني التي يحويها الذهن
والتي تسمى بـ (المفهوم) ومدى مطابقتها مع( المصداق) وهو المعنى الموجود في الخارج
كما يعبر وللمفاهيم فوائد كثيرة فهي مستوعبة لعدة معارف وعلوم تمكننا من تناول
المواضيع وتفسيرها بصورة أكثر ديناميكية لكن المؤلف يؤكد على تناول المفاهيم على
نحو التحقيق وليس التسليم ويجد أن من الضرورة إيجاد بعض المفاهيم جديدة على حساب
بعض المفاهيم القديمة مراعاة لتطور المستوى الفكري للمجتمعات وربما هي دعوة غير
مباشرة لعصرنة المفهوم والمصطلح في زمن يشهد صراعا فكريا وحضاريا يستوجب إيجاد
وابتكار أدوات لها القدرة على المنافسة في ظل هذه الصراعات.
السلطة واغتيال الحقيقية:
يتناول الزيدي موضوع في غاية الخطورة وهو دور السلطات
الظالمة وخصوصا الأموية والعباسية في تحريف وتشويه وجه تاريخ العراق وذلك لما
يمثله العراق من قوة مؤثرة في العالم وللأسف يجهل اغلب أبناء هذه الأرض هذه القوة
وربما أن كثير من أسباب هذا الجهل كانت مفتعلة بسبب سياسات السلطات التي توالت على
الحكم وخصوصا بني أمية والعباسيين ويرجع سبب هذه المشكلة أن فترة التدوين بدأت
بشكل رسمي في فترة الحكم الأموية وبدأت أهواء السلطة تتدخل بشكل مباشر في عملية
تدوين الأحداث وبدأت الأقلام المأجورة بتزييف الحقائق وتوليد انطباعا سئ عن هذه الأرض
وأهلها ومصادرة الفضائل التي تميزت بها هذه الأرض خصوصا وان من تكلم وكشف عن هذه
الفضائل هم أئمة أهل البيت (عليهم السلام) فالتاريخ عامل رئيسي بتقدم أو تأخر
الحضارة لأي شعب فهناك منهج تاريخي مزيف لا يدركه بعض فئات المجتمع يساهم بشكل من الأشكال
في تشكيل بيئة ثقافية ومناخ اجتماعي يكون بالأساس نتيجة لسياسات السلطة بل هي من
صنع أنظمة الحكم الظالمة كل ذلك من اجل تأطير وعي الفرد وتفكيره بشكل يساهم في
تلبية أغراض السلطة ومن هنا لزم الأمر إلى التحقيق في كل تاريخ تم تدوينه في هذه
الفترة " فالتاريخ السردي بدءا من سيرورة التكوين ينقل أخبارا تحتمل الصدق
والكذب تتطلب جهدا من العلماء للتحقق من هذه الأخبار لكي يرتب الباحث الموقف على
حقيقتها في بحثه عن الأسباب الكامنة وراء تلك الأخبار التي تحدثت أو تتحدث عن أحداث
ووقائع كان لها فسحة من الزمن أو التقويم في سجل الماضي فالأسباب الكامنة وراء تلك
الوقائع والأحداث إذا ما اجتمعت بحكمة ودراية ستكشف عن خفايا تلك الوقائع
وقوانينها السرية التي جعلتها على هذه الكيفية دون غيرها" حسب تعبير الدكتور
علي حسين الجابري والسؤال المطروح لماذا تاريخ العراق دون غيره أرادت السلطة أن
ترسمه بشكل مشوه وصورة قاتمة حيث يقول المؤلف "لم يذق هذا البلد طعم
الاستقرار السياسي والأمني إلا الشئ اليسير وقد ذهب البعض إلى القول بازدواجية
شخصية الفرد العراقي نتيجة عدم استقرار هذا البلد" ويعزوا المؤلف هذه النتيجة
لعدة أسباب منها عدم قناعة الشخصية العراقية بأغلب الحكام الذين تسنموا الحكم كون
استلامهم للحكم كان بطرق غير شرعية فالتمرد على هؤلاء الحكام كان نتيجة طبيعية
لهذه الشخصية لوجود عدم القناعة بأهلية هؤلاء الحكام للحكم إضافة إلى وجود أصحاب
المصالح والطامعين بالمناصب مما يؤدي الى فرض أشخاص غير مرغوب بهم وغالبا ما يتم
هذا الفرض عن طريق القوة وساهمت هذه السياسة أيضا بضياع رموز البلد وقياداته
الوطنية والدينية وهناك سبب مهم وهو البعد الديني والعقائدي بشكل خاص للشخصية
العراقية والتي لا تتوافق وتوجهات اغلب أنظمة الحكم التي توالت على العراق إضافة إلى
كثير من الأسباب التي ذكرها المؤلف كل هذا جعل من العراق وسكانه هدف لهذه السلطات
الجائرة .
هوية عراقية مغيبة عن بعض الأقوام و الشخصيات:
هناك الكثير من المواضيع التي قل من التفت إليها أو
تناولها بشكل يزيل بعض عوامل الغموض عنها وربما سيفاجئ المتلقي عند سماعها أول مرة
بسبب عدم تسليط الأضواء على تلك الموضوعات ومن هذا الموضوعات أقوام عراقية مجهولة أو
مغيبة وشخصيات لم تعرف هويتها الحقيقية لم تنال الاهتمام الكافي من قبل اغلب
المعنيين بالشأن التاريخي فلا يخفى الدور الرئيسي للشخصية في حياة المجتمع خصوصا
ان هناك شخصيات كان لها الفضل الكبير في تطور المجتمعات وخلق بيئات متعددة للتفكير
وزيادة الوعي ويقول بهذا الصدد الدكتور فوزي رشيد "فالشخصيات بمختلف أنواعها
هي التي ترسم الطريق وبقية الناس يسيرون ورائهم....ولكن الشخصية الرائعة والتي
تفرض وجودها في المجتمع هي تلك الشخصية التي تتناسب أفكارها مع هدف الحياة من
التطور....وبناءا على ذلك يمكننا القول أن الأفكار التي حملتها البشرية عبر عصورها
المختلفة هي من صنع الشخصيات فعلا" ومن هنا راح المؤلف باتجاه إزالة الغموض
عن بعض الأقوام والشخصيات العراقية وتبيان انتمائهم الجغرافي لهذه الأرض فتاريخ
الشخصية مرتبط بالأرض وتاريخ الأرض مرتبط بتاريخ الشخصية نفسها فلا يمكن أن نتجاهل
هذا التلازم ولأجل هذا يعرض الشيخ الزيدي بعض الأقوام العراقية وما أنجبته هذه الأقوام
من شخصيات كان لها دور كبير في التاريخ فان إثبات عراقية هذه الأقوام ضرورة لغرض أثبات
هوية الشخصية المنتمية لهذا القوم .ان من يقرأ ما كتبه الزيدي سيرى بوضوح أن الهدف
ليس بإثارة ماضي معين إنما هي حقائق يحاول إيصالها للمجتمع لكي تكون دافع باتجاه إعادة
الثقة بالحاضر والمستقبل للجيل الشاب طالما لم ينقطع تاريخه الحاضر والمستقبلي عن
ماضيه ومغادرة حالة القلق التي تنتاب البعض بعد أن حاولت أقلام الغير اختزال
الشخصية العراقية بصفات هي بعيدة كل البعد عن هذا الوصف فالأمم تتقدم وتنمو بفعل
الوطن والتاريخ فالتنازل عن أي منهما سيشكل انتكاسة للفرد والمجتمع .
0 تعليقات