آخر الأخبار

مركب النقص المصري





مركب النقص المصري




بقلم كيرميت روزفلت

نشر المقال بمجلة هاربر عام ١٩٤٧

ترجمة د.أحمد دبيان




الجزء الأول :


( كيرميت روزفلت ضابط مخابرات أمريكي كان منسقا لانقلاب الشاه على الدكتور مصدق فى العملية آجاكس، وكان رجل المخابرات الأمريكية فى مصر والشرق الأوسط فى سنوات ما قبل ثورة ١٩٥٢ والذى حاول الملك فاروق الاتصال به عن طريق عامل اللاسلكي لطلب دعم حكومته بعد تحرك الضباط الأحرار والذى اتصل بعد نجاح الحركة الاتصال بمجموعة الضباط واستخدمه ناصر لخلق توازن مطلوب وقتها مع حرب التحربر من البريطانين ومفاوضات الجلاء .
نرصد فى مقاله الذى تم نشره فى مجلة هاربر عام ١٩٤٧ قدره تحليلية نافذة وعمق ثقافى رفيع ورصد دقيق جدير بضابط مخابرات متميز )


المقال :


( فى سنوات قليلة لن يبقى سوى خمسة ملوك فى العالم ، ملك انجلترا والأربعة ملوك فى ورق اللعب )
كانت هذه هى المقولة المفضلة التى لا يفتأ فاروق الأول ملك مصر ان يكررها فى شغف، وكونها تأتى من ملك كانت تلقى القبول والاهتمام من السامعين.
فى القرن العشرين كان العالم العربي أكثر تحملا للأنظمة الملكية مقارنة باى مكان آخر على خريطة الكرة الأرضية .



فى تعداد الانكماش السريع للأنظمة الملكية كانت أربعا منها تقع فى المنطقة العربية ، الراعى المخضرم للصحراء عبد العزيز آل سعود ، الملك الولد فيصل ملك العراق ، وعمه الكبير عبد الله الذى تمت ترقيته من أمير شرق الأردن الى ملك المملكة الأردنية الهاشمية ، إضافة لفاروق نفسه .

( ولربما يمكن إضافة إمام اليمن فى المملكة المتوكلية كملك خامس )

اذا ما صدق فاروق فى توقعاته فان هناك عواصفا سياسية قادمة فى منطقة الشرق الأوسط.

هذه النقطة بالذات يتفق عليها الكثيرون من المحللين وأصحاب النبؤات السياسية ، فان عواصف فى الشرق الأوسط ستجعل الكثيرون يهرولون بحثا عن ملجأ و وملاجئ نووية فى مناطق أخرى من العالم .
بالطبع قد تكون هذه دعابة من فاروق وهو المشهور بالدعابات والهزل اللامعقول .

قد يتم التهوين من بعض أصحاب هذه النبؤات السياسية مثلما تم التهوين من كاسندا بنت بريام ملك طروادة ونبؤاتها ، عن طريق محللين كثيرين أكثر تفاؤلا ، ولكن التخمينات تجعل مصر مكانا جديرا بالاهتمام والدراسة .


مصر بلد التناقضات العظمى ، والتى قد تعم فيها الفوضى والعنف ، وان دراسة فاروق نفسه تمثل نقطة انطلاق لدراسة بلد مثل مصر . فاروق رجل صغير السن وان كان يبدو مظهره اكبر من عمره الحقيقى يحاول ان يحكم بلدا عريقا لم تتغير أحواله كثيرا منذ الفراعنة .
ملك مصر ( لا يوجد ذكر للسودان ) رجل بدين أصلع يبدو عمره اكبر كثيرا من أعوامه السبعة والعشرين ، كان ملكا لأحد عشر عاما فيهم ، ولكن فى الآونة الأخيرة أصبحت حياته السياسية مثارا للإحراج والنقص ،وربما للتعويض عن هذا أصبحت حياته الاجتماعية شديدة النشاط ، تحاول أجهزة إعلامه تزيينها .


ورغم أن الإحراج السياسى يتأتى فى المقام الأول من مظهره ولكن المصورين وبإشراف الديوان الملكى يحرصون على إبرازه فى أحسن تصوير .


فاروق هو الولد الوحيد ضمن ستة أخوات وكان والده الملك فؤاد يتفاءل بحرف الفاء فإن أخته غير الشقيقة الكبرى تدعى فوقيه وشقيقاته الأربعة الأخريات فوزية ( وهى حاليا إمبراطورة إيران ولكنها انفصلت عن زوجها ) وفائقة وفتحية .

وقد غيرت زوجته اسمها لفريدة بعد الزواج ، ولتكملة النمط الحرفى تمت تسمية بناته بفريان ( هكذا وردت فى النص ويقصد بها فريال ) وفوزية وفريدة .

ومثل معظم المصريين الموسرين سافر فاروق كثيرا إلى أوروبا وقد كان يدرس فى انجلترا حين أنهت ظروف وفاة والده استكماله لدراسته .

وكمثل كثير من المصريين الأثرياء فاروق لم تكن أصوله مصرية ، فالأسرة الملكية جاءت من نسل محمد على وهو البانى كان فى خدمة الأتراك الى ان نجح فى الثورة ( رغم ان حركة محمد على كانت بالتعريف تمردا عسكريا الا انه استخدم تعبير الثورة لا الانقلاب ) على الخلافة العثمانية المتهاوية .


ومن الأهمية أن نورد أن علاقات فاروق مع الانجليز كانت انعكاسا لعلاقات بلاده مع انجلترا.

كان للانجليز الدور الأكبر فى تكوين شخصية فاروق ، وشخصية مصر الحالية . كان فاروق الصبى طفلا فخورا ذكيا ، يعى جيدا كنهه كملك وان بلاده قد نالت استقلالها حديثا .
هذا الاستقلال الذى كان منصوصا عليه بشروط فى معاهدة ١٩٣٦ والتى كانت على طاولة التفاوض حين جلس فاروق على العرش ....وتم توقيعها رسميا بعد أشهر قليله من تنصيبه ملكا .
كان من نتائج هذه المعاهدة أن المندوب السامى البريطانى فى مصر والذى كان له الدور الأكبر فى حكم مصر كان ليتم استبداله بسفير مثل باقي سفراء الدول ولكن ولسوء الحظ ولمصالح انجلترا فى البلاد ظلت انجلترا محتفظة بمندوبها السامى السير مايلز لامبسون أو اللورد كيلرن كما رسم لوردا فى بعد .
لم يقبل أبدا السير مايلز لامبسون اى مساس بوضعه أو تغيير فى وضعه وظل يعامل الملك كأن لم يستجد اى واقع سياسى على الأرض . كان فاروق مثل طالب مدرسة فى يد مخادع يتخذ الحنان مظهرا ولكن يستخدم العنف المفرط عند الضرورة.


جاءت ذروة الإيقاع يوم ٤ فبراير عام ١٩٤٢ ورومل على مشارف الإسكندرية يكاد يلقى بالجيوش الانجليزية خارج الوادي و الدلتا وخلف قناة السويس وما بعدها . ارتبط اللورد كيلرن سواء صوابا أو خطأ بقناعة تنصيب النحاس باشا زعيم الوفد كرئيس للوزراء لتهدئة وتأمين الجبهة الداخلية ، على الطرف الآخر رفض فاروق ذلك، فلم يكذب كيلرن خبرا .

كان لابد للولد على حد تعبير لامبسون ان ينال تنكيله .

كان لابد من تقريع الولد الجالس على العرش كما كان ينظر إليه المندوب السامى فاقتحمت الدبابات البريطانية ساحة قصر عابدين مصوبة فوهاتها نحو أبوابه ،واقتحم كيلرن القصر حاملا ورقة بيده بها مرسوم تنصيب النحاس ينقصها توقيع فاروق .

تم التوقيع على الورقة ولكن لم يغفر المصريون للبريطانيين هذا أبدا وظل كره فاروق للنحاس حتى مع توطد اواصر صداقته مع السفير البريطانى الجديد بعد رحيل لامبسون .


لم يكن كليرن ليسمح لفاروق أن يمارس دوره كملك حقيقى ولهذا فان فاروق كان يعوض هذا بالمغالاة ،فان لم يكن مستطيعاً أن يعين رئيس وزرائه فليكن تعويضه بان يقود سياراته العديدة بأقصى سرعة فى شوارع القاهرة ، وان القانون أن كان ليطبق فليكن مقصورا على العامة .
فى مدينة تتناقل فيها الأخبار والنميمة مثل القاهرة كانت الأخبار تتناقل عما يحدث إذا ما أبدى الملك إعجابه بشئ ما فيصبح من الواجب الحتمى أن يحصل عليه مهما كان اعتراض المالك الاصلى .

ظل الأجانب يعاملون كسادة فى مصرى ولم يكن هذا محل قبول للمصريين فهناك حكاية مشهورة عن امرأة بلجيكية تجاوزت أثناء حوار مع ابن احد الساسة المصريين فقالت إن المصريين حمقى أن يطالبوا برحيل الانجليز ، فبادرها غاضبا وبأى حق تتحدثين كذلك فقالت أنا هنا لى حقوق أكثر منك واستطيع أن أطردك فانا مالكة هذا المكان ، ولم تكن وقتها تدرى من هو فقام الفتى النافذ بالاتصال بقصر عابدين حيث تم ترحيل السيدة ( ماذا لو كان من العامة ؟!!!)


فى زمن محمد على الكبير كان عدد تعداد المصرين ٢ مليون نسمة واليوم ( عام ١٩٤٧ ) يبلغ تعداد السكان حوالى العشرين مليونا رغم هذا لم تتسع الرقعة الزراعية لتستوعب تلك الزيادة فى شعب يعتمد بالأساس على الأرض وإنتاجها .

إن واقع أن بلدا ما ذو كثافة سكانية عالية لا يعنى بحال أن أهلها يعانون العوز والفاقة ،
فبلجيكا على سبيل المثال ورغم كثافتها السكانية العالية بلد غنى ، ولكن مصر على النقيض تماثل الهند أكثر من بلجيكا ، فمتوسط دخل الفلاح المصرى إذا حالفه الحظ حوالة عشرة قروش ( أربعون سنتا ) يوميا وتبقى الأرض والمحاصيل التى يزرعها ليست ملكا له ، يعيش حوالى ٩٥% من الشعب فى فاقة وعوز وثمانون فى المائة منهم أميون .

تنتنشر الأمراض المتوطنة فى مصر والطفيليات مثل الدوسنتاريا والملاربا والفيلاريا المسببة لمرض الفيل والتى تنتقل عن طريق الناموس .


يعانى الكثير من المصريين من أمراض العيون وان أكثر من تسعين فى المائة من المصريين يعانون من التراخوما ( كتب علماء الحملة الفرنسية فى وصف مصر إنها ارض العيون الجنسية أو الناعسة
La Tere des yeux sexuese


لارتخاء جفون معظم المصريين بسبب إصابتهم بالتراخوما )

وتشكل البلهارسيا بدوراتها الحياتية المهدد الأكبر لحياة وصحة المصريين وتشكل نسبة الإصابة بها أكثر من ٧٥% من تعداد السكان.

نعود لفاروق والطبقة الحاكمة والتى تمثل اقل من خمسة بالمائة من تعداد السكان وتملك أكثر من ٩٥% من ثروات البلاد .
وبينما يحيا الفلاح مع عائلته وحيواناته من الجاموس والماعز والحمير فى أكواخ الطين اللبن ( الطين النيئ) يتم وضع المواشى فى أفضل أركان البيت لينزوى هو وعائلته فى ركن صغير . على الجانب الآخر يبلغ دخل الملك السنوى أكثر من مليون جنيه وله من القصور قصران فى القاهرة وآخران فى الإسكندرية ، وواحد فى انشاص وأخر فى حلوان ، هذا بخلاف عقارات وممتلكات اكبر من أن يتم إحصاءها حسب واحد من العاملين بالقصر .


ولربما يترك احد الباشوات من مخلفات موائد وليمة واحدة مما لا يمس ما قد يطعم فلاحا وعائلته لمدة أسابيع. ومع رحيل الانجليز يفقد الأثرياء المصريون والذين لا يمتلكون اى وعى اجتماعي أو طبقى اى عذر لتبرير البؤس العام الذى يعانى منه غالب المصريين والتى كان يتم تحميلها للاحتلال والبريطانيين .

والى أن يتم حل الأمور المعلقة مثل وجود القوات البريطانية فى قاعدة قناة السويس و مستقبل السودان البريطانى المصرى سيظل الديماجوجيون يسعون الى الشهرة عن طريق تحميل الاحتلال البريطانى مسئولية الحال المزرى فى البلاد بدلا من مواجهة المشاكل الحقيقية لمصر . وسيظل محاولة العمال نيل حقوقهم ينظر اليها كاضطرابات شيوعية .















إرسال تعليق

0 تعليقات