آخر الأخبار

الفتوة فى الذاكرة المصرية









الفتوة فى الذاكرة المصرية


محمود جابر

الفتوة في المعاجم العربية هو الشباب بين طوري المراهقة والرجولة وتعرفه أيضا على أنه النجدة أو نظام ينمي خلق الشجاعة والنجدة في الفتى كما جاء في المعجم الوسيط. ارتبط تاريخيا بسمات كالقوة التي عادة ما يتحلى بها الشباب بين طوري المراهقة والرجولة والشهامة والشجاعة التي يهرع أصحابها إلى نجدة الغير، والنبل والسعي إلى العدل والحق مما يؤسس لنظام يدعم هذه السمات ويخلق الشجاعة والنجدة في الفتى.

وقدمته السير الشعبية المصرية أحيانا كنموذج للحاكم الفرد المستبد العادل الذي يسعى لتطبيق قانون القوة والحق حسب معادلاته الخاصة وبما يتوافق مع طبيعة أهل الحارة التي يحكمها. فهو حاكم شعبي سواء اختاره الناس أو فرض نفسه بالقوة على الناس. ولكي يستمر في موقعه، عليه أن يضيف إلى قوته ما يجعل الناس تحبه كأن ينصر الفقراء ويقيم العدل ويلعب دور الحكيم ويرتب الحياة في الحارة التي يحكمها بحيث يظل الجميع قانعين به ومدينين لحمايته؛ فهو على سبيل المثال ياخذ الإتاوة - مبلغ من المال - من القادر ليعطي المحتاج. يقترن ظهور الفتوة بغياب السلطة المركزية المسئولة عن ضبط المجتمع، فالناس تحاول أن تجد بديل أو قائد محلي من بينهم، وتتنازل له عن بعض الاستقلال في مقابل حمايتهم.

ويذكر التراث أيضا أن كلمة فتونة ولوقت طويل كانت مرادفاً للأخلاق النبيلة والشهامة والفضيلة وهى شخصية حامى الحمى أو مغيث الضعيف فكان من مهامهم تنظيم الأمن فى الأماكن التى يحمونها حتى أن الدولة حين أنشأت أقساما للشرطة لجأت إليهم فى بداية الأمر عندما طافت تريد القبض على أحد الخارجين إذا كان يختبىء بحارتهم.

الفرق بين نموذجين :

يخلط كثير من الناس بين كلمة «فتوة» وكلمة «بلطجى»، رغم أن الفرق بينهما شاسع وكبير، فالأول رمز الشهامة والجدعنة والمروءة والنجدة والإنصاف والإقدام والطيبة ويُنسب إلى الشباب والفتوة، والثاني رمز الشر والإجرام والخسة والنذالة والانحطاط والظلم ومنسوب إلى أداة هى «البلطة».


الفتوة قبل الإسلام


والفتوة نظام قديم، فقد كان من فتوات الجاهلية الشاعر الكبير «عنترة بن شداد»، الذى ذهب بمفرده إلى أرض الملك النعمان وهاجم حرس الملك واستولى على أربعين ناقة من النوق الحمر كمهر لعبلة حسب رغبة أبيها..

 ومن فتوات الجاهلية الذين لحقوا بالإسلام «عمرو بن معد كرب»، الذى عاش مائة وعشرين عاماً، ستين فى الجاهلية ومثلها فى الإسلام. وكان ذا بأس شديد، فعندما أحب فتاة من أهل الجزيرة العربية تقدم للزواج منها، ولم تكن قد سمعت به فقالت بسخرية إنه لا يقدر على مهرها، فسألها عمرو على سبيل الفضول عن مهرها، فقالت كبد الأسد موصوف لأبى لأنه مريض، خرج عمرو من عند الفتاة آسفاً لسوء ظنها به، فهو يعلم أن قوته قوة أسدين معا وليست قوة أسد واحد، وعاد عمرو فى الصباح إلى بيت الفتاة ودعاها لرحلة صيد، وعندما اقتربا من الجبل نزلا من فوق الجبل وألزمها مكانها بينما التف هو حول الجبل، ووقف أمام كهف به ولحظات وخرج أسد، سمعت الفتاة زئير الأسد فكادت أن يغشى عليها، واشتبك عمرو مع الأسد فى معركة غير متكافئة مزق خلالها عمرو جسد الأسد واستخرج كبده وناوله للفتاة التى كانت ذاهلة مما تراه، فابتسم عمرو وتزوج بالفتاة التى لم تكن قد سمعت بأنه من فتوات العرب.






الفتوة فى الإسلام

يعتبر على بن أبي طالب هو أبو الفتيان لتوفر فيه كل صفات النبل والشرف والفروسية، وبالتطبيق عليه تجد معناها في الكرامة ونجدة الضعيف والأريحية والدفاع عن المظلوم وغيرها.
وللنبى صلى الله عليه وسلم حديث متواتر فى فتوة على بن أبى طالب بعد أن نال من عمرو بن ود فى معركة الخندق أو الأحزاب 5هـ فقد قال صلى الله عليه وآله وسم (( لا فتى إلا على)).

ظهور الفتونة

في نهاية عصر  السلاطين المماليك بين نهاية القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر، لم تعد هناك دولة وظهرت تشكيلات عصابية كبيرة تضم ما بين 300 أو 400 رجل ينهبون الأسواق، ومن هنا أصبح الناس فى حاجة لم يقف فى وجه تلك العصابات الاجرامية فى غياب السلطة المركزية، ومن هنا ظهر الفتوة كمخلص طبيعى من سواد الناس يدافع عنهم ويحميهم ويقيم العدل والمساواة بينهم ويقيم من نفسه سلطة على المكان الذى يقوم بالحماية فيه .

 فبدأ الفتوات فى الظهور وتكوين  فرق للدفاع عن أحيائهم بالإضافة للدور المنوط بهم من البداية وكان إغلاق البوابات في المساء وإنارة المصابيح والتفتيش عن الأغراب. وشيئا فشيئا أصبح لكل حي أو مدينة في القاهرة والإسكندرية - وهي أكبر المحافظات وقتها - فتوة أو فتوات يحمو الأهالي.

مواقف وطنية



وقد تعرض المؤرخ ابن إياس فى كتابه «بدائع الزهور فى وقائع الدهور» لهؤلاء وأسماهم بالحرافيش واشتهروا بمصارعة الرجال وإجادة القتال والمهارة العجيبة فى الكر والفر وأنهم لايهابون الموت.

ويرى ابن إياس أن فتوات القاهرة لهم مواقف تشهد بالوطنية وتدل على الشهامة والجدعنة كما أن لهم مواقف انتهازية لا تتفق مع أخلاق أولاد البلد فحين التقى السلطان المملوكى قنصوه الغورى مع العثمانيين اصطحب معه الحرافيش أى فتوات ذلك الزمان وزحفوا لملاقاة العثمانيين وظهروا في مقدمة صفوف الرجال، كما أنهم وقفوا بجانب السلطان طومان باى بعد أن وعدهم بأن كل من يقبض منهم على عثمانى ويقطع رأسه ويسلمها إليه سينعم عليه بسيف وترس وينفق عليه.

كما تحدث ابن إياس عن هؤلاء ودورهم فى عزل الباشوات ومطالباتهم بالإتاوات منهم ورفع الظلم عن الشعب مما جعل بعض الولاة يعمل على كسب تأييدهم.

ويعرض هؤلاء أيضا لهم مواقف مشرقة وتحدث عن ذلك المؤرخ عبدالرحمن الجبرتى فى الجزء الثالث من كتابه عجائب الآثار فى التراجم والأخبار فأشار إلى إنه خلال ثورات القاهرة ضد الفرنسيين تكونت منهم فى أحياء الحسينية والعطوف والقرافة وعرب اليسار فرق للمقاومة، كما قام هؤلاء بدور حاسم خلال ثورة القاهرة الثانية 1800م حين قاتلوا الفرنسيين بكل بسالة وتم القبض علي زعمائهم وإيداعهم السجون وضاق نابليون ذرعاً بهم فأطلق عليهما الحشاشين والبطالين وحذر الناس منهم.

وكان يصدر منشورات توزع على الشعب قائلاً: «إياكم يا مصريين وسماع كلام الحشاشين البطالين».


الفتوة فى زمن محمد على
حين بزغ نجم محمد على ورأى زعماء الشعب أن يتم تنصيبه واليا، شارك فتوات الحسينية فى الحركة الشعبية التى قادها عمر مكرم وأسفرت عن توليه حكم مصر عام 1805م، وكان من زعمائهم حجاج الخضرى وابن شمعة.
وفى عهد محمد على تم تقسيم القاهرة إلى ثمانية أقسام، وأطلق أهل البلد على قسم الشرطة «التمن». وكانت مقسمة إلى مناطق نفوذ، ولكل منطقة أو حى فتوة يحميه بمعاونة بعض أعوانه، وكان يطلق عليهم «المشاديد»، أى الذى يتشدد له، وعندما كانت تحدث مشاجرة بين شخصين يقول أحدهما للآخر (أضربك إنت واللى يتشددلك).. وكما قال الشاعر «شفيق سلوم» مفتخرا بالفتوات:



أهو دا تاريخك يا بلد أهو دول فتوات البلد
بذروا بذور المجدعة من غير مياصة ودلع
قالوا لها قولة بس إيه ما تشدى حيلك يا بلد
كان الفتوة له حدود وكان على الغلبان يجود
وكان على حيه يذود فى السيدة وشبرا البلد
أهو دول فتوات البلد.

مقاومة الاحتلال الانجليزى

وعندما استولى جنود الاحتلال البريطاني على مصر فى 11 يوليو 1882م، كانوا قد وعوا الدرس الذى لقنه الفتوات للفرنسيين، فدفعوا بالبلطجية كى يتصدوا للفتوات وأغروهم بالمال والحماية، كما منحوهم جنسيات مختلفة حتى يفلتوا من القانون المصرى الذى لا يطبق على رعايا الدول الأجنبية، وكلمة «بلطجى» كلمة تركية معناها الشخص الذى يحمل البلطة، وكانوا دائما فى مقدمة الجيوش لأجل إزالة أشجار الغابات التى تعوق مسيرة الجيش، وكانوا يتميزون بقوة البدن والشجاعة، وسرعان ما عُممت الكلمة حتى أصبحت تطلق على الشخص الشرير الذى يحمل أى نوع من السلاح بخلاف البلطة.
مع بداية الاحتلال الإنجليزي، ترك المحتل الفتوات في حالهم حتى بدأ الإنجليز في بناء البوليس في مصر، فبدأ النزاع بين الجانبين، وكلما قوى البوليس ضعف أمر الفتوات حتى ثورة 1919 بعدها انضم الفتوات إلى حزب الوفد. ومع قدوم الحملة الفرنسية، اشتدت مقاومة الفتوات لها فبدأ جنود الحملة في هدم أبواب الحارات وفتح القاهرة على بعضها للإضعاف من سلطات الفتوات. حتى جاءت ثورة 1952 وظبطت الأحوال الأمنية للشوارع فانتهي عصر الفتوات.




الفتوة بين الحقيقة والاسطورة




يرى كثيرا من الكتاب والأدباء أن الفتونة اختراع مصري قديم، وجد أثره على البرديات المصرية التى تعود الى القرون الثلاثة الأخيرة ، وذكر على البرديات أنه شخص قوى قادر على المعارك ومصارعة الآخرين ومن ينتصر يصبح الفتوة ويغنى له الجمهور.

ويتم مبايعته من قبل المهزومين في صراع الاستئثار بالمنصب الرفيع فيقال له ونعم الفتونة فيرد قائلا ونعم الاخوة .

كما أرخت "الرواية المصرية" للفتوات وأشهرها روايات أديب نوبل نجيب محفوظ، والذي كان للفتوة دورًا هامًا فيها، يحكى فيها عن زمن "الفتونة" الجميل، الذى ولى ورحل مع رحيل مؤرخهم نجيب محفوظ الذى وضعهم فى مكانهم الصحيح، عاشور الناجى فى فيلم "التوت والنبوت" أحد أشهر الشخصيات التى تجسد شخصية الفتوة والتى قدمها الفنان "عزت العلايلى" ببراعة عكس خلالها أخلاق وشهامة الفتوة فى قدرته على حماية الفقراء واسترداد حقوقهم المنهوبة، السينما وروايات نجيب محفوظ ما كانت إلا انعكاس للواقع معبرا عن قصص أكثر الفتوات شهرة فى تاريخ المحروسة.










إرسال تعليق

0 تعليقات