آخر الأخبار

عاشت نبيهاليا حرة مستقلة






عاشت نبيهاليا حرة مستقلة



د. محمد إبراهيم بسيوني


فيلم البداية .. عاشت نبيهاليا حرة مستقلة، فيلم لصلاح أبو سيف ملك الواقعية السحرية. فيلم شديد سينمائيا، شديد إخراجيا، شديد فى موضوعه ورسالته.

تسقط طائرة بركابها بالقرب من واحة في الصحراء، ولأن الواحة تقع في منطقة معزولة، يحاول ركاب الطائرة التأقلم مع الوضع الجديد، ويحاول نبيه بك (جميل راتب) الاستفادة من الوضع الجديد، ويسيطر على الواحة وينصب نفسه حاكمًا لها ويسميها (نبيهاليا) تيمنًا باسمه، لكن يعكر صفو خطته المقاومة الشديدة التي يلقاها من بقية الركاب بقيادة الفنان الثوري عادل صدقي (احمد زكي).

يناقش الفيلم فكرة أن التسلط صفة أساسية في الجنس البشرى فكما بدأ الفيلم بمقولة: «حاولت أن أقدم فيلمًا خياليًا ولكني وجدته يأخذ شكلا من واقع الحياة يظهر ذلك التسلط في مجموعة بشرية سقطت بهم طائرة في واحة صحراء مصر، بينهم الفلاح والعامل والمثقف والعالم ورجل الأعمال الانتهازي الذي يفرض سلطة على موارد الواحة ممارسا حكما شموليا على هذه المجموعة من البشر مرتكزا على سلاحه وذكائه وجبروته».

فى وجود العملاق احمد زكى والمتألقان جميل راتب وحمدي احمد صارت المهمة فى منتهى السهولة.

 السهولة الممتعة دائما خصوصا عندما تعرف أن كاتب قصة الفيلم هو لينين الرملي.

 نحن الآن أمام فيلم سياسي من الدرجة الأولى .. سياسي صريح صرف ولا يحتاج لاى مجهود لاستنباط الرسائل والمغزى. طائرة وقعت فى واحة مهجورة فى صحراء مقفرة … الطائرة تضم أطياف مختلفة من البشر .. تستطيع ان تعتبره مجتمع صغير كامل.
- بطل اوليمبي .. عقله فى ذراعه .. فى إسقاط مباشر وواضح على قبضة الأمن القوية فى نظم الحكم الشمولية.
- فنان تشكيلى وناشط سياسي ذاق حلاوة المعتقلات من اجل أفكاره التقدمية المعارضة.
- إعلامية مشهورة ورجل أعمال رأسمالي صرف .. طرفين المقص المسئولين عن تقطيع أوصال اى وطن .. إعلام والمال.
- راقصه وفلاح أمي وطفل ذكى .. أطياف من الشعب بالإضافة الى المستقبل المبشر بالخير فى صورة الطفل الذكى.
- بالإضافة طبعا الى طاقم الطائرة .. القيادة التنفيذية الفاشلة .. طوال الفيلم كانوا مثال سيء للقيادة والتصرف .. ما عدا لمحة سريعة تخص قائد الطائرة .. لا ترقى الى مستواه القيادي.
الواحة بها ثروات "البلح" .. طبيعي جدا يحصل صراع على الثروة .. المدخل الأشهر والأسهل للحصول على الثروة هو السلطة ... فيكون الصراع على السلطة هو الظاهر للعلن بينما السبب الحقيقي هو الثروة "مخزن البلح".

 أطراف الصراع هى المال المتثمل فى جميل راتب الرأسمالي الماهر جدا فى إتمام الصفقات بكل الطرق المشروعة والغير مشروعة ... استطاع ان يحول لعبة تافهة صغيرة الى صفقة يشترى بيها الواحة كلها من باقى الناس ..

اشترى ما ليس من حقه من أناس لا يملكونه .. وأصبح حاكم للواحة بدون اى مجهود. بمعنى آخر .. استغفلهم وهم يضحكون .. وكانوا يظنون أنهم الذين يستغفلوه .. هنا لمحة ذكية جدا من المخرج .. يريد ان يقول “ انتبه .. لو فضلت غير مركز .. ستلبس فى ديكتاتور يسلب قوتك وأرضك ويستعبدك”.
هكذا أصبح الرأسمالي هو الحاكم بالقانون ..

 الخطوة التالية هي .. تدعيم السلطة. لابد لاي سلطة القانونية من قوة تحميها .. إخواننا المحاميين علمونا ان القانون هو حق تحميه القوة .. طيب صاحب الحق هنا ضعيف جسديا .. ما الحل؟؟ فطبيعى جدا انه يستميل نبيه بك البطل الاوليمبي "القوة” بمميزات زيادة عن باقى أهل الواحة .. شوية بلح زيادة فى مقابل حفظ الأمن .. تطبيقا للمثل الأشهر .. “الأمن عاهرة النظام أو جوع كلبك يتبعك”. هكذا اكتملت صورة نظام الحكم الشمولى فى الواحة .. حاكم منفرد بالسطلة تحميه قوة غاشمة تدين له بالولاء الكامل.
طرف الصراع الآخر هو العقل المنادى بالديمقراطية وحرية التعبير .. وهذا للأسف كلامه صعب على العامة ... جمهوره يكون مع الوقت ومع ارتفاع نسبة التعليم .. هناك علاقه عكسية بين التحرر والديمقراطية والحياة السياسية الصحيحة السليمة وبين مستوى الجهل .. لذلك قرر الحاكم المتغلب بالخديعة انه يستخدم اقسي سلاح ضد اى معارض، سلاح جهل الجمهور فى مجتمع اغلبه يتظاهر بالتدين ويعشق ان يبدو متدينا.

التكفير فى مشهد ولا أروع ... يحاول الرأسمالى الحاكم تنفير الفلاح البسيط والاوليمبي متوسط الذكاء "العامة من الشعب" من الكاتب المنادى بالحرية .. على أساس انه كافر ... ويرميه باتهام قاسى آخر هو انه ديمقراطى ... فينبهر الفلاح من هول الكلمة المجعلصة ... ويبسمل ويحوقل قائلا .. يا ساتر استر يارب ... ديموقراطى ... لا لا يا ولاد لا ... متوصلش لحد كده أبدا.

 ويطرق الحاكم على الحديد وهو ساخن مستغلا جهل الفلاح بالكلمة ومعناها قائلا ان ديمقراطى تعنى كافر ....والعياذ بالله. الاستعاذة بالله هى الضمان لوصول تأثير الكلمة على الفلاح البسيط ... طالما استعاذ .. يبقى هى كلمه حرام أو أبيحه. جرب كده تكلم حد محدود الذكاء وتقول له ان فلان ده على الصبح بيشرب استغفر الله العظيم كابتشينو أو اى كلمه أجنبيه .. طبعا علي طول هيفهم ان الكابتشينو ما هو ألا نوع من أنواع الخمور .. طالما فى استغفر الله العظيم قبلها .. يبقى العقل يتشل علطول واللي بعد كده أكيد حرام. أمال يعنى هيستغفر ليه ؟؟

 ويكسب الرأسمالي الظالم جولة ضد العقل .. بعد ان نجح فى استمالة العضلات الاوليمبية الغشيمة بالمميزات الزيادة .. ونجح فى استمالة متوسطى الحال بالدين... ونجح أيضا فى استمالة الصحفية اللامعة باللعب على وتر حساس عند اى صحفى وهو القرب من مطبخ الأحداث والانفراد بالخبطات الصحفية والمعلومات .. فى إشارة واضحة لدور الإعلام الفاسد فى تدعيم صاحب السلطة بغض النظر عن شرعيته .. اذا كانت الداخلية عاهرة النظام .. فالإعلام الفاسد تعجز عن وصف عهره كلمات اللغة بما وسعت. ويرفع الجميع الراية البيضاء للحاكم وتنسحق فكرة الديمقراطية تحت اقدام سيطرة الحاكم بالثالوث الأشهر القوه - الإعلام - الدين.
كل ما هو تالى من الأحداث عبارة عن نتيجة طبيعية للحكم المنفرد الشمولى الديكتاتورى.
اقتراح اسم للجمهورية الوليدة ... نبيهاليا ... نسبة الى اسمه ... نبيه بيه ... هكذا المستبد دائما .. يتصور ان كل شيء ينتمى اليه ويبدأ وينتهى من مقر حكمه ... ويأمر الفنان التشكيلى بعمل تمثال شخصى يخلد امجاده من العجوة ... كتكريس لفكرة ان كله شيء له وبه وانه الكل فى الكل. وأيضا فى اشاره الى ان ثروات الوطن فى ظل الحكم المستبد تذهب دائما الى خدمة شخص الحاكم. ويتم تسخير الكل لبناء قصر الإمبراطور .. كله بيبنى وهو فاكر ان هذا بيت كبير سيجمعنا كلنا. الحقيقة لا ... هذا بيت الحاكم لوحده.
طيب .. الناس هتعيش و تنام فين؟؟
مش مشكلتى.
و تمتلىء المخازن بالثروات .. ويقرر الحاكم وقف العمل .. خلاص .. مش عاوز منكم حاجه .. طيب هناكل منين يا ريس؟؟
مش مشكلتى.
هل يعقل ان ثروات الوطن تهدر فى تماثيل تمجد شخص الحاكم .. والجوعى والمشردين ماليين الشوارع؟؟
طيب الراقصة المصابة .. التي لا تستطيع ان تعمل .. فى إشارة الى آلاف الأسر معدومة العائل أو رقيقة الحال أو الغارمات أو الأيتام .. ماذا تفعل؟؟
مش مشكلتى.
ولا يكتفى الحاكم بالاستحواذ على السلطة والثروة معا ... لا .. يقرر انه يطمئن للمستقبل.. محاكمة غير عادلة للطرف المهزوم "الفنان التشكيلى المعارض" يكون هو فيها القاضى والنيابة والدفاع والشهود والخصم والحكم ... والحكم معروف مسبقا. هكذا تدار الأمور فى الأوطان المهزومة. الحكم يصدر بالإدانة .. ويعفو القائد المفدى.
ولانه لا يصح الا الصحيح .. المجموعة تضج من طريقة الحكم هده و يجبروا الحاكم على الخضوع للانتخابات.
صلاح ابو سيف يريد ان يقول هنا .. ان الحاكم لابد وان يخضع لطلب الجموع .. لن يستطيع أحدا ان يركب ظهرك الا ان كنت انت منحنيا.
وتبدأ العاب الحاكم لاستمالة الأصوات بالفلوس .. ولكن طبعا تفشل .. خصوصا بعد ما جربوه فى الحكم فعلا.
هل هيقبل الديكتاتور بلقب حاكم سابق؟؟
طبعا لا .. لا اعتقد ان فى تاريخ مصر كله حد أتشرف باللقب ده وفضل عايش .. محاولة فاشلة من الحاكم المعزول لاغتيال الحاكم المنتخب تشعل الأحداث.
الحاكم المستبد فى نظره كده .. انا او الفوضى .. يا أحكمكم .. يا أولع فى الواحة كلها.
أحداث سهله والإسقاط فى منتهى الوضوح .. المخرج عاوز يقول انه لا سبيل للحكم المستقر الا الديمقراطية .. ولا سبيل للتقدم وانجاز شيء فى الحياة الا مشاركة الآخرين فى مائدة الطعام.
لو كلت لوحدك .. لازم تزور .. خصوصا اذا كانت عيون الجوعى بتبصلك فى أكلك.
الكلام هذا كان سنة ١٩٨٦ ... على هامش صراع السلطة هذا .. يقرر قائد الطائرة انه لن يستسلم لليأس والموت فى الصحراء ويبدأ مشواره فى إيجاد النجدة ... وينتهى الفيلم فعلا بنجاح محاولته ورجوعه لانتشال الفرقه الضائعة ... ويركبوا كلهم الطائرة ماعدا الحاكم المستبد ... تركوه لوحده في الواحة ... عايز تحكمها لوحدك ؟؟ ... طيب ..خدها اهى .. كلها ليك لوحدك .. بس من غير ناس. فى اشاره ثانية واضحة الى ان الحاكم المستبد يلزمه شعب حتي يخرج عقده عليه ... انما لوحده ... اكيد لن ينفع. كمان يلفت نظرك ان الوحيد الذي نجح فى مسعاه وكان له تأثير فعلى ايجابى هو قائد الطائرة ... الذي خرج خارج دائرة الصراع تماما واتحرك بشكل ايجابى بدافع من الشعور بالمسئولية واخد خطوة فعليه حقيقية وخاض مخاطره حتي ينقذ المجموع... وفعلا انقذهم.
الاشاره هنا واضحه جدا .. لا سبيل للنجاح .. الا العمل الحقيقى.
صلاح ابو سيف اراد ان يقدم فانتازيا .. فقلب منه واقع غصب عنه مثل ما هو اعترف به فى نهاية الفيلم.
هل صلاح أبو سيف يريد ان يقول ان الطريق للحكم المستقر هو الديمقراطية و حرية التعبير ؟؟
هل يريد ان يقول ان أهل السياسة كلهم ليس فيهم أمل ... الأمل فى العمل الجاد فقط ... ابعدوا عنهم تفلحوا مثل ما فعل قائد الطائرة؟؟
هل يريد ان ينبه من خطورة اللعب بالدين فى السياسة للسيطرة على عقول البسطاء؟؟
هل يريد ان يقول ان اتحاد الأمن الغاشم مع الإعلام الفاسد مع السلطة هو الطريق للسقوط؟؟
هل انتبه صلاح أبو سيف مبكرا جدا لخطورة وجود رؤوس الأموال فوق كراسى السلطة؟؟
هل يريد ان يقول للحاكم ان الطريق لتأمين سنين حكمك هو الديمقراطية؟؟
اسئله كلها واقعية مشروعة ... تفرضها عليك سينما صلاح ابو سيف .. لا تتعب نفسك فى التفكير ومحاولة ربط الفيلم بالواقع .. هو مربوط بالفعل.


عميد طب المنيا السابق



إرسال تعليق

0 تعليقات