آخر الأخبار

عروبة مصر و امتحان التاريخ لغالي شكري





عروبة مصر و امتحان التاريخ لغالي شكري





غالي شكري (1935- 1998) كاتب وباحث وناقد ومؤرخ مصري اشتهر بأبحاثه وكتبه النقدية الكثيرة. حصل على الدكتوراه من جامعة السوربون في فرنسا عن موضوع “النهضة والسقوط في الفكر المصري الحديث”.
من مؤلفاته البالغة خمسة وأربعين نذكر:
“سلامة موسى وأزمة الضمير العربي” – القاهرة 1962، ويعد بمثابة دراسة وافية وشاملة عن مشروع سلامة موسى الفكري.
“أزمة الجنس في القصة العربية” – بيروت 1962، تميز بالجرأة والمقدرة على اقتحام آفاق جديدة وشائكة في النقد الأدبي العربي لا يقدر على اقتحامها – في ذلك الوقت – سوى ناقد قوي الحجة والمنطق والإرادة والثقافة. وهذه الدراسة هي الأولى من نوعها في أدبنا النقدي المعاصر. وقد تناول شكري قضية الجنس، وكيف عالجها أشهر الروائيين والقصاصين العرب المعاصرين، أمثال نجيب محفوظ، محمود البدوي، يوسف إدريس، إحسان عبد القدوس وسهيل إدريس. كما عقد فصلا مسهبا عن الإنتاج النسوي تحت عنوان “الضياع الحائر بين ليلى وصوفي وكوليت”.
 “شعرنا الحديث.. إلى أين” – 1968، تناول فيه نازك الملائكة، بدر شاكر السياب، عبد الوهاب البياتي، أدونيس، صلاح عبد الصبور، أحمد عبد المعطي حجازي، خليل حاوي، بلند الحيدري، أنسي الحاج.
 “ثورة المعتزل”- 1968، دراسة في أدب توفيق الحكيم.
 “الماركسية والأدب” – 1979.
 “المنتمي” – 1969، يعتبر أول دراسة جادة ومنهجية عن أدب نجيب محفوظ.
 “مذكرات ثقافة تحتضر”- 1970.
” أدب المقاومة ” – 1970. وفي هذه الدراسة أسهم غالي شكري في التنظير النقدي لأدب المقاومة، تناول فيها الكثير من الأعمال الابداعية الروائية التي تندرج تحت هذا المسمى.
 “معنى المأساة في الرواية العربية”– 1971.
 “ماذا يبقى من طه حسين”– 1974.
 “عروبة مصر وامتحان التاريخ”- 1974.
 “من الأرشيف السري للثقافة المصرية”- 1975.
 “عرس الدم في لبنان”- 1976.

“العنقاء الجديدة: صراع الأجيال في الأدب المعاصر”- 1977.
 “غادة السمان بلا أجنحة”– 1977.
 “الثورة المضادة في مصر”– 1978.
 “توفيق الحكيم، الجيل والطبقة والرؤيا”- 1986.
 “دكتاتورية التخلف العربي: مقدمة في تأصيل سوسيولوجيا المعرفة”– 1986.
 “أقواس الهزيمة”- 1989.
 “الأقباط في وطن متغيّر”- 1991.
 “نجيب محفوظ من الجمالية إلى نوبل”- 1992.
“برج بابل: النقد والحداثة الشريدة”- 1993.
 “الحلم الياباني”- 1994.
 “مرآة المنفى: أسئلة في ثقافة النفط والحرب”- 1978.
*****
عن مشروع غالي شكري الفكري كتب الناقد جابر عصفور: غالي شكري واجه سؤال النهضة من خلال كتابه “أقواس الهزيمة”. وحاول عبره أن يفكك معرفيًا العناصر التي تنطوي عليها صيغة النهضة. وأوضح عصفور: إن النهضة قامت وما زالت تقوم على أساس من ثنائية تجمع بين طرفين متعارضين، الأنا مرة والآخر مرة أخرى، الأصالة والمعاصرة، في مرة ثانية، والقديم والجديد في مرة ثالثة، التراث والعلم الحديث مرة رابعة وخامسة أو سادسة. هذه الثنائية التي تقوم عليها النهضة، بغض النظر عن تغير طرفي الثنائية، هي الموضوع الأساسي لكتاب غالي شكري “أقواس الهزيمة”، وهو من هذه الناحية استمرار لأطروحة غالي التي نشرها في كتاب “النهضة والسقوط في الفكر المصري” وهو يرى باختصار شديد: إن صيغة النهضة تحمل في داخلها بذرة للنمو، وفي الوقت نفسه تحمل جرثومة السقوط.
لم يقتصر دور غالي شكري في حياتنا الثقافية على اسهاماته النقدية والفكرية والابداعية – رغم أهميتها – فحسب، بل كان له أيضًا دور ملحوظ في قيادة العمل الثقافي من خلال إشرافه على الكثير من المجلات العامة والمنابر الثقافية مثل: “الملحق الثقافي الأدبي للطليعة”، “الشرارة”، “دراسات أدبية”، “الوطن العربي”، ومجلة “القاهرة” التي تحولت على يديه الى واحدة من أهم المجلات الثقافية العربية.
*****
في سبعينيات القرن العشرين لمع اسم غالي شكري وما أنجزه في ميادين عدة. وكان كاتب هذه الأسطر يُعِدّ لتأليف كتاب لم يُنجزعن اتجاهات الفكر السياسي في المشرق العربي. ولهذا تابع نشاطات شكري وقام بنسخ إلهام من ثلاثة كتب على دفاتره لاستخدامها في مشروعه الذي لم ير النور. هذه المقاطع والجمل المنسوخة حرفيا بخطّ يدي عن شكري في ثلاثة من كتبه، هي التي سأنقلها بتصرّف محدود إلى القراء، كي يطلعوا على الأجواء الثقافية في عقود خلت.
*****
لنستعرض مقتطفات من ثلاثة مؤلفات لغالي شكري هي:
1 – “ثقافتنا بين نعم ولا”– بيروت 1972
هذا الكتاب كما جاء على مغلّفه الخارجي “يكشف أوراق اللعبة الديماغوجية التي تلعبها بعض الأنظمة العربية لاغتيال الثورة وينزع كافة الأقنعة التي تتخفى وراءها هذه الأنظمة، بهدف احتواء الثوريين بل وسحب الأرض من تحت أقدامهم”.
ولنقرأ بعض صفحات هذا الكتاب:
 “ربما بات من المسلمات أن “الحرية المطلقة” كانت وستظل حلما أبديا جميلا للإنسان يراوده في اليقظة والمنام… في الغرب الإرهاب المقنّع… وفي الشرق الاشتراكي…. ترك فقر بلدانها المزمن وجهلها القهري بصمات لا شك فيها على المضمون الديموقراطي في التجربة الاشتراكية، لذلك وقعت الأخطاء المريرة… استغل الغرب الفقر الثقافي في الشرق وعمم خطايا إحدى المراحل على كل المراحل. فصوّر الاشتراكية وغياب الديموقراطية على أنهما وجهان لعملة واحدة”.
أما في بعض بلدان العالم العربي “فكان النموذج” الجديد “استيلاء العسكريين على السلطة السياسية وانفراد التنظيم الجامع المانع بالعمل السياسي العلني. وقد التقى هذا النموذج مع الاستعمار الجديد واختلف معه حينا”.
*****
الثقافة الوطنية الديموقراطية تمكنت من تقديم بعض الإنجازات
– ازدهار التيار العلماني، رفاعة الطهطاوي- لطفي السيد – قاسم أمين – طه حسين – العقاد – سلامة موسى – اسماعيل مظهر،
– تطور الفكر الديني المستنير، محمد عبده – علي عبد الرزاق – أمين الخولي – أحمد أمين – محمد أحمد خلق الله – خالد محمد خالد،
– ظهور الفكر الاشتراكي بفروعه الثلاثة: الفابية وداعيتها سلامة موسى، الاشتراكي الديموقراطي ومن أعلامه محمد مندور، لويس عوض، الماركسي ومثلته مجلة “الفجر” وما رافقها من النشاط الشيوعي في الأربعينيات.
*****
 “التخلف الحضاري البشع يلعب دورا سلبيا هو مؤازرة التقاليد غير الديموقراطية. وفي مصر بعد 1952 ألغى النظام المكتسبات الليبرالية البرجوازية، ولم يحل مكانها مكتسبات الديموقراطية الشعبية. والنظام (الناصري) شبه غائب على الصعيد الفكري حتى صدور الميثاق وبيان 30 مارس”.
*****
بين 1967 و1971 تبلورت في مصر مجموعتان من الظواهر:
1- الإيجابية
أ – الازدهار النسبي لأنشطة التعبير غير المباشر كالآداب والفنون،
ب- بناء المؤسسات الثقافية مثل المجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية،
ج- أصبح الفكر الاشتراكي من المحاور الرئيسية للتفكير العام.

2- السلبية
أ – انعدام الإبداع الفكري،
ب – الديماغوجية، وتحوّل الثقافة إلى دعاية أجهزة إرسال آلية للنظام،
ج – غياب الديموقراطية،
د – شيوع التحلل في القيم بين المثقفين، ففي ظل غياب التنظيمات الفكرية المستقلة حلّ محلّها السعي عند المثقف: أمانه الشخصي وضمان عمله.
*****
 “لا تقل أميّة المتعلمين خطرا عن أميّة الجهلة… عزوف الشباب عن الحياة العامة وعن روافد الثقافة الجادّة على وجه الخصوص… لقد حلّت آهات الطرب وكرة القدم محل الكِتاب والاسطوانة والفيلم والمسرحية”.

*****

وربما كان توفيق الحكيم في مسرحيته “السلطان الحائر” – القاهرة 1960- من أوائل من أشاروا وناقشوا مشكلة الشرعية والحكم الديموقراطي، واستعار العصر المملوكي لذلك.
اتخذ ألفريد فرج في مسرحيته “حلاق بغداد”- 1962- ديكورا شعبيا من ألف ليلة وليلة كمدلول ارتباط الحرية بـمصلحة الجماهير الواسعة من الشعب. وبلغ يوسف إدريس في “الفرافير” و”المهزلة الأرضية” سنة 1966 بالتجريد مرحلة الرفض التام لكافة الأنظمة السياسية.
*****
… القضية الثانية التي ترافق الحرية هي قضية العدل الاجتماعي، وقد تبناها في صراحة ووضوح كاتب مثل عبد الرحمن الشرقاوي، في مسرحيته “الفتى مهران”، التي نشرت على ثلاثة أعداد في المكاتيب نهاية 1965 وطُبعت في 1966، وفي روايته “الفلاح”- نُشرت في 1968، وكاتب مثل سعد الدين وهبة في مسرحيته “بير السلم وسكة السلامة”، وشاعر مثل صلاح عبد الصبور في “مأساة الحلاج”. ويتفق ثلاثتهم على أن مشكلة الديموقراطية في جوهرها هي مشكلة العدل الاجتماعي.
*****
وجّه غالي شكري عدة رسائل إلى العاملين في الأدب معبّرا فيها عن انطباعاته وهي التالية:


– أستاذي توفيق الحكيم… كانت “أهل الكهف” و”عودة الروح” و”شهرزاد” و”يوميات كاتب في الأرياف”، تجديدا ثوريا لا غش فيه لبنية الأدب المصري ورؤياه. ولكن ما تكتب في الفترة الأخيرة، بدءا من “يا طالع الشجرة” وانتهاء بمقالاتك التمثيلية مرورا بالرواية “بنك القلق”، إغراب يثير الدهشة وأقرب إلى الدعابة والدعاية.
– إلى الأستاذ نجيب محفوظ… إنك على عكس أستاذك توفيق الحكيم لا ترى في الأقنعة المثيرة ما يفيدك أو يفيد قرارك، لكنك ارتضيت لنفسك منذ البدء قناعا هو كل الأقنعة: تُجامل بابتسامتك العريضة كل من هبّ ودبْ. تكتب السيناريوهات لأردأ الأفلام المصرية، تسلم رواياتك لأبشع منتجي السينما، لا تنضوي تحت أي تنظيم مهما كان الاتفاق بينك وبينه في الأفكار والآراء. لكنك حين تمسك القلم لتكتب تبرز بين جوانحك شخصية أخرى تماما، شخصية أجرأ كاتب عرفته مصر في الحقبة الأخيرة، حتى قِيل عنك أجبن إنسان وأشجع فنان… فهل يمكن أن يصل بك انفصام الشخصية إلى هذا الحد؟..


– الأستاذ الكبير ميخائيل نعيمة .. قلتَ: إنك لا تستريح إلى الوجودية لفرديتها ولا تطمئن إلى الماركسية لماديتها وأنك شققت لنفسك طريقا خاصا بك…
– عزيزي نزار قباني.. كان يقيني ولا يزال أنك رأيت الهزيمة كالمرأة التي تحتل مركز الصدارة في شعرك السابق واللاحق. رأيتها من خارج الخارج ومن قشرة القشرة، فلم تر في واقع الأمر إلا نفسك، نرجسيا عندما تنظر إلى المرأة، ساديا عندما تنظر إلى الهزيمة… المقاومة ذلك هو الديكور الجديد، ولكن الذي يعنيك هم أولئك الذين لا يقاومون وإنما يكتفون بالقراءة عن المقاومة، تبرئة للذمة وإسكاتا لهذا الضوء الخافت من ذبالة الضمير… ” قتلناك يا آخر الأنبياء”.. ومددت جثمان عبد الناصر ورحت تمزّق بمهارة ما تبقى من عبد الناصر في حياتنا.
– وجّه غالي شكري عام 1971 ثلاث رسائل إلى صديق له ماركسي شجاع لا يمالئ السلطة. وجاء في الرسالة الثالثة: “…. والمشهد الثاني الذي يلح على خاطري حين وقفت وحدك أمام ذلك الحشد الهائل للاستماع إلى الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي يحاضر في القاهرة (وكان ممثلو السلطة يجلسون على المنصة الرئيسية) عن تعدد نماذج الاشتراكية. وقفت وحدك لتقول في شجاعة الأنبياء إن بلادنا (مصر) ليست نموذجا للاشتراكية، وإنما هيَ في أحسن الأحوال نموذجا جديدا لرأسمالية الدولة… ركّزت على غياب الحريات الديموقراطية وجشع الطبقة الجديدة في السيطرة على مقاليد الأمور مما يزيد في إفقار الفقراء وثراء الأثرياء وضياع حقوق الإنسان”..
*****
العثور على اتجاهين رئيسيين يحكمان حركة المسرح المصري المعاصر وهما: الاتجاه نحو التراث باسم الأصالة والاتجاه نحو الغرب باسم المعاصرة…
كانت الواقعية الإيطالية في بداياتها الرائدة عندما قرر كمال سليم أن يقتحم الحارة المصرية بالكاميرا التي طال تلكؤها بين إنهاء القصور وخفايا الحانات وكواليس التآمر “الأرستقراطي” على المال والجنس. دخل كمال سليم الحارة المصرية لا ليصور “أبناء البلد” بكاميرا السائح الحسن النية أو السيء النية والمغرم بكل ما هو قبيح. كما أنه لم يدخل الحارة المصرية ليصوّر فيلما سياحيا إعلاميا يضلل الحقيقة عن أنظار أصحابها. وإنما دخل كمال سليم حارتنا ليصوّر تلك الظاهرة الجديدة الطارئة على الحياة المصرية، ظاهرة الطبقات الشعبية المناضلة… بات ظهور مثله عملة نادرة في حياتنا الفنية.
إلا أن التطور الرئيسي للسينما المصرية قد أخذ المسار المعاكس لاتجاه كمال سليم.
وكان ظهور القطاع العام في تاريخ السينما المصرية أملا جديدا، قطاع عام تديره نفس العقول والقدرات التي عاشت حياتها في ظل القطاع الخاص.
*****
في الفن التشكيلي نستطيع أن نتعرف على خطين أساسيين، أُحِبُّ أن أسميهما باليمين واليسار بالمعنى الفني لهذا التعبير، لا بالمعنى السياسي.
فاليمين التشكيلي هو ذلك الانكباب المفرط على الأصول الفولكلورية والتراث القديم، لا بهدف اتخاذهما هيكلا عظميا يمكن ملؤه باللحم والدم المعاصر، وإنما بهدف ترسيخ مجموعة من القيم الفكرية والشعورية الثاوية في الأعماق والراقدة على بساط مريح من الأخيلة الأسطورية القديمة. ولا شك أن هذا التيار اليميني في الفن التشكيلي ينقسم إلى اتجاهات تتعدد بتعدد الفنانين ومراحلهم الإبداعية ومصادر تكوينهم من التفكير في السلف الصالح تفكيرا سياحيا كما نلاحظ على إنتاج رفعت أحمد الذي يمكن أن يباع في خان الخليلي، وتفكيرا دينيا كما نلاحظ على إنتاج راتب صديق الذي يتخذ من الأحداث الروحية الكبرى في تاريخ الإنسان إطارا جماليا لتصويره، وتفكيرا ميثولوجيا كما هو الحال مع عبد الوهاب مرسي، وتفكيرا عصريا إن جاز التعبير عمّا تنتجه الفنانة الكبيرة تحية حليم.
أما التيار اليساري فهو ذلك الإنتاج الذي يتجاوز التراث إلى روح العصر، قد يستخدم التراث كجسر، ولكن يتصل بأشواق العصر وأساه اتصالا مباشرا، كما نجد في الأعمال الأولى للفنان الراحل عبد الهادي الجزار، وأعمال الفنان حامد ندا. (كُتب في ديسمبر 1969).
****


الجيل العراقي الجديد يكاد يكون طابعه الفكري الغالب هو الانتماء إلى الاشتراكية العلمية، كما يكاد طابعه الفني يكون هو التجديد، أقصى درجات التجديد.
كانت مجلة “الكلمة”، التي أصدرها بعض الأدباء الشباب من النجف عشية الهزيمة عام 1967، تعبيرا صادقا عن أزمة الجيل الجديد الذي لم يجد في مجلة “الأقلام” الرسمية منبرا طيّعا لتوتره وتمرده. ونشرت “الكلمة” هذه التجارب الشعرية الجديدة لفاضل العزاوي وسامي مهدي.
ثم صدر العدد الأول من مجلتهم (أي الأدباء الشباب العراقيين) المتخصصة “الشعر 69” في أيار 1969 ولم يصدر منها إلا أربعة أعداد. لماذا هذا الانقطاع السريع؟.. لأن الطموح لا يكفي فهو بحاجة إلى مناخ حضاري وأدوات في البحث العلمي.
فالارتباط الشعري بالعصر في تصورهم يتناقض – وإن لم يصارحوا أنفسهم بذلك – مع الارتباط السياسي بالاشتراكية. وهم حلّا لهذا النزاع الخفي يميلون إلى تجريد الاشتراكية في تحليقاتهم الشعرية من “مشكلات الحياة اليومية”… الشباب العراقي هو بين حجريْ الرحى: الفن والسياسة (يونيو 1969)
*****


تحت عنوان “نحن جيل ضائع”، كتب شكري:

كانت الثقافة مجرد رد فعل للحضارة الأوروبية من ناحية، وللتراث العربي من الناحية الأخرى. وكانت الأحلام الفكرية للأجيال الثلاثة السابقة على حركة يوليو 52 (ثورة الضباط الأحرار، 1952) لا تكاد تتجاوز الحلم الليبرالي عند جيل الرواد (العقاد وطه حسين) والحلم الاشتراكي الديموقراطي (لويس عوض) عند الجيل الذي يليه والحلم الماركسي (نعمان عاشور، عبد الرحمن الشرقاوي، صلاح عبد الصبور) عند الجيل السابق علينا مباشرة. وهي في مجموعها أحلام الثقافة الأوروبية، كرد فعل للتخلف الحضاري المرعب، وانعدام التقاليد الديموقراطية في أسلوب الحكم، وقد مضت في خط سيرها جنبا إلى جنب مع الأحلام اليمينية المتطرفة كرد فعل مذعور أمام الحضارة الوافدة….
كانت هناك هوة زمنية تفصل بين ازدهار الحضارة العربية وبين اقتحام الحضارة الأوروبية لكياننا الروحي والمادي. وقد تسببت هذه الهوة الغائرة بظلمتها في وجداننا أن يتلمس مثقفونا الأوائل ركائز رفضهم وقبولهم للحضارة الجديدة في أقرب وسائل الإنقاذ. وكانت الثقافة الأوروبية هي الوسيلة المثلى لمن تقبّل هذه الحضارة، وكانت الثقافة العربية هي الوسيلة المثلى كذلك لمن رفضها…
أقبل الجيل الجديد والأحلام تتساقط الواحد بعد الآخر، والواقع الجديد له لغته الخاصة.
كان المثقف الليبرالي يناضل ضد الاستعمار والتخلف الاقطاعي ففاجأته حركة يوليو 1952 بالاستقلال الوطني وكان عليه أن يفرح، غير أنها فجعته في ليبراليته فحزن. وكان المثقف الاشتراكي الديموقراطي يناضل ضد الاستعمار والإقطاع والفئات العليا من البرجوازية فحققت له ثورة يوليو اقتصادا قوميا متقدما ولم تعبأ بمفهومه عن التقاليد الديموقراطية. وكان المثقف الماركسي يناضل ضد الاستعمار والاستغلال بكافة أشكاله ولم تتوار أحلامه مع واقع حركة يوليو، بل ارتبطت وتناقضت في أحيان كثيرة. وقد خلق هذا الواقع من أعظم أبناء الأجيال الماضية أبطالا تراجيديين منقسمين على أنفسهم بين “لا” و”نعم”. وكان من الطبيعي ألا يتلقف الجيل الجديد حلما من أحلامه وبخاصة سقوط المدن الفاضلة أمام عينيه وفوق رأسه وهذا ما دفعه إلى الشك…
… وعربد الشك في وجدان الجيل الجديد حين انهار المَثل الديموقراطي في الغرب ولم يولد بديله في الشرق، بل وحين انقسم الشرق الاشتراكي على نفسه انقساما مريرا، بحيث يمكن أن نفهم “الفوضى” في صنوف التزييف الخدّاع التي تقفز من معسكر إلى آخر.


… ذلك أن ضياع جيلنا هو الثمرة الشرعية لسقوط منطق قديم للفكر وعدم قيام منطق جديد يحل مكانه. هذا السقوط الذي يعانيه العالم المعاصر بأسره، والبلدان المتخلفة على وجه الخصوص (كُتب في سبتمبر 1969)
فالقبيلة والبداوة والطائفية وغيرها من أدران العصر الوسيط أو ما قبله، لاتزال قِيما أساسية في تكوين أجزاء عريضة من الوطن العربي… بالرغم من الاستقلال الرسمي وإعلان الاشتراكية دستورا، وهناك نوع من الازدواجية والبلبلة والتمزق: الواجهات المعلنة تهتف للاشتراكية مثلا – والسلوك العملي يطبق قِيم الإقطاع والقبائل والشِيَع والبرجوازية (كُتب في ديسمبر 1969)
2 – “ثورة الفكر في أدبنا الحديث”- القاهرة 1965
كرّس غالي شكري في هذا الكتاب فصلا تحت عنوان: “حرية الفكر من الحلم الليبرالي إلى نظرية الثورة”، جاء فيه:
… وبالرغم من أن المؤشرات الأجنبية في الفكر العربي الحديث تمتد إلى تلك البذور التي جلبها رفاعة الطهطاوي وأحمد فارس الشدياق وغيرهما، إلا إن نباتات البذور لم تعرف النمو والازدهار إلا خلال المعارك العنيفة التي حدثت فيما بعد بين رواد الحرية والتقدم من جهة وبين دعاة الجمود والاستقرار من جهة أخرى.


ولعل نظرية التطور كانت الوقود الرئيسي. فقد تخصص شبلي شميل في نقل الداروينية عن المصادر المؤمنة بالفلسفة المادية. حارب شميل الغيبيات مما أثار بينه وبين الأفغاني سجالا حارا، فالصراحة القاسية لشميل باعدت بينه وبين الجمهور العربي في مصر. نشب أيضا خلاف بين فرح أنطون، الذي ترجم كتاب رينان عن المسيح، ومحمد عبده من ناحية أخرى، مما اضطر فرح أنطون للفرار من مصر إلى الخارج.
*****
جردة مما كتبه شكري حول حرية الفكر:
“في الشعر الجاهلي” لطه حسين، وتحت الضغط تراجع عن بعض منطلقاته.
“الإسلام وأصول الحكم” لعلي عبد الرزاق، عقابه الطرد من الأزهر
سلامة موسى دافع عن حرية الفكر في كتيبه “مقدمة السوبرمان” عام 1910، و”الاشتراكية” عام 1912. وفي عام 1920 أسس الحزب الاشتراكي الأول في العالم العربي . وفي عام 1927 صدر له كتاب “حرية الفكر وأبطالها في التاريخ”.


بعد سلامة موسى بجيل جاء خالد محمد خالد. كان كتابه “من هنا نبدأ” بمثابة البداية التي أعلنت اتجاهه الديموقراطي. ولكنّ هيئة كبار العلماء فصلته عن زمرتها. وتصدى له أحد أعضائها الشيخ محمد الغزالي في كتاب عنوانه “من هنا نعلم” كان استعداء صريحا أكثر منه مناقشة علمية.
ومع أن طه حسين تراجع عن كتابه “في الشعر الجاهلي” إلى “في الأدب الجاهلي” حاذفا منه ما أحدث التصادم، فإن خالد محمد خالد لم يتراجع ولعل كتابه “الديموقراطية أبدا” عام 1953 هو أول نداء مباشر إلى ثورة يوليو. وكان كتابه “في الثورة كانت الكلمة” 1961 هو النداء الثاني. كما كان كتابه الذي صدر تحت عنوان “أزمة الحرية في عالمنا” هو النداء الثالث. وخالد محمد خالد يتوقف عند العموميات التي لا تتطلب منا سوى حرارة الاقناع الوجداني لكي ينقل إيمانه إلى قلوب الآخرين… بعده جاء محي الدين محمد من السودان، الذي جاءت كتاباته منذ 1959 إلحاحا متصلا على قضية الحرية الفكرية.
*****
في فصل آخر كتب غالي شكري:

ليست المزاوجة بين الوجودية والاشتراكية جديدة على الفكر العالمي الحديث… فبعد أن كان المفكر المجري جورج لوكاتش يتساءل في حزم “ماركسية أم وجودية؟” ويقرر الفرنسي جارودي “الوجودية فلسفة الاستعمار” ويكتب كانابا “الوجودية ليست فلسفة إنسانية”، كان المفكرون الوجوديون يردون التحية بعشرة من أمثالها…أضحينا نستمع إلى سارتر وهو يقول: إن الوجودية هي طريقة لفهم الماركسية، وإن الماركسية هي الصورة الثورية الوحيدة للعالم المعاصر…حتى أن بعض المعلقين في الغرب يفسرون الالتزام الوجودي للأدب على ضوء الفهم الشيوعي، وأصبحوا يصفون سارتر بالاحمرار.
وهذه المزاوجة ليست غريبة على الفكر العربي الحديث. فبعد أن تأثر فريق من شبابنا العربي المثقف منذ 1950 بالاتجاه الوجودي في التفكير، أخذوا بعد أن طحنتهم الأزمة الاجتماعية خلال هذه الفترة في البحث عن حل. فكانت الاشتراكية هي الحل الوحيد. لهذا السبب تأثر أولئك الشباب بتيار المزاوجة بين الوجودية والاشتراكية. أولا لأنه كان من العسير التخلص من “المزاج” الوجودي في التفكير بعد الامتزاج الدموي لفلاسفتنا، ولأن الاشتراكية التي يزاوجون بينها وبين الوجودية ترفض الكثير من المبادئ الماركسية التي ترفضها الوجودية أيضا. أحمد حيدر في كتابه “طريق الإنسان الجديد بين الحرية الاشتراكية” سار في طريق التزاوج.
هذا غيض من فيض من نتاج الموسوعي غالي شكري، الذي أشار في أكثر من مكان إلى تحوّل الشعراء الاشتراكيين إلى الميتافيزيقيا بسبب الاضطهاد.


3 – “التراث.. والثورة”- بيروت 1973
في مجال الفن ثار السلفيون في أوائل الخمسينيات على الشعر الحديث الذي خرج على العمود الخليلي خروجا نسبيا…
في عهد المراهقة الفكرية للفكر الثوري رفض التراث جملة وتفصيلا ومضمونا (هذا في مصر حسب رأي شكري، أما في الاقطار العربية الأخرى فلا أستطيع الجزم لأن معرفتي بالشعر شبه معدومة). في مرحلة لاحقة انكبّ (الفكر الثوري) يُسقط على التراث أفكاره الخاصة، فلم يستطع رؤية “واقع التراث” وإنما اتخذ من بعض أعلامه وحوادثه “شواهد” على صحة فروضه المعاصرة. وفي مرحلة وسطى كان الموقف خجولا “مذعورا” في مناقشة التراث.
ويرى شكري أن “الثورة لا تستكمل مقوّمات وجودها بدون تراث يحميها ويغذي بقاءها”.

فالتراث في جوهره ليس مجموعة من المسلمات أو البديهيات، بل هو مجموعة من الإجابات على أسئلة طرحها الوجود على السلف.


ويستطرد شكري معرّفا الأصالة بأنها الواقع بكل ما يشتمل عليه من عناصر ومن بينها التراث، والمعاصرة بأنها استخدام المنهج العلمي في التفكير، ويظل “الواقع” معيارا وحيدا للرفض والقبول.

ويعرض شكري ما قام به توفيق الحكيم فيقول:

“توفيق الحكيم اكتشف أن بعض قوالب الأدب والفن الغربي- كالرواية والمسرح – قادرة على تجسيد فن الواقع حتى ولو لم يكن التراث قد عرف هذا الشكل أو ذاك. الواقع كان البوصلة التي وجهته نحو الغرب من ناحية الشكل، ونحو التراث الفرعوني والمسيحي والإسلامي من ناحية الرمز، ونحو الثورة الوطنية الديموقراطية من ناحية المضمون. (أمثلة من عودة الروح – يوميات نائب في الأرياف – أهل الكهف)”.
ويقول شكري: ليست الأصالة في أن نحتفظ بالخرافات (الطلب من الموتى الأولياء)، بل إن الأصالة الحقيقية هي رفض هذا التراث وهدمه، مقدما (رسائل الإمام الشافعي) للتوضيح.
*****

وجهات نظر في التراث:


الوجهة الليبرالية: د. زكي نجيب محمود (“تجديد الفكر العربي”).
الوجهة الثورية: د. الطيب تيزيني (“مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط”).
3. التراث الشعري بين أيدي المجددين: علي أحمد سعيد (أدونيس) في “ديوان الشعر العربي”.

4. الأدب المقارن وهو غربال التراث. في أواخر 1964 نشر د. لويس عوض في سلسلة فصول نقدية مقارنة “على هامش الغفران”. فتلقى هجوما رجعيا ضاريا على صفحات مجلة “الرسالة”. فعلّق شكري بأنّ السلفيين يتصورون التراث بمعزل عن المؤشرات الأجنبية. ويقدم أمثلة: دانتي تأثر بالمعري في “رسالة الغفران” وبقصة المعراج. كما أنّ أبو العلاء أفاد من التراث اليوناني واللاتيني.

5. صراع المتناقضات في صفوف الفكر العربي. وهو متأثر بعوامل مثل قضية التفاعل الحضاري بين الشعوب (أخذ وعطاء)، الموقف بين المستشرقين (علماء ولكن ذوو نوايا خبيثة)، الموقف العملي في التراث المتداول:


أ – التراث للتراث أم التراث للحياة،
ب – لقاء مباشر مع الفكر الغربي. فقد درجت مجلة “الطليعة” (المصرية) على استضافة عدد من كبار مفكري الغرب: روجيه غارودي، 1969 ومكسيم رودنسون، 1969،

جـ – القديم والجديد في الأدب والفن،
د – التراث بين موقع السلطة وموقع الفكر في حوار مع القذافي في نيسان 1972 نظمته ندوة “الثورة الليبية”. وقد تمثّلت في الندوة تيارات الفكر الثلاثة:
– حضاري، توفيق الحكيم، لويس عوض، حسين نوري،
– إسلامي مستنير، عائشة عبد الرحيم.
– يساري، محمد سيد أحمد.
هـ- الأصالة والتجديد في الثقافة العربية المعاصرة. وتحت هذا العنوان استهلت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم مؤتمرها في سنة 1972.
وأخيرا يعرض غالي شكري وجهات النظر المختلفة في قضية التراث:


1- التيارات الإسلامية:
– تيار يرى في القرآن -لا في التاريخ الإسلامي – الفكرة الأولى المجردة للسعي لاكتشاف منجزات التاريخ الإنساني بين صفحات النص الإلهي. وتبنى هذا التيار الطبقات الرجعية الموغلة في التخلف.
– تيار يرى التراث الإسلامي أكثر شمولا من القرآن ينضم إليه الفكر الإسلامي على مدى التاريخ (تطبيق الشريعة تطبيقا مرنا – دور الفكر البشري في صياغة التراث الإسلامي.. ناقلا الحديث الشريف: أنتم أعلم بشؤون دنياكم). تبنى هذا التيار الشرائح المطحونة من البرجوازية الساعية لإيجاد معادلة بين الثورة الاجتماعية والعصرنة وبين عدم السير في الثورة حتى النهاية.
2- التيارات الليبرالية
– تيار إنساني ينظر إلى التراث على أنه التاريخ المادي والمعنوي للبشرية. هذا التيار استمرار لعصر التنوير الاوروبي. وقد انتهى زمنه.
– تيار عربي يرى في التاريخ العربي تراثنا المنفتح على الفكر العالمي، قديمه وحديثه. وهو تيار وسطي بين الليبرالية والإسلامية.

3- التيارات اليسارية


– تيار يدرس التراث في سياقه التاريخي.. وهو رد فعل على مناورة الرجعية.. وأحيانا يوفق بين الاشتراكية والإسلام.


– تيار تناول العقيدة الدينية: نقد الفكر الديني لصادق جلال العظم، الحركات السرية في الإسلام لد. محمود اسماعيل فرد عليه أحمد موسى سالم. وكذلك د. مصطفى محمود نشر عام 1957 كتاب “الله والإنسان”، ولكنه سرعان ما مُنع. واللافت للنظر أنّ محمود اسماعيل تاب واتجه نحو اليمين.




إرسال تعليق

0 تعليقات